لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من أسمائها سوى اسم"قسنطينة"، الذي منحه لها منذ ستة عشر قرنا "قسطنطين". أحسد ذلك الإمبراطور الروماني المغرور، الذي منح اسمه لمدينة لم تكن حبيبته الأولى..وإن اقترن بها لأسباب تاريخية محضة. وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي. ذاكرة جسد صفحة 291. هذا قليل من بوح الأديبة الجزائرية القسنطينية الهوى أحلام مستغانمي، المهووسة إلى حد العدم بجسور قسنطينة الحالمة، قسنطينةالمدينة التي تقع فوق صخرة تسمى الصخرة العتيقة على جانبي وادي الرمال ألهمتها حركات الأزمنة الجيولوجية القدرة الهائلة على تحمل مسارات وتحولات وحيوات وتجليات وتمظهرات مدينة مذهلة، والتي تبعد عن تونس شرقا بحوالي 245، وعن الجزائر العاصمة غربا بحوالي 430 كلم، مدينة طلقت البحر منذ 150 مليون سنة، وترك لها الصلصال الرملي والأحجار الكلسية. هذا ما أبدعته أحلام مستغانمي وفي أكثر من نص سردي وروايات مشيدة بذلك مجدها الأدبي، وهي تناجي صرح الجسور السبعة التي تتوسد عمق وادي الرمال، الذي يسري تحتها على ارتفاع 200 مترا أحيانا، وكأنها تحتفي بمدينة موغلة في العمق الحضاري، وغارقة في أريج عبق التاريخ وسرِّ أَسْرِ الحضارات لخصوصيتها، وهي المدينة- قسنطينة دوماً التي تشتهيها الروح ويُحيِّيها الجسد- التي تشربت من منابع تراكمات الدول التي سرتها وأحزنتها في آنٍ واحد، منذ المرحلة النوميدية/الأمازيغية إلى الرومانية وعهد الوندال والعهد البيزنطي والعهد الإسلامي والعهد التركي/ العثماني، وصولا إلى محطة الاحتلال الفرنسي وثورة المليون ونصف شهيد المجيدة، وفجر الاستقلال وخيبة العشرية السوداء القاتمة وأحرقت كثيرا من الأخضر واليابس معاً ربما، لكنها تنهض مثل طائر الفينيق من سبات رمادها وتحيى استنادا إلى تفجير طاقات الاستعارة..؟ وعصور أخرى مضت وأخرى قد تأتي في مقبل الأيام وسيرورة الزمن المتجدد للتماس المباشر مع مدينة تقع في عش صخرة. عن قسنطينة يقول الأمير محمد بن عبد القادر الجزائري:"إن قسنطينة أصلها لقبائل كُتامة، وقد دخلها الفينيقيون ملوك الشام من كولونية لما خرج والى إفريقية من صور سنة 836 ق.م، واسمها في القديم سيرتا وكانت عاصمة أدربال النوميدي سنة أربعمائة وثمان وعشرين بعد المسيح، واستولى على تلك النواحي الوندال من إسبانيا، ولم يزل ملكهم فيها إلى أن استولى عليها المسلمون"*. قسنطينة مدينة ضاربة في جذور تاريخ شمال إفريقيا، بدأت تتفتح صفحات تاريخها مع وقع أتربة أقدام الأمازيغ وانتظامهم في عشائر جزائر ذاك التاريخ واسمها القديم"سيرتا" التي اتخذها ماسينيسا ملك نوميديا عاصمة للمملكة، الإغريق أطلقوا اسم الليبيين، والنومديين على العشائر الأمازيغية باعتبارهم السكان الأصليين لقسنطينية، يوغرطة الذي رفض تقسيم مملكة أبيه إلى ثلاثة أقسام وممالك تجاوز قسوة حصارها وأعاد الاعتبار إلى المملكة وأضحى الملك الجديد لنوميديا. الإمبراطور قسطنطين الذي أسمى المدينة باسمه أعاد بناءها سنة 313م، بعدما أمر الإمبراطور ماكسينوس بتخريبها. وعلى وقع معزوفات التاريخ سيتجدد تاريخ قسنطينة بمرور الوندال و"العرب الفاتحين" ويهود الأندلس الموريسكيين الهاربين من بطش الكنيسة الكاثوليكية في روما ومحاكم التفتيش في الأندلس، والحفصيين، والقبائل الهلالية، والأتراك الجزائريين، وشعوب وقبائل أخرى مثل الزيريين والحماديين والاحتلال العثماني مروا على أرصفتها وتقاطعوا في مفترق طرق التاريخ، إلى أن استقرت على يد صالح الباي1771-1792م، الذي اختارها عاصمة وأسس على أرضها حضارة المساجد والمدارس والأبواب وكرس العربية لغة وثقافة بها ولها. ومع قدوم الاحتلال الفرنسي سنة 1830 بعد مقاومة مستميتة دامت أربع سنوات قادها أحمد الباي، الذي صد عنها الاحتلال مرتين، لكن دون أن ينهي وصلته ساعتها، إلى أن وقعت تحت نير الاستعمار الفرنسي بقيادة "دوموريير" وكان ذلك سنة 1837، الذي جاء وفي نيته الاستقرار في الجزائر والى الأبد، لكن سواعد الثوار وثورة المليون ونصف شهيد أحالته على التقاعد الكلي، وهزمته وطردته شر طردة وأعلنت الجزائر للعالم استقلالها التام بقيادة جبهة التحرير الوطني، متبوئة بذلك مكانة الصدارة في حركة التحرر العربي والعالمي إبان فترة مرحلة ما بعد الكولونيالية العالمية التوسعية، وكان لها ذلك سنة 1962. قسنطينة مدينة الجسور المعلقة والحالمة، مدينة الأبواب، والكهوف والمغارات، والمساجد والحدائق والشلالات، مدينة"الهوى والهواء" كما يحلو للشعراء أن يحتفوا بها في قصائدهم وفحوى متخيل نصوصهم واستعاراتهم الدالة والمدهشة، التي ألهمتهم مجاميع ودواوين شعرية باللغة الفرنسية والأمازيغية والعربية. قسنطينة ذات سبعة جسور وثامنهم الجسر العملاق المستحدث حديثا، والذي مازال في طور التشييد و تشرف عليه مجموعة برازيلية عملاقة في مجال تدبير المقاولات والبناء الفرعوني اسمها "أندراد غوتيراز" والذي من المنتظر أن يعدل هذا الاسم ويحمل اسم جسر"الاستقلال"، احتفاءً باليوبيل الذهبي لخمسينية الثورة الجزائرية المجيدة، وهو الجسر الذي أخذ بعين الاعتبار الخصوصية التاريخية لقسنطينة، والذي يتوقع أن يتم انتهاء بناء صرحه الكامل وتخطوه الخطوات ووقع الأحذية قبل انتهاء مارس من سنة 2014. أما أقدم جسر بها فهو: - جسر"باب القنطرة" والذي بناه الرومان وتم ترميمه سنة 1792 على أيدي العثمانيين، وخربه الاحتلال الفرنسي، وأعاد بناءه من جديد على أنقاض الجسر القديم سنة 1863. - جسر"سيدي راشد" الذي يحتوي على 27 قوسا وهو أعلى جسر حجري في العالم، صمم هندسته المهندس الفرنسي"أوبين إيرو" بإتقان فني وبإبداعية عالية. - جسر"سيدي مسيد"صمم هندسته وبناه المهندس الفرنسي "فرديناند أرنودان" سنة 1912 - جسر ملاح سليمان، هو ممر من الحديد أصلا خاص بالراجلين فقط، نظرا لضيق عرضه –مترين ونصف أو أكثر بقليل- وقد بني في الفترة الممتدة من 1917 إلى 1925، يليه جسر "مجازر الغنم"، وجسر "الشيطان"، وجسر "الشلالات". و تضفي هذه الجسور على مدينة "قسنطينة "لمسة ساحرة وجمالية استثنائية تأسر كل من مرَّ بها، أو حلَّ على ديارها وفضاءاتها حدائق كانت أو بساتين أو عرصات. أن تخطو فوق هذه الجسور لأول وهلة تصاب بالدهشة والذهول و"فوبيا" العلو الشاهق والسامق، لكن بمجرد أن تواصل الخطوات تستأنس بهذه الأخيرة وتتعود على أرضيتها وتمنحك تأشيرة المرور بأمان وتمتعك بمتعة نادرة يرقص لها القلب وتستعذبها العين والنظرة الآسرة، خصوصا أن تحتك تجري وتسري مياه وادي الرمال التي تعزف سمفونية خرير المياه. جسر ملاَّح سليمان الذي تنزل إليه عبر مصعد كهربائي أو أدراج سُفلية أو تحتية تسبقك كالريح، تقودك إلى عتبة الجسر لتقطعه، وأنت تخطو أول الخطوات تخال وأنك ستحلق عاليا في سماء خفيضة، ارتعاشة برد هكذا تصيبك، وتصفع وجنتيك لتنبهك أنك عالق في الهواء، ولا تملك من قرار سوى أن تواصل السير والمسير إلى الضفة الأخرى، بعدها تستطيع أن تعود أدراجك لتعبر الجسر ثانية إيابا هذه المرة، وقد وقعت في الألفة والشوق إلى إعادة التجربة مرات إن كان الوقت حليفك، وأن نقطة العودة لم يعد لها من معنى دال. وأنت تطل من الجسر ترى جسرا آخر على مسافة ضوئية، ومحاطا بصخور قديمة قدم حركات التاريخ وأزمنته، يُمنة ويُسرة جانب من هذه الصخور تتسلقه منازل آهلة بالسكان، منازل لها شرفات وأكثر من حبل غسيل تستوعبه الشمس لتدفئ الغسيل، وتظل نوافذها مشرعة تهدهد الحلم وأفق المستقبل. كل جسر يختلف ويتعدد باختلاف موقعه وتاريخ تشييد، ويشكل نسيج التنوع عن الآخر ليستقل بذاته ويحصن حصنه ويفصح عن فتن جماله، ويوفر لك وللعابر والمقيم وصاحب الرحلة متعة المشاهدة، وزاد المكان، والنظرة البانورامية : صخور، وماء، وهواء، وأشجار ونخيل، وطيور، وموسيقى نابعة من مكامن الروح، وروعة الطبيعة وأثر الإنسان وجدل الفصول وسبل الحياة وذاكرة مدينة. قسنطينة وجسورها الحالمة واللامتناهية أنجبت أسماءً ورموزا وأعلاما وعلامات مشرقة، ساهمت بثقل في بناء الأفق الثقافي والحضاري للجزائر، في التاريخ والحضارة والإسلاميات والأدب والموسيقى والتشكيل والسياسة ورموز حركة التحرير، وحتى في مأسسة أجهزة الاستخبارات، فعبد الحفيظ بوصوف هو مؤسس جهاز المخابرات الجزائرية إبان حصول الجزائر على استقلالها، ورابح بيطاط أحد رؤساء الجمهورية في الفترة الممتدة من 1978-1979 بعد رحيل الرئيس الجزائري هواري بومدين، وماسينيسا ويوغرطة ملكان في مملكة نوميديا، وأحمد الباي آخر بايات قسنطينة، الذي قاوم الاستعمار الفرنسي بشجاعة، ومالك بن نبي من مفكريها المعاصرين، وعبد الحميد باديس أحد الذين صانوا الهوية الوطنية الإسلامية للجزائر وحافظوا على جذورها العربية، ومالك حداد وأحمد رضا حوحو من كبار أدبائها ومناضليها، وعبد الحميد مهري من ساستها الكبار، ومولود حمروش أحد رؤساء الحكومة الجزائرية في الفترة الممتدة من 1989-1991، وكاتب ياسين أحد كتابها المرموقين، وأحلام مستغانمي كاتبة وأديبة معاصرة ألهمتها هذه الجسور وفضاءات المدينة ثلاثيتها الرائعة الصيت في تاريخ الأدب المعاصر: ذاكرة جسد، وفوضى الحواس، وعابر سرير. هامش: * الأمير محمد عبد القادر الجزائري:تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر.شرح وتعليق د.ممدوح حقي.دار اليقظة العربية.بيروت.الطبعة الثالثة .1964.ص"20.