موضوع هذا المقال هو الاختلاف الذي حصل حول "الشأن الجاري" في مصر بين التيار الإسلامي من جهة وبين التيار العلماني واليساري من جهة أخرى. أقسم هذا المقال إلى تمهيد و ثلاثة أقسام. أجدني في التمهيد مضطرا للحديث عن مسوغات الاهتمام بالحدث المصري. في القسم الأول سأعرض طبيعة ما حدث في مصر خلال نهاية يونيو وبداية يوليوز 2013. سأشير في القسم الثاني إلى المبررات التي يسوغ بها اليسار امتناعه عن التضامن مع ضحايا مجازر الحكم الانقلابي في مصر. في القسم الثالث سأعرض نتائج هذا الامتناع. (تنبيه: الحديث هنا عن اليسار وعن التيار العلماني، لا ينفي أن هناك طيف يساري وطيف علماني أفرادا وهيئات كان لهم موقف يشع بالوفاء للديمقراطية ولحقوق الإنسان. وعليه لا يجب أخذ الحديث بالتعميم) تمهيد: لماذا الاهتمام بالحدث المصري؟ إن هذا الاهتمام يفرضه أمران. الأول هو أن هذا الحدث أصبح بقوة الأشياء حديث المغاربة، ولهذا فقد صار لزاما على كل فاعل في أوساط الجماهير أن يحدد موقفه من هذا الموضوع الذي يشغل بال هذه الجماهير. والثاني هو أن الشعوب والدول لا تمتلك رفاهية عدم التأثر بما يحدث لدى شعوب أخرى، خصوصا إذا كانت هذه الشعوب تربط بينها علاقات تاريخية وجغرافية وثقافية لا يمكن لإرادة الأفراد أن تنكر وجودها في الواقع وفي الشعور العام للناس. وخير دليل على ما للحدث المصري من أثر على المشهد السياسي (على الأقل) في بلادنا، هو أن المخزن كان من السباقين لتهنئة قادة حكم 30 يونيو بتسلم الحكم؛ بل إن هذا التغيير السلبي في مصر يقدم دعما للنظام المخزني ويعطيه جرعات جرأة كبرى، للتخلص من الهلع الذي أصاب كل الانظمة المستبدة إبان الحراك الديمقراطي، والتخلص من شبح الحراك الشعبي العشريني. وخير ما يعبر عن هذه الجرأة والطمأنينة هو خطاب 31 يوليوز 2013 الذي يمثل قطيعة مع الخطابات والشعارات التي كانت تدعي الاستجابة للحراك الشعبي العشريني (خطاب 17 يونيو 2011). إن ما يحدث في أي قطر من الاقطار العربية والمغاربية، ليؤثر بشكل قوي على الأوضاع الداخلية لأي قطر قطر. لأجل كل هذا إذن صار من الواجب على الجميع الاهتمام بالحدث المصري. I- 30 يونيو، انقلاب أم ثورة أم انتفاضة؟ اختلف الإسلاميون واليسار حول طبيعة ما حصل يوم 30 يونيو. فقد اعتبر اليسار أن ما حصل هو ثورة شعبية، في حين اعتبر الإسلاميون أن ما حصل مجرد انقلاب. يمكنني الزعم بأن الأطروحتين معا خاطئتين؛ وسبب الخطأ هو أن الأطروحتين معا تقدمان قراءة استاتيكية جامدة للحدث. إننا اخترنا أن ننظر إلى الحدث المصري نظرة دينامية، ترى فيه نوعا من التفاعل الاجتماعي بين مكونات داخلية تتفاعل فيما بينها، بنفس القدر الذي تتأثر فيه هذه المكونات الداخلية بمؤثرات اجتماعية خارجية عنها. إن حدث 30 يونيو ليس نقطة معزولة في الزمن والمكان، وليس كتلة صماء لا وجود فيها لانحناءات أو انعطافات بل إنه حلقة في مسار دينامي. يتحول مضمونه بتحول القوى والمكونات التي تضغط عليه. ويتكون هذا المسار الدينامي من ثلاث مراحل، هي مرحلة الانتفاضة أولا، ثم مرحلة الثورة ثانيا، ثم مرحلة الانقلاب ثالثا. 1- مرحلة الانتفاضة: بدأ المسار بانتفاضة في وجه حكم مرسي وحزبه. وقد كانت البداية منذ مدة طويلة، يمكن التأريخ لها بيوم إصدار مرسي الإعلان الدستوري. ( لسنا هنا في مقام الحكم على سياسة مرسي الدستورية والسياسية، بل نحن في مقام عرض مراحل الدينامية العامة). مع توالي الإجراءات السياسية والمشاكل الاقتصادية والأمنية على عهد الرئيس مرسي، تصاعد الرفض العام لحكمه. وقد تجمَّع زخم الاعتراض على مرسي، ليستوي في مطلب مركزي عام وهو "انتخابات رئاسية مبكرة". غير خاف على الجميع، أن المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة، لم يعني في تصور المنتفضين حرمان الرئيس المُنْتَفَض عليه من خوض غمار المنافسة بالتساوي مع معارضيه. إن هذه الجزئية الدقيقة والخطيرة في أهميتها، هي ما يدفعنا إلى القول إن دينامية 30 يونيو بدأت انتفاضة، ولم تكن انقلابا كما لم تكن ثورة تصحيحية. إن الإقرار بحق المنتفض عليه في التباري الانتخابي، هو ما لم تمنحه 25 يناير للرئيس المخلوع حسني مبارك؛ وهذا ما يدفع إلى اعتبار 25 يناير ثورة مطلبها "إسقاط النظام"، في حين أن 30 يونيو انتفاضة مطلبها "انتخابات رئاسية مبكرة". 2- مرحلة الثورة: في نهاية يوم 30 يونيو، ورغم خروج ملايين ( لا أجعلها تصل إلى 33 مليون الخرافية التي ذكرها البعض في حالة هلوسة وفرح وتفاخر وتباهي طفولي بالأعداد)، لم يستجب مرسي لمطلب الانتخابات الرئاسية (لا يهمنا هنا ما يقال عن إحساس مرسي والإخوان بأن أمرا ما يدبَّرُ لهم قبل غيرهم). كان جواب مرسي الثابت هو إكمال مدته والتوجه إلى انتخابات رئاسية في أوانها المنتظِم. وقد كان خطاب مرسي الأخير قبل العزل، صادما للأعداد الغفيرة التي خرجت. وبدأ يظهر أن الفئات الثورية الحقيقية ( ليست منها حركة تمرد الفلولية)من الجماهير بدأت تستعجل إنهاء الأمر، ولو عبر عصيان مدني وهجوم على قصر الاتحادية. في هذه المرحلة من دينامية 30 يونيو، بدأت ملامح "الثورة" في التبلور. انتقل المطلب من "انتخابات مبكرة" إلى مطلب " الرحيل والمحاكمة"؛ وهذا ما لم يكن يرغب فيه معسكر الثورة المضادة الذي كان يرافق دينامية 30 يونيو منذ بدايتها، في صمت وترقب وتحين لفرصة الانقضاض. وتربص الثورة المضادة كان له شق مالي (الإمارات التي أصبحت إنجازاتها المعمارية على كف عفريت بعد إعلان مرسي تهيئة قناة السويس، والسعودية الرافضة للمنافسة الإخوانية على قيادة الإسلام السياسي العالمي ومزاحمة القيادة السعودية الوهابية) وشق لوجيستي (الإخوة ساويرس) وشق شبابي ذو رمزية (حركة تمرد) وشق تخطيطي سياسي (شفيق). بعد خطاب مرسي تحولت دينامية 30 يونيو في وعي المنتفضين، من انتفاضة تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة إلى ثورة تطالب بإسقاط مرسي ومحاكمته. ( شعار إسقاط حكم الإخوان تم رفعه قبل 30 يونيو، لكنه لم يتبلور في مطلب سياسي رسمي واعي إلا بعد خطاب مرسي الأخير قبل عزله من طرف الجيش). 3- مرحلة الانقلاب: حينما أحس معسكر الثورة المضادة بأن انتفاضة 30 يونيو في طريقها إلى أن تصير ثورة، قام بالتدخل. وقد ساهمت المؤثرات السينمائية ومشاعر الوطنية الشوفينية والبهرجة الاحتفالية، في إخراج مشهد يظهر فيه "ناصر" جديد نبيل لا يحركه إلا حب الوطن، و وواجب الاستجابة لنداء الشعب. لكن التصرفات خانت "القط" العائد لتوه من الحج. فالهيئة هيئة مسؤول عسكري يتدخل لفائدة الشعب دون طموح سياسي، بل يتحرك بدافع واجب البذلة الذي يقضي بحماية الوطن ومؤسسات الوطن؛ لكن الأفعال كانت أفعال انقلابي، ليس أقلها ذلكم التزامن الغريب (بالدقيقة والثانية، والذي سيكون قد لاحظه كل من كان يتنقل بين القنوات) بين نطق السيسي بضرورة إقرار ميثاق إعلامي، وبين قطع البث عن قنوات تلفزية تدعم أنصار الشرعية. حاولت "يرقة" الانتفاضة أن تتحول إلى "ثورة" لكن عناكب الثورة المضادة افترست الانتفاضة والثورة معا، وأنجزت الانقلاب. II- مبررات الامتناع: في المغرب، حصل اختلاف في الموقف من دينامية 30 يونيو، بين التيار الإسلامي من جهة، والتيار العلماني واليساري من جهة أخرى. اعتبر الإسلاميون أن ما حصل في 30 يونيو هو انقلاب، في حين اعتبر العلمانيون واليساريون أن ما حصل هو "ثورة تصحيحية". وقد أبرزتُ أعلاه أن الأطروحتين معا قد جانبتا الصواب، نظرا لما تميزتا به من اختزالية ومن نظرة استاتيكية جامدة للحدث المصري. إن ما حصل ليس انقلابا هكذا بإطلاق، وليس ثورة هكذا بإجمال. إن ما حدث فيه شيئ من هذا و شيئ من ذاك. لكن ما لم ينتبه إليه الإسلاميون والعلمانيون واليساريون على السواء، أن فيه شيئ آخر وهو الانتفاضة، وأن العلاقة بين هذه الملامح الثلاث كانت علاقة تدافع ومغالبة. إن الملامح الثلاث (الانتفاضة/الثورة/الانقلاب)، قد تداخلت وتفاعلت وتصارعت فيما بينها، ليس من تلقاء ذاتها، بل بفعل القوى الحاملة لها. إن الملمح الذي انتصر في الأخير(وإلى حدود الآن)، هو ملمح الانقلاب. فالانقلاب قد تعايش في مرحلة أولى مع الانتفاضة، وتكيف معها وصبر عليها، طمعا في توجيهها. لكن الانتفاضة كادت تستقل بذاتها لتتحول بفعل الجدل الميداني إلى ثورة. هنا سابَق الانقلابُ الثورةَ فسبقها وقضى عليها وتلبس بلبوسها، فالتبس الأمر على اليسار واستمر في الصراخ: إنها ثورة تصحيحية. اختلف الطرفان في تحديد طبيعة الحدث، فاختلفا أيضا في ترتيب النتائج. لأن الاسلامي اعتبر أن الأمر انقلابا، فقد شارك في المسيرة الوطنية الشعبية بتاريخ 17 غشت 2013 بالرباط. ولأن اليسار قد رأى في الأمر ثورة تصحيحية، فقد اعتبر نفسه غير معني بأي تنديد ب "الثورة التصحيحية". لكن اليسار لم يمت حسه الإنساني والحقوقي؛ لقد أفزعته المجازر....غير أن هذا الفزع لم يتحول إلى سلوك حقوقي مبدئي يتعالى على الاعتبارات السياسية والايديولوجية، يقود بالطبيعة إلى دعم مسيرة الشعب المغربي ضد البربرية. لم يشارك اليسار...أصبح اليسار يعاني مفارقة الوعي الشقي....الصراع بين الحقوقي والسياسي....فشل اليسار في إبداع لحظة التركيب، فالتجأ إلى آلية التلفيق. أانتصر السياسي في الوعي اليسار على الحقوقي. اتخذ هذا الانتصار شكل التبرير. تقدم اليسار أمام التاريخ وأمام منظومة قيمه الحقوقية وأمام شبابه وجماهيره بذريعتين يبرر بهما امتناعه عن إدانة البربرية. الأولى، وهي ذريعة مضحكة ضحكا كالبكاء، وهي أن الإسلاميين لم يشاركوا في الاحتجاجات الأخيرة على عفو الملك على الوحش الإسباني بمناسبة عيد العرش (بداية غشت 2013). لم يشاركوا في تلك، لن نشارك في هذه. والثانية، وهي ذريعة تتنكر كلية لحقوق الإنسان بمعناها الكوني، وهي أن التضامن مع ضحايا المجزرة، هو صب للماء في طاحونة التيار الإسلامي عامة والإخواني خاصة. لنناقش الآن هاتين الذريعتين الأقبح من زلتين. 1- الدفاع عن الحقوق، مسألة مبدئية أم مقايضة تجارية؟ بالنسبة للنقطة الأولى، يمكن القول إن فيها الكثير من التعميم والتجني على التيار الإسلامي. فالتنظيمات الإسلامية المنحازة للمستضعفين، قد ساهمت سياسيا وميدانيا في التنديد بالعفو-الفضيحة. أما المساهمة السياسية الممكنة بالنسبة لتنظيمات محرومة من حقها في التنظيم أصلا وليس لها حضور في المؤسسات، فتمثلت في إصدار بيانات تندد فيها بالعفو-الفضيحة، و في الدعوة إلى المشاركة في الاحتجاجات؛ وقد كان بود هذه التنظيمات أن تشارك مع التنظيمات الديمقراطية الأخرى في التعبئة والحشد. (وهنا يؤسفني الإشارة إلى انعقاد لقاء ضم قوى سياسية ومدنية للتنسيق والتعبئة في البيضاء، تحضيرا لوقفة ساحة لحمام، تم توجيه الدعوة فيه إلى القوى اليسارية وحدها؛ وتم تنظيم وقفة في مكناس، وحصل نفس الأمر. فلماذا لم يعمد من يحاسب التيار الاسلامي إلى الحرص على حضور هذا التيار المعارض؟ ورغم ذلك فقد حضرنا في المناسبتين، فنحن ملتزمون مع المستضعفين من شعبنا، وحيثما تكون مصلحة المستضعفين نكون) لقد أصدرت التنظيمات الاسلامية المعارضة للاستبداد بيانات التنديد والدعوة للاحتجاج، وهي بيانات موثقة ومسجلة في مظانها. بالنسبة للمساهمة الميدانية، يمكن القول أنه لا حزب و لا هيئة حضرت التظاهرات تحت لافتتها التنظيمية. لقد حضرت التنظيمات، ومن بينها التنظيمات الاسلامية المنحازة للمحرومين، من خلال مناضلاتها ومناضليها بالصفة الفردية المواطِنِية. إن القضية قضية شعب وليست قضية اهتبال فرصة لتسجيل نقط. ومع هذا الإنكار لمشاركة الاسلاميين، ربما كان المطلوب من الاسلاميين المعارضين للديكتاتور رفع كاميراتهم وهواتفهم النقالة خلال الوقفات، والدخول في لعبة الصور والمعارض. ويكفي لإغلاق هذا النقاش غير اللائق، أن أشير إلى حادثتين. • في وقفة ساحة الحمام بالبيضاء، حضر شباب العدل والإحسان بقوة مثل غيرهم. وكانت مساهمتهم إضافة كمية ونوعية، سواء على مستوى انضباطهم للشعارات، أو على مستوى التصاقهم بالوقفة بدل الدخول في محادثات ودية على الجوانب....لكن الغريب أن أقلية لا يعجبها العجب ولا الصوم في رجب، أبت إلا أن ترفع شعارات ضد حضور هذا الفصيل، مسيئة بذلك إلى نفسها وإلى القضية التي حضر الجميع من أجلها قبل أن تسيئ إلى المناضلين والمناضلات. • بمناسبة العنف الذي سلطه المخزن على وقفة الجمعة الأسود بالرباط، سمعنا كلاما لا يصدر إلا عن منطق أناني يعاني من تضخم الذات، ويتاجر بضحايا العنف. فقد حول بعض قصيري النظر تضحيات المتظاهرين إلى عملة للمتاجرة في بورصة السياسة. وأجدني مضطرا هنا إلى التنبيه إلى أن "أشرس تفرشيخة" (وهنا استعير هذا اللفظ من المتاجرين بالتعرض للعنف) كانت من حظ صحفي ينتمي إلى الحساسية الإسلامية، وهو معتقل سايسي سابق. ولم أعرف بهذه التفرشيخة منه بل كشفها غيره لحظة حمله في سيارة الاسعاف. ولم أسمع له كلاما في الأمر بعدها، ولم أشاهد في صفحته على الفيسبوك أي صورة من صور "التفرشيخة" الخاصة به. إن هذه الإشارة لا تقيم التفاضل بين درجات العنف، فأنا أبوس الأرض وأقبل التراب تحت أقدام كل النبلاء والنبيلات الذين تعرضوا وتعرضن ولو لدفعة من قوات القمع، ولكني هنا أوجه كلامي للمتاجرين بالنضال... من جهة ثانية، إن مجرد تقديم اليسار لهذه الحجة الباطلة (عدم المشاركة في معركة العفو-الفضيحة)، من أجل تبرير عدم المشاركة في مسيرة الشعب المغربي التضامنية مع ضحايا مجازر العسكر، تُحسَب عليه ولا تُحسب له. فهذا منطق المقايضة في النضال. وهو منطق يسيئ إلى أهله، إذ يقدمهم كما لو كانوا تجار مبادئ. وما علمنا عن اليسار الديمقراطي والتيار العلماني الديمقراطي المقايضة في الدفاع عن الحقوق. 2-الدفاع عن الحقوق، قناعة حقوقية أم استثمار سياسي؟ من الأعذار، وغالبا ما تكون الأعذار أقبح من زلة، التي قدمها اليسار والتيار العلماني لتبرير عدم المشاركة في مسيرة الشعب المغربي ضد مجازر العسكر، عذر مفاده أن التضامن مع الضحايا هو في آخر الأمر تضامن مع تعبئة سياسية مجانية ستُضَخُّ في سِجِّل الإسلاميين بشكل عام. لقد اعتدنا أن الخطاب اليساري والعلماني الديمقراطيين، يستدمجان المقاربة الحقوقية بمضامينها الكونية والشمولية. هكذا نطق هذا التيار فترة طويلة، وعلى هدي هذه القناعة خاض معاركه السياسية. لكننا أمام هذا التبرير أو المنطق الاستثماري في النضال الحقوقي والسياسي، يجوز لنا أن نطرح نسائل رفاقنا بهذا المنطق فنقول لهم: لماذا إذن تضامنتم مع غزة خلال عدوان 2008 وعدوان 2012؟ ألم تكونوا تعلمون أنكم في الواقع، حسب هذه المقاربة الانتقائية، كنتم تصبون الماء في طاحونة فرع من فروع الإخوان المسلمين، وهو حركة حماس؟ ألم تكونوا بتضامنكم مع لبنان في مواجهة الكيان الصهيوني، تسكبون الرصاص في بنادق حزب الله؟ ألم تكونوا، بتضامنكم مع عراق صدام حسين، تتضامنون مع حزب البعث الذي سلط أبشع القمع على اليسار العراقي بكل أنواعه الشيوعي والاشتراكي والقومي؟ إن امتناعكم عن التضامن الحقوقي مع ضحايا السفاح قد أفرز نتائج سيئة للغاية. والوقوف على هذه النتائج هو موضوع الفقرة الثالثة. III- نتائج الامتناع: أزعم أن موقف التيار العلماني واليساري ستكون له نتيجتان؛ نتيجة أولى ستخدش جزءا من بروفايل هذا التيار، ونتيجة ثانية تتمثل في كيفية تلقي الجماهير للرسائل المنبعثة (لا أقول المبعوثة، لأنني أقرأ فعل الامتناع على أنه فعل يصدر عن حسن نية، لكن النية شيئ وما يفهمه المتلقي شيئ آخر) من امتناع اليسار عن التضامن مع ضحايا البربرية؛ وهذه الرسائل قد تُوَجِّه ( لا قدر الله) ضربة قاصمة للمجهود الكبير والمحمود، الذي بذله هذا التيار في نشر ثقافة حقوقية وسياسية ذات نفس ديمقراطي. 1- يسار يسيئ إلى صورته: تتميز ذاكرة الشعوب (وإن كان مفهوم الذاكرة الشعبية مفهوم فضفاض) بأنها لا تحفظ الأحداث بوصفها تفاصيل، بل تحفظ منها ما هو عام. المؤرخ وحده يحفظ التفاصيل، و"يبنيها" ويقرأها في إطار نظرية. لكن أمر تسيير الدول لا يخضع لتفاصيل المؤرخ. قد يستمع المسؤول للمؤرخ، وقد يرغب في توظيف معارف المؤرخ، لكنه لا يقوم بتنزيل هذا القول "العلمي" بشكله العلمي، بل يقوم بتكييفه ليتلاءم مع مقتضيات عملية تسيير الحكم. والسبب في هذا التكييف هو أن مادة الحكم، ليست هي جماعة العلماء، بل هي "العامة" من الناس. ولأن العامة تعيش الحياة في تعدد أبعادها، فهي- العامة- لا تأخذ من المعارف والأحداث إلا ما هو عام. إن الغاية من وراء هذه المقدمة النظرية، هي التأكيد على أن ما سيتذكره المواطنون من مسيرة "مغاربة ضد الانقلاب وضد المجازر"، هو الموقف العام للتيار العلماني واليساري، ولن يتذكر أبدا التفاصيل التي قدمها هذا التيار لتبرير امتناعه عن التنديد بالمجازر. فالناس لا تذكر اليوم مثلا عن جزائر التسعينات، إلا أنه جرت هناك انتخابات فاز فيها التيار الاسلامي بالريادة، لكن الجيش ألغاها مدعوما بفرنسا وأمريكا خارجيا وبالتيار العلماني داخليا. لا يتذكر الناس أن من ضحايا إلغاء الانتخابات الجزائرية، كان هناك حزبان علمانيان هما حزب "جبهة التحرير الوطني (المرتبة الثانية) وحزب "جبهة القوى الاشتراكية" (المرتبة الثالثة). قد نسي الناس أن حزب "جبهة القوى الاشتراكية" عارض إلغاء الانتخابات. نسي الناس هذه المعارضة العلمانية لان الجسم العلماني الجزائري، في مجموعه، كان كله مع الانقلاب. نسي الناس مبررات الجيش، مثلما نسوا مبررات الدعم لقتل الديمقراطية التي قدمها أقوى الأحزاب العلمانية وهو " التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، بل الناس لا يذكرون حتى هذا الحزب واسمه. ما يتذكره الجميع هو أن القوى العلمانية كانت ضد الديمقراطية. نقطة وكفى. وقياسا على هذا المثال، ولنا منه العديد، أجزم أن المغاربة لن يتذكروا مبررات التيار العلماني واليساري ولن يتذكروا "تربيع الدوائر"؛ سيتذكر المغاربة فقط أن اليسار والعلمانيين رفضوا، في لحظة من لحظات نوم الضمير، الوفاء لقيم حقوق الانسان الكونية، ورفضوا الوفاء للديمقراطية، وأيدوا، موضوعيا على الأقل، السفاح. 2- رسائل اليسار المنبعثة: إن امتناع اليسار والتيار العلماني عن حضور المسيرة التضامنية مع ضحايا مجازر الانقلابيين، تنبعث منه ثلاث رسائل. ورغم أن هذه الرسائل المنبعثة، ولا أقول المبعوثة، قابلة لأن يتعدد متلقوها، فإن فئات بعينها من المتلقين تهتم أكثر من غيرها برسالة دون أخرى. أي أن كل رسالة رسالة هي مبعوثة إلى من يهمه أمرها أكثر من غيره. ثلاث رسائل أمرها يهم ثلاث فئات. الرسالة الأولى متلقيها النموذجي هو المخزن. والرسالة الثانية يشكل الشباب المرتبط بمدارس اليسار للتكوين الحقوقي بالتحديد متلقيها النموذجي. أما الرسالة الثالثة فمتلقيها هو الجمهور العام المهتم بالشأن السياسي. -الرسالة الأولى: يشكل المخزن وفريق عمله، المتلقي الأكثر اهتماما بمحتوى الرسالة الأولى. لا يمكن لعاقل أن ينكر أن اليسار الديمقراطي في المغرب قام في فترات من الزمن، بالانفتاح على التيار الاسلامي، كشكل من أشكال التفعيل ولو المحتشم، لمفهوم "الكتلة التاريخية". لحظتان مضيئتان في هذا المسار. كانت اللحظة الأولى خلال الثمانينات، حيث دشنت "منظمة العمل الديمقراطي الشعبي" اليسارية هذا الدرب المضيء. امتدت اللحظة الثانية طيلة فترة زمنية شملت العقد الأول والثاني من القرن الواحد والعشرين. وقد كانت المبادرة في هذه اللحظة الثانية بالدرجة الأولى للفاعل الحقوقي، ممثلا في جمعيات حقوقية وهيئات دفاع ومحامين. وبلغت هذه اللحظات المضيئة أوجها مع لحظة "حركة 20 فبراير". إن أهم إنجاز لهاتين اللحظتين، هو تأسيس ثقافة سياسية جديدة بالمغرب، تجعل الاصطفاف يقوم على "من مع الديمقراطية وضد الاستبداد" و "من مع الاستبداد وضد الديمقراطية". لقد تراجع الاصطفاف المخزني الذي يقوم على أساس طائفي، قوامه الصراع بين ما يسمى بالتيار العلماني الحداثي والتيار الديني. إن أخطر رسالة يوجهها امتناع اليسار عن المشاركة في مسيرة المغاربة ضد المجازر والانقلاب، (وأول من سيلتقط هذه الرسالة هو المخزن) هي إعطاء الانطباع بأن اليسار أصبح مستعدا لطي صفحة "20 فبراير" التي وفرت أجواء عمل ميداني مشترك؛ وطي هذه الصفحة هو إعلان تبديد أمل قيام "الكتلة التاريخية" وإحلال أسس "الفُرْقة التاريخية" المدمرة. - الرسالة الثانية. يمثل الشباب الذي يتلقى التكوين على ثقافة حقوق الإنسان، المتلقي المحتمل الأكثر اهتماما بمضمون الرسالة الثانية. إن تأسيس الامتناع على أن التضامن مع الضحايا هو تضامن بالنتيجة مع التيار الاسلامي، هو ضربة قاضية لثقافة حقوق الإنسان، خصوصا لدى الأجيال اليافعة والشابة التي تتلقى تكوينا في هذا المجال. فمن أهم خصائص حقوق الإنسان هو خاصية الكونية وخاصية الشمولية. سيعاين الشباب تنزيلا عمليا غير كوني لحقوق الإنسان، يتعارض مع الإعلانات والشعارات والتكوينات النظرية التي يوفرها لهم اليسار. كيف أصبح ممكنا السكوت والصمت عن حرمان مواطنين من الحق في الحياة، بسبب أن الحديث عن هذا الحرمان سيصب الماء في الطاحونة السياسية والتنظيمية لهؤلاء الضحايا؟ هل الكونية قطار تنتهي مسيرته عند محطة "رابعة العدوية"؟ كيف أصبح ممكنا السكوت عن حرمان مواطنين من الحق في الاعتراض السياسي بمختلف الأشكال السلمية والمدنية؟ هل الشمولية كخاصية من خصائص حقوق الإنسان لا تغطي الحقوق السياسية؟ هذه هي الأسئلة الحارقة التي سيطالب الشباب بجواب صريح عنها. لن يقبل الشباب أبدا الانتقائية في حقوق الإنسان؛ إنهم بكل تأكيد لم تتم تربيتهم ولم يتم تكوينهم على ذلك. إنهم يتحسسون من أي حديث عن الخصوصية. والانتقائية أخطر من الخصوصية. - الرسالة الثالثة. المتلقي المحتمل الأكثر اهتمام بمحتوى الرسالة الثالثة هو جموع المواطنين الذين يتطلعون للديمقراطية. إن الخطر الذي تحمله الرسالة الثالثة هو خطر إضعاف التربية على الديمقراطية لدى المواطنين والمواطنات، وإضعاف هذه القناعة الديمقراطية. لما كان مرسي يواجَه في بداية دينامية 30 يونيو، من طرف خصومه بضرورة إجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، كان يرد عليهم بأن هناك طريق واحد ووحيد لإبعاده، وهو منافسته في الانتخابات الرئاسية بعد إكمال ولايته الحالية. تحدث أحد مثقفي وقادة التيار اليساري بالمغرب عن موقف مرسي هذا ورفضه. قال رفيقنا إننا نجد في أعرق الديمقراطيات، تقليدا يقبل فيه الحزب المسير للحكومة بإجراء انتخابات سابقة. نهمس في أذن رفيقنا بمسألتين. المسألة الأولى هي أنه لدينا أيضا في أعرق الديمقراطيات، حالات خرج فيها الشارع بكثافة رهيبة، وسجلت مؤشرات شعبية الحكومة القائمة سقوطا مريعا، ومع ذلك أكمل المحتج عليه ولايته. فمثالك لدينا عليه أمثلة مضادة عديدة ومن أعرق الديمقراطيات كذلك. المسألة الثانية هي أن اللجوء في حالات (وهي معدودة ومحدودة) إلى انتخابات مبكرة في أعرق الديمقراطية، ليس حجة مطلقة، بل هي حجة نسبية تقدر بظروف كل بلد. إن مصر اليوم عبارة عن "نظام" خارج لتوه من ثورة؛ وثورة مصر لم تكن ثورة قاطعة وفاصلة، إذ لا يزال النظام القديم والثورة المضادة يشتغلان؛ في مصر مؤسسات هشة لا ترتقي إلى صلابة مؤسسات الجمهورية الفرنسية نهاية الستينات، صلابة جعلت دوغول يذهب إلى انتخابات مبكرة، دون وجل من أي خطر على المؤسسات الديمقراطية العريقة والراسخة. إن هذه الهشاشة قد تسمح بتدخل الثورة المضادة وتسلل النظام القديم من بين الأصابع. وعليه فالحس الديمقراطي السليم يقتضي أن يكون التغيير من خلال الآلية الديمقراطية، وفي أجواء عادية. وفي مصر، وحينما رفعت المعارضة مطلب الانتخابات المبكرة (وهو مطلب عادي وديمقراطي، في الظروف العادية) لم تكن الأجواء عادية. كانت أصابع الثورة المضادة الداخلية والإقليمية ظاهرة. لم يكن من السليم أيضا إجراء انتخابات مبكرة، بحجة أن الجماهير خرجت إلى الشارع. إن الشارع مقولة سوسيولوجية وليس مقولة سياسية. يصبح الشارع مقولة سياسية حينما يمر من "العصارة القانونية" المتمثلة في الصندوق. فليس الشارع بديلا مطلقا عن الديمقراطية، وإلا كلما جمعت معارضة حشدا طالبت بنسخ نتائج الصندوق. إن خطر الرسالة الثالثة هي إضعاف الثقافة الديمقراطية. ويحصل هذا التبخيس والإضعاف للثقافة الديمقراطية على شكلين. الشكل الأول هو أنها ترسخ لدى المواطنين، وتيار عريض من المواطنين يتلقى ثقافته السياسية من اليسار، فكرة مضمونها أن الصندوق ليس مقدسا، ويمكن العبث به في أي لحظة. إن هذه الرسالة تفيد أيضا أنه ليس عيبا التسليم بشرعية مؤسسة لم تأتي من صناديق الاقتراع. الشكل الثاني هو أنها تخلق تشويشا في الوعي السياسي للمواطنين. إنها تجعل من الطبيعي أن يتم اللجوء إلى الجيش ل "إنقاذ" الوطن. وهذا التشويش سيعيد إلى الوعي العام للمواطنين مقولة غارقة في الاستبداد، وهي مقولة "القائد المنقذ" أو "المستبد العادل". ففي اليوم الأول من دينامية 30 يونيو، سمعنا يسارا يبجل وطنية الجيش المصري (الأمريكي التسليح والتدريب والعقيدة)، ويقرأ في السيسي صورة "جمال عبدالناصر". فاليوم سوغتم وبررتم خطوة "الجنرال" ومن خلال ذلك تسوغون الإصلاح بأدوات غير سياسية؛ وبهذا فأنتم تكرسون مبدأ تدخل جهات غير سياسية في السياسة، بحجة أنها "تنقذ" الوطن. فالجيش أصبح هو البلسم الشافي مادام أنه سيكون هو "المنقذ من الإخوان". هذه هي الرسائل المنبعثة من رفضكم التنديد بالبربرية، وهي رسائل تنبعث من تلقاء ذاتها. لم أسمها المبعوثة، لأني لا زلت أومن بنزاهة ضمائركم وصدق نواياكم، لكن النوايا لا قوة لها في المجال السياسي، ولن يقبل المواطنون منا أن نقول لهم "لم أكن أقصد"، كما لن يقبل منا الشباب أن نقول لهم بعد حين "مافراسيش".