أفقت، ودون تماطل قفزت من الفراش، تماما مثلما كنت أنهض طفلا صباح يوم العيد، إحساس ظننته اندثر مع اختفاء الطفولة في ماض سحيق...وهاهو يعود ، بعد عشرات السنين... لم يتغير شيء ، الطفولة مستمرة والأعياد متواصلة ، أنا فقط من تغير أو تغيب... تهت طويلا في زحمة تائهة بدورها، تناثرت مع السنوات في صحراء البحث عن مبرر لوجودها...رحلة تيه فقدت فيها كل متاعي..إلا ضوء خافت ظل يشع في مكان ما في قاع روحي ربما...ضوء كان يمنحني ثقة عمياء بأني لا بد أخرج من جوف الحوت الرملي... بحماس وهمَة عالية أعددت كأس شاي أخضر، نعم ...شاي أخضر، وليس القهوة السوداء المعتادة . منذ اليوم سأحترم تعليمات الطبيب، فهناك فعلا ما يستحق الحياة، وأنا أريد الآن أن أعيش مستمتعا بصحة تمكنني من التلذذ بما تبقى لي من عمر . إذن لا قهوة بعد اليوم، لا دهون ولا أكل بعد منتصف الليل وفي محلات الأكلات الجاهزة ، لا تدخين بعد اليوم ولا فودكا مهما كانت المناسبة....فلدي الآن مبررات مقنعة تشق الصخر في صلابتها لأحافظ على سلامة جسمي وعقلي... وعلى غير العادة أيضا ، لم أجد في نفسي أي استعداد لفتح القنوات الإخبارية، لا أريد أن ينتكس مزاجي المرح بأخبار العهر السياسي وثمنه الدموي من المحيط إلى الخليج، وقوادو العالم يتنافسون في بورصات النخاسة حيث بلغت أسعار أرواحنا أدنى مستوياتها في تاريخ وجودنا..لا ..لا أريد ..لذلك أيضا لم أشأ أن افتح رسالة إلكترونية وصلتني من صديق عزيز، من اولئك الذين يطلق عليهم "عرب 48" ، فقط لأن ذلك سيرميني مباشرة عقلا وروحا في مستنقع كل تلك "الأشياء السيئة" التي لا أجد لها حتى وصفا ملائما، تلك الأشياء التي لا تحدث حتى في الكوابيس الأكثر رعبا وعبثية و....لا ..لن أفتحها..ولأواصل عيدي... لذلك وبدل كل ذلك، فتحت هديتك يا عزيزتي ، أصغيت في حبور إلى وصايا درويش عن حب الحياة...مع آخر كلمات القصيدة كنت أحضن الحياة بحنو واحترام شديد وأراقصها على إيقاع "زوبا" .... تجردت من ثيابي، وقفزت إلى الحمام ، تحت رشاش الماء تفجرت مواهبي في الغناء أو الزعيق ، الأمر سيان، وانطلقت حنجرتي بكل ما تملكه من إمكانيات مرعبة تصدح أو تصرخ، الأمر سيان أيضا، بأغاني وأهازيج شعبية من عيطة وعبيدات الرمى وغيرهما مما لا أدري من أي لا وعي "فرويدي" طفت إلى سطح وعيي تحت الماء...وبدون إشعار وجدتني أردد أناشيد قديمة من تلك التي كنا نرددها في المخيمات الصيفية... انسللت من تحت الماء وأنا أتابع دندنات حمداوية، مسحت عن المرآة الضخمة الضباب المتراكم عليها ونظرت إلى وجهي، سلمت على نفسي وهنأتني بالعيد..رددت التهنئة على نفسي بمثلها وباحترام مضحك في جديته. صار وجهي يشبه وجه إنسان يوم العيد ، وعيناي بدا واضحا أنهما بدأتا الاحتفال مبكرا قبل الجميع . انتبهت أنه كان لابد من لمسة أخرى لا تقل أهمية ضمن هذه الطقوس...الحلاقة . قمت بها بمهل وأناة، على غير العادة، بعدها وضعت كولونيا أهديت لي ذات مناسبة...تعطرت وارتديت ملابس داخلية تنبعث منها رائحة معطرات الغسيل... كان عليَ أن أسرع قليلا، حتى أصل الأول إلى الموعد، هل يعقل أن تصلي قبلي، لا إطلاقا ، هذا مناف لتقاليد الشهامة والاحترام والإيتيكيت. ارتديت ملابس أنيقة، حرصت ألاَ تكون مغرقة في كلاسيكيتها، حتى لا أبدو ضاربا في عمق الوجود البشري. حشرت قدماي في الحذاء المخصص للمناسبات الهامة والأعياد، نظرت إلى المرآة الكبيرة..أحسست ببعض الرضى، بعد أن غضطت الطرف طبعا عما أفسده الدهر.. توجهت بخطى واثقة ، رغم خفقان خفيف أحسه في قلبي، نحو مقعدي الذي اصبح فجأة وثيرا أكثر من العادة..فتحت الكمبيوتر وشققت طريقي مباشرة إلى مكان موعد لقاءنا .. لم أحمل معي أي هدايا يا عزيزتي...ليس معي شيء ، سوى ذلك الضوء الخافت الذي قادني من الصحراء حتى إليك....