مديرية الأمن: إنجاز 4 ملايين و696 ألف و69 بطاقة وطنية للتعريف الإلكترونية من الجيل الجديد خلال سنة 2024            الفصائل السورية تتفق مع أحمد الشرع على حل نفسها والاندماج مع وزارة الدفاع    تفاصيل الاجتماع الأول لفدرالية الصحافة الرياضية بالمغرب    النسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين بالفوج 39 للقوات المسلحة الملكية بجرسيف    المجلس العلمي الأعلى يتحفظ على ثلاث مسائل في تعديلات مدونة الأسرة    التوفيق يقدم رؤية عميقة حول العلاقة التي تجمع إمارة المؤمنين بالعلماء ويُبرز آليات إصدار الفتوى في حالة مدونة الأسرة    احتفالا بالصناعة التقليدية المغربية.. حفل انطلاق النسخة الثانية من برنامج" الكنوز الحرفية المغربية"    يوسف النصيري يرفض عرض النصر السعودي        توقيع اتفاقية بين المجلس الأعلى للتربية والتكوين ووزارة الانتقال الرقمي        الشبكة الدفاع عن الحق في الصحة تدعو إلى التصدي للإعلانات المضللة        أ. الدشيرة يفوت على ا. يعقوب المنصور فرصة الارتقاء للصدارة    الملك يشيد بالعلاقات الأخوية مع ليبيا    السكوري: القانون التنظيمي يراهن على منع المشغلين من "شراء الإضراب"    "أفريقيا" تطلق منصة لحملة المشاريع    إلغاء التعصيب ونسب الولد خارج الزواج.. التوفيق يكشف عن بدائل العلماء في مسائل تخالف الشرع ضمن تعديلات مدونة الأسرة    أول دواء مستخلص من «الكيف» سيسوق في النصف الأول من 2025    مجلس الحكومة يتدارس أربعة مشاريع مراسيم    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    نظرية جديدة تفسر آلية تخزين الذكريات في أدمغة البشر    تفاصيل التعديلات ال16 في مدونة الأسرة.. تضمنت تقييد الاعتراف بزواج الفاتحة    عودة نحو 25 ألف سوري إلى بلدهم منذ سقوط نظام الأسد    الصين تكشف عن مخطط جديد لتطوير اقتصاد الارتفاعات المنخفضة    تركيا: مقتل 12 شخصا على الأقل في انفجار في مصنع ذخيرة    برقية تعزية من الملك محمد السادس إلى أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الخلفي                مستشار الأمن القومي بجمهورية العراق يجدد موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمغرب    الإعلان عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة    العصبة تكشف عن مواعيد مباريات الجولة ال17 من البطولة الاحترافية    "فيفبرو" يعارض تعديلات "فيفا" المؤقتة في لوائح الانتقالات    مختص في النظم الصحية يوضح أسباب انتشار مرض الحصبة بالمغرب    وعكة تدخل بيل كلينتون إلى المستشفى    الفتح يقسو على "الكوديم" بخماسية    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    موظف بالمحكمة الابتدائية بطنجة خلف القضبان بتهمة النصب وانتحال صفة    موانئ الواجهة المتوسطية: انخفاض بنسبة 17 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري عند متم نونبر الماضي    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط        "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قرنقل يضع "أصوات الفقراء المغاربة" تحت مجهر "السوسيولوجيا الموسعة"
نشر في هسبريس يوم 25 - 08 - 2021

ننطلق في هذه القراءة من مجموعة من الأسئلة التي نحاول من خلالها تقريب هذا العمل المتميز للأستاذ والباحث حسن قرنفل الموسوم ب"أصوات الفقراء"، الصادر سنة 2020 عن دار أبي رقراق بالرباط.
من بين هذه الأسئلة: ما موقع كتاب "أصوات الفقراء" ضمن البنية النسقية للمشروع العلمي للمؤلف؟ ما هي البراديغمات التي استند إليها الباحث في تشريح "أصوات الفقراء"؟ كيف استثمر ذلك التقاطع بين السياسة والسوسيولوجيا في تحليل ودراسة الأصوات الانتخابية لفقراء المغرب؟ ولماذا ظل واقع الجماعات الترابية القروية المغربية بئيسا رغم الاختصاصات الهامة التي خولها لها الدستور المغربي لسنة 2011؟ هل حمل هذا العمل إضافة نوعية لما سبق أن أنجز سوسيولوجيا في الموضوع؟ وأين تتجلى عناصر القوة فيه؟
موقع كتاب "أصوات الفقراء" ضمن البنية النسقية للمشروع العلمي للمؤلف:
"أصوات الفقراء" عمل جديد يندرج ضمن سلسلة من الأعمال العلمية المتميزة التي أنجزها الأستاذ الجامعي والباحث السوسيولوجي حسن قرنفل، من جهة بهدف دراسة وتحليل وتشريح قضايا وظواهر تهم المجتمع المغربي، ومن جهة أخرى تأكيدا وتعميقا لما دأب عليه في مشروعه العلمي من تشريح سوسيولوجي عميق وموسع، منذ كتبه الآتية: "النخبة السياسية والسلطة"، "المجتمع المدني والنخبة السياسية"، "الشغل بين النظرية الاقتصادية والحركة النقابية"، "أهل فاس.. المال والسياسة"، "ديمقراطية على المقاس"، "الفقر من الإحسان إلى التنمية البشرية".
وإذا كان القاسم المشترك الذي يجمع الأعمال السابقة للمؤلف يكمن في تركيزه على النخب المغربية، سواء أكانت سياسية أم نقابية أم مثقفة أم مجتمعا مدنيا، في علاقتها بالسلطة والأحزاب والشغل والمال، وفي تنافسها وصراعها من أجل الظفر بالقيم المادية أو الرمزية، وكل ذلك، في ارتباط بنيوي مع مفهوم محوري، شكل الحلقة الناظمة لمجموع أعمال هذا الباحث والأساس الذي يقوم عليه مشروعه العلمي السوسيولوجي الموسع، ألا وهو مفهوم "الديمقراطية، فإن العمل الجديد يتناول فئة الفقراء، وهو ما يشير من جهة إلى انعطافة واضحة في مشروع الباحث، ومن جهة أخرى تبنيه خطة لتوسيع قاعدة مدونة البحث والدراسة، لتكون أكثر امتدادا وسعة بما يؤكد دقة المنطلقات وتنوع العينات والموضوعات التي عمل عليها المؤلف في مشروعه السوسيولوجي المفتوح.
ما هو البراديغم الذي استند إليه الباحث في تشريح "أصوات الفقراء"؟
بعد عرضه لمفهوم الفقر، الذي ميز فيه بين الفقر النقدي والفقر الذاتي، الناشئ عن الإحساس الدائم بعدم الرضا والاطمئنان للمستقبل، والفقر متعدد الأبعاد، ومقارنته بين الدول المتقدمة والدول السائرة في طريق النمو، انتهى الباحث إلى أن الفقراء يشكلون صورة سلبية عن الدول المتقدمة والطبقة الميسورة، ويعتبرونها مسؤولة عن وضعيتهم. واعتبر أن ذلك ليس خاصا بالمغرب، بل هو موجود في كل الدول المشابهة. غير أنه نبه إلى أن هناك تباينا بين ما تقدمه الإحصائيات والمعطيات عن الفقراء في المغرب وكم نسبتهم، وبين وما يتصوره هؤلاء عن أنفسهم. بل إن لكل أسرة أو فرد تصوره الخاص عن الفقر ووضعيته الاجتماعية والمالية.
تمكن الباحث من توظيف مخرجات عدة براديغمات، سواء تلك القائلة بعدم وجود ناخب عقلاني، لأنه يستسلم للقادة والزعماء المحليين الذين يوجهون سلوكه الانتخابي، أو تلك المقرة بوجود أقلية من الناخبين العقلانيين، الواعين بالسلوك الانتخابي، مقابل أكثرية غير عقلانية، وهو ما يفيد الديمقراطية حسب تصورهم. وهذا ما تجسده النظرية الاقتصادية لفهم السلوك الانتخابي، القائمة على قانون العرض والطلب والسوق والاستهلاك.
سيرا على نهجه في مناقشة تصورات السوسيولوجيين الرواد، خاصة حول تصورهم "للعقلانية الاقتصادية" في تفسير السلوك الانتخابي، باعتبار أن الناخب المعاصر أو الراهن يسعى باستمرار نحو التحقيق الأقصى لرغباته وحاجاته الأساسية والتكميلية، لكن بأقل جهد ممكن، لا يكف الباحث عن طرح عدة أسئلة دقيقة وعميقة، مثل سؤاله عن الكيفية التي سيتمكن بها جميع هؤلاء الناخبين العقلانيين المتنافسين في سوق الانتخابات الحرة، ليحققوا رخاءهم ورفاهيتهم؟ ومثل سؤاله عن الكيفية التي تمكن من تحقيق التوازن دون المساس بحرية السوق؟ أي التوزيع العادل للموارد، وفي الآن نفسه الإبقاء على المنافسة وقانون السوق؟ جاء ذلك خلال مناقشته لتصور "كنيت أروو" (Kennet Arrow) مؤلف كتاب "الاختيارات الجماعية والأفضليات الفردية" (1997) الذي دافع فيه عن البراديغم القائل بأن "السوق يمكننا من الوصول إلى توزيع للموارد مقبول اجتماعيا، مع إمكانية التدخل لإحداث بعض التوازن لتلبية المطالب ذات العلاقة بالمطالب الاجتماعية"، ليخلص في الأخير إلى أن هذا الطرح معيب وناقص ولا يجيب عن سؤال المواءمة بين ما هو عقلاني-اقتصادي وليبرالي، وما هو اجتماعي-أخلاقي.
السوسيولوجيا وعلم السياسة.. نحو سوسيولوجيا موسعة:
لم يقتصر الباحث في تناول مفهوم الاختيار العقلاني والسلوك الانتخابي بوصله بما هو اقتصادي فحسب، بل بحث في علاقة ذلك بما هو سياسي فردي وجماعي، مؤكدا على العلاقة المحورية بين الاختيارات الجماعية وتصورات الأفراد العقلانيين، استنادا إلى نموذج كينيت أروو الذي حدد ثلاثة أشكال من القرار الجماعي هي: (الديكتاتورية العادة والتقاليد التوافق أو التعاقد) مستبعدا الشكلين الأول والثاني، مؤكدا أن الانتخابات المبنية على مسطرة متوافق عليها، هي الآلية الكفيلة بتحقيق الاختيارات الجماعية.
أكد الباحث أن براديغم الاختيار العقلاني لتفسير سلوك الناخبين أصبح مُلهما للعديد من الباحثين في علم السياسة والسوسيولوجيا في العالم كله. ذلك أن العقلانيين دأبوا على البحث عن الثروة والمتعة والسلطة. لكنه هو الآخر يكشف عن عدة صعوبات في مجال التطبيق. حيث تطرح مسألة تمكين كل الناخبين من المعلومات الضرورية والكافية التي تخول لهم الاختيار العقلاني الناجح، بعيدا عن أي تمييز أو تلاعب.
وأمام عجز هذه النماذج السابقة في الإجابة عن سؤال الملاءمة والتوافق بين الأخلاقي والاقتصادي العقلاني، ناقش نموذجا آخر للباحث منصور أوسلون "منطق العمل الجماعي" (1966)، مقارنة بمنطق العمل الفردي، لينتهي إلى استنتاج يظهر عجز هذا النموذج بدوره عن الإجابة عن سؤال الملاءمة، حيث يقول: "وغير خاف أن تحليلات أوسلون غير صالحة لدراسة كل الحالات المعنية بالعمل الجماعي، خصوصا بعض الوضعيات التي لا تكون فيها الصراعات القائمة مبنية على ربح مادي واضح، كما هو الشأن مع الصراعات القائمة حول الهوية والدين والثقافة، حيث ما يقود الفاعلين المنخرطين هو الاستجابة لشعور جماعي بالانتماء إلى هوية مهددة، وليس تحقيق قيمة مادية أو فائدة معينة. إن أهم ما يمكن الخروج به من نظرية أوسلون حسب الباحث، هو أنه حينما يوجد مجموعة من الأشخاص ذوي المصلحة المشتركة، ولكنهم غير منظمين، فإنه من الممكن ألا يقوموا بأي شيء من أجل الدفاع عن مصالحهم".
بدائل لفهم السلوك الانتخابي:
بعدما أظهر الباحث عجز البارديغمات السابقة عن الإجابة عن سؤال المواءمة أو الملاءمة بين العقلانية والاقتصاد وما هو أخلاقي وما هو عادل، وبعدما أظهر أنها استنفدت إمكاناتها المنهجية والعلمية والإمبيريقية في تفسير السلوك الانتخابي، سيضع المتلقي أمام ما أسماه بدائل لفهم السلوك الانتخابي.
وقد افتتحها بمجموعة من المحددات والمكونات، معتبرا إياها الأساس الحاسم في توجيه سلوك الناخبين في السنوات الأخيرة، في تأكيد منه على التحولات الهامة التي طرأت على سلوك الناخبين وأساليب تصويتهم، وذلك استنادا إلى استنتاجات العديد من الباحثين من دراسات أنجزوها في العديد من الدول الديمقراطية، بعضها خلص إلى ظهور "أنواع جديدة من التصويت، مثل التصويت النافع والتصويت العقابي والتصويت الإنذاري"، وهو ما يؤكد ميل هذا النوع من الناخبين إلى تحقيق استقلالية عن الكتل الناخبة، سواء أكانت حزبية أم دينية أم نخبوية أم كتل أطر عليا. وذهبت أبحاث أخرى إلى ضرورة استحضار المحددات النفسية والانتماء السياسي والهوياتي والرمزي، في استبعاد لكل ما هو نفعي واقتصادي مباشر. فيما ذهب اتجاه آخر إلى تأكيد عدم وجود ناخب عقلاني ذي استراتيجية واضحة ومحددة، وإنما ذي عقلانية فردية، محدودة، مرتبطة بسياقاته الخاصة. بينما ذهبت أبحاث أخرى إلى استبعاد تفسير سلوك الناخبين بحصولهم على فائدة ما، لأن هذا المفهوم نسبي ومتغير، حسب تصور كل ناخب، إذ منهم من يراها في الرضا الشخصي المادي، وآخر يراها فيما هو أخلاقي، وغيره يجدها في ما هو عاطفي، وغيره يحددها في ما هو جماعي. أما دراسات أخرى فترى أن المفهوم الأنسب لتفسير سلوك الناخبين هو "الواقعية" وليس "العقلانية". في حين ذهب اتجاه إلى استحضار التأثير المتبادل للرجل والمرأة في تحديد سلوكهما الانتخابي، دون أن يعني ذلك أن هذا النوع من السلوك الانتخابي ليس عقلانيا، بل ترى فيه نوعا من العقلانية العالية، لأنها عقلانية نابعة من محددات الأسرة ووضعها الاجتماعي والثقافي وتقييمها الخاص للأشياء.
علاقة الفقراء بالسياسة (في تشريح المفارقة):
يشكل هذا الفصل المحور المؤطر لكل فصول الكتاب، حيث ينطلق الباحث هنا أيضا من طرح مجموعة من الأسئلة الهامة والدقيقة التي سيبني عليها دراسته، من بينها الأسئلة الآتية:
هل صحيح أن الفقراء يصوتون لصالح التغيرات السياسية الأكثر تطرفا؟
هل وصول الإسلاميين إلى الحكم في السنوات الأخيرة كان نتيجة تصويت الفقراء لصالحهم بكثافة؟
هل تؤدي الوضعيات الاجتماعية الهشة إلى تبني سلوكات سياسية مختلفة أو متطرفة أم تؤدي إلى الانسحاب من المجال السياسي؟
هل هناك تأثير للفقر على الاندماج الاجتماعي الوطني؟
انطلق الباحث من أن التصويت هو قطب الرحى في النظام السياسي الديمقراطي، حيث يشكل من جهة الأداة الفعالة والحاسمة في اختيار الناخبين لمن ينوب عنهم في الحكم، ومن جهة أخرى التعبير الأمثل لولائهم للحكام والنظام السياسي بإرادتهم الحرة، فضلا عن تأكيد انتمائهم الفعلي للوطن.
شكلت أطروحة الباحثة ميرييل بيج (Bègue) عن علاقة الأشخاص في وضعية هشة بالسياسة في دول إسبانيا وفرنسا وبريطانيا، والقائلة بأن الفقر لا يدفع الفقراء بالضرورة إلى تبني خيارات متطرفة، وإنما يكتفون فقط باللامبالاة والابتعاد عن السياسة، براديغما ملهما للباحث، حيث سيختبره في دراسته لعلاقة فقراء المغرب بالسياسة، ليثبت أو ينفي الاستنتاج الذي انتهت إليه الباحثة ميرييل بيج بخصوص الدول الغربية الثلاث. وليتأكد أيضا هل يشعر فقراء المغرب بحماية الدولة لهم بالشكل الذي يجعلهم يفتخرون بالانتماء إليها؟ وأين يمكن أن نصنف فقراء المغرب ضمن الأصناف الأربعة التي حددتها هذه الباحثة لعلاقة الفقراء بالسياسة؟ هل في صنف غير المبالين أم المتشائمين أم المحتارين أم المخلصين؟
انطلق الباحث في جوابه عن تلك الأسئلة من عرض ومناقشة تصور كل من روبر بوتنان وبيير روزنفالون للديمقراطية في المجتمعات الحديثة باعتبارها ديمقراطية غير مكتملة (Démocratie inachevée)، مؤكدا أن الديمقراطية ليست فقط آلية، بل هي أساسا ثقافة تفترض أن يكون المواطنون على وعي بها، باعتبارها الأداة الفعالة لضمان حقوقهم والتحكم في مصيرهم عن طريق مشاركتهم في الانتخابات.
في تحليله لصنف الناخبين "الحائرين"، نبه الباحث إلى أن ضمور الإيديولوجيا جعل هذا الصنف من الناخبين يرى العالم أكثر تعقيدا، وهو ما يتطلب تقديم الكثير من التنازلات السياسية والاقتصادية، لا سيما في ظل اختفاء الخطاب السياسي المثالي لليسار عن الحد من الفقر والبطالة والتهميش وعدم تحقيق تلك الوعود الانتخابية التي كانت تشكل دائما صلب برامجه الانتخابية. مما أدى إلى فقد مناصريه المخلصين من الفئات الفقيرة والهشة ممن لم يعودوا يصوتون لصالح أحزاب اليسار. بل يصوتون لصالح أحزاب يمينية متطرفة وشعبوية.
الفقراء والتصويت "تحت الطلب":
خلال إجابته عن سؤال هل يصوت الفقراء تحت الطلب؟ أقر الباحث بذلك، محددا أسباب هذه الظاهرة في استغلال وضعية الفقراء الهشة، واستخدام المال في الدوائر الانتخابية الفقيرة للحصول على أصوات الناخبين، منبها إلى أن ذلك يتم أحيانا في غفلة من السلطة وأحيانا أخرى تحت أنظارها، مضيفا أن ذلك يخص الدول حديثة العهد بالديمقراطية.
عناصر القوة والتميز في هذا العمل:
4-1. لا يكتفي الباحث بعرض المعطيات والإحصائيات التي تنجزها المندوبية السامية للتخطيط ووزارة الداخلية المغربية، وإنما يحللها ويظهر سمات القوة والضعف فيها، ويقدم ما يراه بديلا مقنعا عنها. فيرى مثلا أنه لا يكفي أن ندرج استراتيجيات لمقاربة الفقر، بل لا بد من الحد من التفاوت الاقتصادي والاجتماعي وإقرار المساواة وخلق الثروات بشكل عادل. وقد انتهى بعد الدراسة والمقارنة إلى أن الفقر في المغرب قروي بالأساس؛ إذ يتركز بشكل واضح في جهة درعة تافيلات وبني ملال خنيفرة وجهة مراكش آسفي وجهة الشرق، حيث النسب مرتفعة تتراوح بين 5 إلى 9 في المائة.
كما أنه لا يقف عند مستوى التحليل، وإنما يقوم أيضا بتأصيل المفاهيم المحورية المؤسسة، مثل الديمقراطية والسياسة والأحزاب والانتخابات وغيرها. وهو ما ييسر للمتلقي عملية الفهم والاستيعاب، ويحفزه بالتالي على مواصلة قراءة ما تضمنه هذا العمل، لا سيما أنه مشبع بالأرقام والنسب والإحصاءات، فضلا عن ذلك الفرش النظري الهام والعميق للأسس النظرية والمنهجية، سواء للموضوع الرئيس أو للموضوعات الفرعية، وانتهاء بالاستنتاجات التي خلص إليها في كل فصل من الكتاب، خاصة تلك المتعلقة بالانتخابات في علاقتها بالفقر والفقراء.
وإذا كان ذلك يؤكد مرة أخرى تمكن الباحث من موضوع الانتخابات، بحكم تمرسه على البحث في هذا الموضوع ذي الصلة بالنخب منذ دراسته القيمة عن النخبة السياسية والسلطة (1997)، فإن كتاب "أصوات الفقراء" يكشف الوجه الآخر الذي يُحكمه الباحث، ألا وهو المعرفة العميقة والخبرة الدقيقة بسوسيولوجيا الفقر. لكن ما يجعل هذه السوسيولوجيا التي تبناها الباحث مميزة، هو أنها سوسيولوجيا غير تقنية، أو نمطية مدرسية، كما نقرأ في بعض الأعمال، وإنما هي سوسيولوجيا موسعة ومرنة، تؤكد من جهة تمكن الباحث من أدوات ومناهج البحث السوسيولوجي، وتكشف من جهة أخرى عن ثقافة واسعة يمتلكها، تتجلى في انفتاحه على علوم عدة مثل اللسانيات وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي وعلم التاريخ والأنثروبولوجيا والابستمولوجيا والاقتصاد. وهذا واضح في المنهج الذي تناول به موضوع أصوات الفقراء وفي الطريقة التي وظفها في تقديم مقاربة مختلفة ومميزة لهذا الموضوع. كل ذلك يسمح لنا بأن نصنف هذا العمل في إطار السوسيولوجيا الرحبة؛ تلك السوسيولوجيا التي تتحرر من القيود الصارمة للمنهج، لتؤسس لنفسها إطارا مرنا وموسعا، تتكامل فيه عدة علوم وحقول معرفية، وتتقاطع فيه عدة براديغمات، منها ما ينتمي إلى المدرسة الفرنسية، (أندري سيجفريد 1964) ومنها ما يمثل المدرسة الأمريكية (لازار سفيلد 1952 وجزيف سيمبيوتر وأنجوس كامبل 1960) وغيرهم.
في تأصيل المفاهيم:
من جوانب القوة في هذا العمل أيضا، عدم اقتصار الباحث على دراسة ومناقشة القضايا والمفاهيم الكبرى مثل السياسة والديمقراطية والإيديولوجيا والانتخابات والتصويت، بل يعمد أيضا إلى البحث في أصول المفاهيم وتحديدها وضبطها والوقوف عند الفروق الدقيقة بينها، كما هو الشأن مثلا في تمييزه بين "عملية شراء الأصوات" و"التصويت الزبوني"، ذلك أن دراسة الانتخابات في كثير من المحطات والمواقع تثير الانتباه إلى ضرورة الفصل بين عملية شراء الأصوات التي تتم في لحظة الانتخابات حسب آليات السوق العادية، والتصويت الزبوني الذي يدخل في إطار بنية العلاقات الاجتماعية الموجودة داخل كثير من المجتمعات، حيث تأخذ الظاهرة الزبونية مكانة هامة في هذه العلاقات خلال الفترات الانتخابية، والفترات العادية والمواقع.
نبه الباحث إلى مسألة هامة، تتعلق بطرق تعامل السوسيولوجيا وعلم السياسة مع مفاهيم وبارديغمات من منظور غير تقليدي، كما هو الشأن مثلا مع "الظاهرة الزبونية" التي شكلت تحديا بالنسبة للسوسيولوجيا. وقد حدد لها "ثلاثة صفات أساسية" هي التضامن والهرمية والاشتغال كأداة للسلطة بغايات متعددة. إنها تقتضي من الزبون ولاء مشروطا ومستمرا ومتواصلا، ومن السيد/الحامي وفاء بالتزاماته تجاه الزبائن، وهذا ما يشكل مبدأ التضامن بين الطرفين مع أدوار مختلفة. يطلق الباحث على "الزبونية" السلطة الناعمة، البعيدة عن العنف والقهر والضغط والإكراه. إنها تضمن بنعومة مصالح السيد/الحامي ومصالح الزبون، وفق شروط وقواعد متفق عليها سلفا، فيما يشبه عقدا ضمنيا. غير أن الباحث أكد على محددات أخرى تحكم هذه العلاقة، تتمثل في الهرمية والسلطة، أما "الهرمية" فهي قبول الزبون بموقع الزبون المحتاج دوما لحماية السيد، فيما يقبل هذا الأخير بموقعه كحام مخلص، متفان ودائم للزبون، مستندا في إنجاح هذه العملية إلى وسطاء محنكين ومجربين. وأما "السلطة" فتتمثل في حصول السيد/الحامي على موقع في رئاسة جماعة أو عضوية برلمان، والاستمرار فيها أطول مدة ممكنة، حتى يضمن استفادة زبائنه، كي يستمروا هم بدورهم في تنفيذ ما يطلب منهم. وهكذا تكون الاستفادة متبادلة والمصالح مقتسمة بن الزبون والسيد/الحامي.
نبه الباحث كذلك إلى أن "الزبونية" بمحدداتها وتلاوينها المذكورة سابقا، وضعت تحد كبير على البراديغم التقليدي في السوسيولوجيا، الذي يستند إلى النموذج الرأسمالي القائم على العقلانية والاقتصاد الصناعي، الحر فقط، دون الاهتمام بالنماذج الأخرى ذات الأسس القبلية والدينية والقرابة، التي يرى فيها الباحث مظهرا من مظاهر ضعف الإنسان، وليس قوته، مادام هذا الأخير قد آثر أن يكون زبونا للأمن بدل العدالة وللسلطة عوض المساواة والتواطؤ بدل التداول. وهو ما يشكل في نظر الباحث تشويشا للزبونية على الحداثة التي من أبرز سماتها الإعلاء من شأن الفرد الحر، حيث يفقد هذا الأخير تلك الحرية لصالح الجماعة المرتبطة بالسيد الحامي، والمستعدة للتضحية بأهم مكتسبات الحداثة وهي الحرية واستقلالية القرار، من أجل الحصول على تلك الحماية. بل إن الكاتب يذهب أبعد من ذلك حين يرى في الزبونية ليس فقط ضربا للحداثة والحرية الفردية، وتمكين الجماعة اللاعقلانية من التغلغل في المجتمع، وإنما وهذا هو الأخطر، "تحطم مبدأ الثقة في القانون، لأنها تمنح إمكانية الالتفات عليه، كما تدافع عن تصور للقوانين مبني على تضامنات انتهازية ضرورية. وأخيرا فإنها تشجع على قبول التعسفات اليومية، والتطمينات الدينية، ودفئ العلاقات القرابية والإيمان بالقدر والصداقة وحب الغير، كما تعلي من شأن الدهاء والامتيازات والتمييز والوساطة والشعبية".
الديمقراطية والانتخابات:
هنا يمكن أن نتساءل، ألم تمارس مثل هذه السلوكات والممارسات غير القانونية وغير الأخلاقية باسم الديمقراطية نفسها وإن بشكل مقنع، مما يجعلنا نعيد النظر في مضمون هذه الديمقراطية ذاتها؟ وهل حقيقة تشكل الديمقراطية الأداة الأسلم والأنجع لضمان انتخابات حرة ونزيهة وبعيدة عن الزبونية؟ وهل هؤلاء المنتخبون الذين تجمعهم قبة البرلمان يمثلون حقا الإرادة الشعبية أم يمثلون فئة أو أقلية أدركت وفهمت قواعد اللعبة السياسية وتمكنت من خلال ما هُيئَ ووفر لها من ظروف وآليات وامتيازات مادية ورمزية من التصويت على فئة قليلة من المنتخبين، فيما يشبه تقاسم الأدوار، بين زبائن وأسياد، وإن بصيغة وشكل مغايرين تحت مسمى الديمقراطية الانتخابية؟ ألا يمكن الحديث هنا بالذات عن نوع من الديمقراطية "على المقاس" أو ديمقراطية "مفبركة"؟
نحو سوسيولوجيا موسعة:
من مظاهر عمق هذه الدراسة أيضا، انفتاح الباحث على علوم وحقول معرفية أخرى مثل الأنثروبولوجيا والقانون وعلم السياسة والتحليل الثقافي والابستمولوجي، وقد اتضح ذلك في دراسته وتحليله لعدة مفاهيم وقضايا، وهو بذلك ينفك من أسر التعريف السوسيولوجي الضيق حين لا يسعفه في ضبط العديد من المفاهيم. واستنادا إلى ذلك، يرى الباحث أن "الزبونية" ظاهرة ثقافية وليست مجرد تبادل للمصالح الآنية أو الظرفية. بل إنه خص هذه الأخيرة بعنوان يؤكد عمق العلاقة بين هذه المفاهيم والأنثروبولوجيا سماه: الأنثروبولوجيا والزبونية.
هنا يمكن أن نطرح السؤال عن مدى كفاية السوسيولوجيا التقليدية في دراسة وتحليل مجموعة من الظواهر والمفاهيم المركبة والمستجدة؟ ألم يحن الأوان مثلا لكي نتحدث عن سوسيو-أنثروبولوجيا أو سوسيو-علم سياسة؟ لعل هذا البعد هو الذي نبه إليه الباحث حين أشار إلى عجز السوسيولوجيا في إعطاء تفسير للظاهرة الزبونية ذات البعد الكوني، الشيء الذي نجحت فيه الأنثروبولوجيا، معتبرة أن الزبونية مسألة ثقافية تتجاوز مجرد تبادل ظرفي لمنافع بين السيد/الحامي والزبون. إنها مرتبطة بطبيعة المجتمعات وتعدد رؤاها لعلاقة الفرد بالجماعة ومفهوم العطاء والأخذ.
من مظاهر قوة هذا العمل أيضا نزوع الباحث إلى ترك مسافة زمنية بينه وبين موضوع بحثه، حتى تجتمع له كل المعطيات والعناصر التي تساعده على النظر بعين الخبير غير المتعجل لاستخلاص النتائج أو إصدار أحكام أو تصورات لها سند واقعي وعملي. وهذا واضح في جميع أعمال الباحث، وليس فقط في هذا العمل الجديد. وهنا يمكن أن نطرح السؤال: من الأولى؟ أن تدرس السوسيولوجيا المواضيع والقضايا والظواهر في أوانها، أي وهي جارية؟ أم من الضروري أن ينتظر الباحث الفترة الكافية حتى تستقر الظاهرة مثلا ويشرع بعد ذلك في دراستها وتحليلها، ومن ثمة استخلاص نتائج منها مبنية على تحليل دقيق وعميق ودراسة وافية وغير مستعجلة؟
الجماعات الترابية القروية.. اختصاصات هامة وواقع بئيس:
تناول الباحث في الفصل الرابع الأدوار المخولة للجماعات، فأبان عن قدرة هائلة في تحديد وضبط الجماعات وأدوارها، انطلاقا من الاختصاصات الهامة التي حددها لها دستور 2011، إلا أن الباحث كشف عن الصعوبات الكثيرة والعوائق الكبيرة التي تعيشها معظم الجماعات، لا سيما في الجهات الأشد فقرا، وفي مقدمتها جهة الشرق.
كما أفرد الباحث الفصل الخامس لدراسة الانتخابات الجماعية للرابع من شتنبر 2015. وقد أظهر في هذا الفصل قدرة كبيرة على ضبط موضوع الانتخابات وكل ما يتصل بها، سواء ما تعلق بالأحزاب والمنتخبين أو ما تعلق بالناخبين والأصوات الانتخابية، وغير ذلك.
ختم الباحث كتابه بالإجابة عن سؤال هام جدا، يبدو في نظرنا بؤرة هذا العمل، ألا وهو: لمن يصوت الفقراء؟
أفصح في بداية هذا الفصل عن الصعوبات التي واجهته خلال عملية دراسة وتحليل أصوات الفقراء في المغرب ومن الأولى؛ هل دراسة الانتخابات العامة التشريعية أم الجهوية أم الجماعية؟ حيث انتهى بعد تفكير طويل إلى اختيار هذه الأخيرة، مبررا اختياره بعدة اعتبارات، منها أنها انتخابات القرب التي تسجل أعلى نسب التصويت، فضلا عن الاختصاصات الكثيرة والهامة التي خولها دستور 2011 للجماعات، إضافة إلى أن الجماعات هي التي تجسد التمثيل الحقيقي والواقعي للفقر في المغرب، خلافا للانتخابات التشريعية حيث المزج بين عدة دوائر متفاوتة في إمكاناتها الاقتصادية، أو الانتخابات الجهوية حيث التصويت يخضع لبرنامج الجهة التي تضم جماعات مختلفة، مما لا يعبر عن حقيقة الاختيارات السياسية والسلوك الانتخابي للفقراء موضوع الدراسة.
هل حمل هذا العمل إضافات نوعية لما سبق أن أنجز سوسيولوجيا في الموضوع؟
إذا كانت عناصر القوة والتميز باديتين بشكل واضح في طريقة الباحث في عرض مختلف البارديغمات ومناقشة أهم القضايا المرتبطة بها في دراسة وتحليل الفقر عامة في الفصول السابقة، فإن الباحث قد أبان في هذا الفصل عن تمكن واضح في تشريح الفقر في المغرب. فبعد عرض مستفيض لاختصاصات الجماعات وأدوارها الجديدة والهامة في الدستور المغربي لسنة 2011، وقف عند مجموعة من العوامل الكابحة، التي تحول دون تفعيل تلك الأدوار الهامة التي خصها بها الدستور المغربي، لا سيما بعد إقرار الجهوية المتقدمة. ومما أسعف الباحث في التعمق في هذه الجوانب وتحليلها بعمق ودقة، تَمَكنُهُ من أدوات علم السياسة وما يتعلق بالمجال الترابي والإداري بشكل خاص. فضلا عن حسن قراءاته للمدونات السياسية والقانونية، واستثمارها بذكاء في تحليل ودراسة مثل هذه المواضيع التي تهم الظواهر الاجتماعية والسياسية، ليس بعين السوسيولوجي التقني أو الوظيفي، وإنما بعين المثقف والخبير العالم بأدق تفاصيل تلك الظواهر والأساليب والمناهج الأقدر على تحليلها ودراستها بدقة وعمق ليس كظواهر معزولة ولكن في ارتباطها بما هو نفسي واقتصادي وسياسي وثقافي وفكري، أي في بعدها الإنساني الشامل.
هكذا، وبعد أن قدم الباحث خصائص كل جهة من الجهات الستة عشرة المكونة لمجموع التراب المغربي، استنادا إلى إحصائيات ومعطيات وزارة الداخلية والمندوبية السامية للتخطيط لخريطة الفقر لسنة 2015، خلص إلى النتائج الآتية:
إذا كانت جماعة أولاد امحمد المنتمية لجهة الشرق تعد أفقر جماعة في المغرب؛ إذ شكلت نسبة الفقر فيها 86%، تليها جماعة بوشان في إقليم فجيج بنسبة 85 %، فإن نسبة المشاركة في الانتخابات الجماعية فيهما، وفي الجهة عموما، تعد من أعلى نسب المشاركة في المغرب، وهو ما يشكل مفارقة، فسرها الباحث بالقول: "يبدو أن علاقات القرب والجوار والثقة انتصرت على الكفاءة والشواهد العلمية".
ويبدو لي أن هذا التفسير من بين أهم الاستنتاجات التي ضمها هذا العمل. لا سيما أنه جاء مناقضا لما كان متوقعا بشأن العلاقة التي تحكم فقراء المغرب بالسياسة والانتخابات. وكأن الفقر بدل أن يكون مانعا من اهتمامهم بالسياسة وعزوفهم عن التصويت، كان عاملا مساعدا ومحفزا لتصويتهم القوي في الانتخابات بنسب هي الأعلى في المغرب.
تمكن الباحث بفضل الاعتماد على المنهج الإحصائي والمعطيات الرقمية من استخلاص نتائج هامة ساعدت هي الأخرى في فهم ظاهرة الفقر في المغرب وعلاقة الفقراء بالسياسة والانتخابات والتصويت بشكل خاص في القرى.
خلص إلى أن الفقر قروي بالأساس، لكنه وبخلاف ما في تجارب الدول الأخرى الأوروبية وغيرها لا يدفع إلى العزوف عن السياسة، بل "يدفع الفقراء إلى الانخراط فيها". وهذه مفارقة تحتاج لمزيد من التحليل والدراسة. وإذا كان هذا الاستنتاج يبدو لافتا للنظر وغير متوقع، فإن الباحث أقام مجموعة من الأدلة التي تثبته، حيث إنه لا يخص جهة واحدة، بل يهم جميع الجهات.
من بين الاستنتاجات اللافتة للنظر كذلك، ما ذكره الباحث بشأن الدوافع والأسباب التي تجعل جماعة شديدة الفقر، مثل جماعة "زاوية سيدي قاسم" في إقليم تطوان، تمنح معظم أصواتها لمستشارين ينتمون لحزب التقدم والاشتراكية ذي الأصول الشيوعية. مستنتجا أن ذلك "لا يعني بأي حال تمكن حزب المرحوم علي يعتة من اكتساح البوادي المغربية ونشر الأفكار اليسارية والشيوعية، كما كان يحلم بذلك مناضلو الحزب، بل يعني فقط أن الحزب قد نجح في تزكية مترشحين يحظون بشعبية كبيرة في الجماعة. وهذا دليل آخر على أن تصويت الفقراء في المغرب مبني على عناصر القرابة والجوار والثقة، وليس البرامج الانتخابية أو مستوى التنظيم والتأطير الحزبي للمنخرطين والمواطنين عامة.
إن ما سماه الباحث "شعبية المترشحين" يؤكد الاستنتاج الذي انتهى إليه سابقا، أي دور القرابة والثقة والجوار في تحديد اختيارات الناخبين. وهنا يطرح السؤال: ألا يمكن القول إن هذا النوع من السلوك الانتخابي لهؤلاء الفقراء يعد هو الآخر "سلوكا عقلانيا" مادام يندرج في ما يشبه التعاقد الضمني بين المرشح والناخبين، الذي يضمن للطرفين مصالح متبادلة تكون ممكنة التحقق مقارنة بتلك الوعود الانتخابية التي غالبا ما تبقى مجرد خطابات سرعان ما تتلاشى بانقضاء أجل الحملات الانتخابية؟
أكد الباحث أيضا أن الوضعية الاجتماعية للناخبين لا تتدخل في تحديد اختياراتهم الانتخابية، في إشارة تؤكد إلى أن المحدد الحاسم في اختيارهم هو القرابة والثقة والجوار. حيث يتكرر هذا التأكيد كلما انتهى الباحث من دراسة وتحليل النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات الجماعية للرابع من شتنبر 2015 في كل جهات المغرب. من ذلك قوله في تفسير تصويت جماعة أسايس، وهي أفقر جماعة في جهة مراكش-آسفي، لصالح حزبين يساريين هما حزب التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي: "هذا غير معهود في الجماعات القروية، الفقيرة على وجه الخصوص، ولكنه يجد تفسيره في حسن اختيار الحزبين لمترشحيهم في الجماعة".
من الاستنتاجات الهامة أيضا، ما ذهب إليه الباحث في تحليله لتصويت الفقراء على الصعيد الوطني، حيث اعتبر أن "الفقر لا يشكل عامل إقصاء سياسي كما أظهرت التجارب في دول أخرى، حيث يميل الفقير إلى الانعزال والنأي عن السياسة، بل إن الجماعة الأكثر فقرا تبدي على العكس من ذلك رغبة شديدة في الاندماج القوي بالوطن وتؤمن بأن الدولة ومؤسساتها هي الكفيلة بمساعدتها على الخروج من وضعية الفقر التي توجد فيها".
القرابة والوجاهة والنفوذ محددات حاسمة في توجيه سلوك الناخبين المغاربة عامة والفقراء خاصة:
قدم الباحث تفسيرا لارتفاع نسبة المصوتين المغاربة في الجماعات الفقيرة كما الجماعات الأقل فقرا في القرى، مقارنة بالمدن، لصالح أحزاب الأصالة والمعاصرة والاستقلال والتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية، بكونه أمرا طبيعيا، لكون هذه الأحزاب ترمي بكل ثقلها التنظيمي والانتخابي في القرى المغربية منذ فترة طويلة، بحيث شكلت القرى معاقلها الانتخابية المحصنة ضد أي اختراق حزبي منافس. لكن السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو لماذا يصوت المغاربة بكثافة لحزب العدالة والتنمية في المدن أساسا؟ هل يعود الأمر إلى ارتفاع مستوى التعليم لهؤلاء الناخبين؟ وهل يعود إلى ثقتهم بالبرامج الانتخابية لهذا الحزب التي تركز على الشق الاجتماعي ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية وتخليق الحياة السياسية، فضلا عن توظيفها للمرجعية الدينية، خاصة وأن معظم التقارير الوطنية والدولية تؤكد ميلا قويا لنسبة هامة من المغاربة نحو التدين؟ أم إن لذلك أسبابا أخرى، أشار الباحث إلى جزء منها بصيغة لا تفيد الحسم أو التأكيد، حين قال: "ربما يمكن تفسير ذلك بالمستوى المتدني لمعظم الناخبين في هذه الجماعات الفقيرة".
أما بخصوص النقلة التي أنجزها حزب التقدم والاشتراكية ذي المرجعية اليسارية – الشيوعية، الذي كان دائم الحضور في المدن حيث فئة العمال والنقابات والفئات الكادحة، إلى الحضور اللافت في القرى في الانتخابات الجماعية للرابع من شتنبر2015، فسرها الباحث "بحسن اختراقه للعالم القروي ونجاحه التنظيمي في أقاليم ذات طابع مهيمن، واختياره لأفضل المرشحين الذين يحظون بثقة الناخبين".
لقد أدركت الأحزاب المغربية أن القرابة والجوار والثقة والنفوذ والوجاهة والعلاقات الراسخة محددات أساسية في توجيه سلوك الناخبين المغاربة عامة، والفقراء منهم بخاصة، فهم لا يهتمون في الغالب بالبرامج الانتخابية ولا بالتاريخ النضالي للأحزاب ولا بما تملكه من رصيد في التنظيم والتأطير والتوعية، لذا تتصارع الأحزاب فقط من أجل "اقتناص أفضل الوجوه وإقناعها بالترشيح معها". لكن ما المراد "بأفضل الوجوه"، هل يتعلق بالكفاءة السياسية أم المالية أم الفكرية والثقافية أم الرمزية أم إن الأمر يتعلق بأفضلية مرتبطة بالنضال الحزبي، وما ارتسم في أذهان الناس عن تلك الوجوه المترشحة، أم يعود إلى مؤهلات وعناصر أخرى بعيدة عن الأخلاق السياسية والتنافس الشريف؟
أما السؤال الأكثر أهمية والأشد إثارة، هو السؤال الذي ختم به الباحث عمله: هل يبيع المغاربة أصواتهم؟
بعد التحليل والدراسة والمقارنة، انتهى الباحث إلى أنه في غياب المعطيات الدقيقة والدلائل الثابتة، يمكن الحديث فقط عن ما سماه "التصويت الزبوني الذي ينشأ من خلال تلك العلاقات التي ينشئها الأعيان ورجال السياسة والراغبون في احتلال مواقع انتخابية محلية أو وطنية مع محيطهم الصغير ويعملون على توسيعها لتضم أكبر عدد من ممكن من الأشخاص، ويحرصون على تقوية هذه العلاقات واستدامتها حتى فترة الانتخابات، بتقديم مختلف أنواع الخدمات وإقامة الحفلات والولائم والحضور في الأعراس والجنائز وتقديم الدعم للمحتاجين، مما يكسبهم مكانة وسمعة طيبة داخل شبكة علاقاتهم، أي زبائنهم، وداخل الجماعة التي ينتمون إليها، الأمر الذي يجعلهم يستقطبون زبائن جددا".
هل يمكن اعتبار ما ذكره الباحث هنا تفسيرا أم تعليلا أم تبريرا لسلوك الناخبين والمرشحين؟ ألا يمكن اعتبار ما سماه الباحث "بالتصويت الزبوني" بيعا وشراء للأصوات؟ ألا يكفي الحديث عن وجود "زبون ما" للإقرار بوجود عملية بيع وشراء مكتملة الشروط، حتى ولو اتخذت أساليب مقنَعة، مثل تبادل المصالح والمنافع وغير ذلك من المسميات الرخوة والمائعة؟ ألم يسع الباحث حين اكتفى بالقول بوجود "تصويت زبوني" في ظل عدم وجود أدلة ومعطيات ثابتة، إلى تحاشي الإقرار بأن فئة من المغاربة تبيع فعلا أصواتها الانتخابية؟ ثم أليس في تفسير الإجابة بالنفي أو الاكتفاء بوجود "تصويت زبوني" بمبرر أن ليس للمرشح في الجماعات الفقيرة ما يقدمه أو ما يبيعه للناخب، سوى تلك الوعود بقضاء بعض الأغراض والمصالح وتلبية بعض الحاجات المحدودة، مادامت موارد تلك الجماعات تكاد تكون منعدمة، هو إقرار ضمني بوجود بيع وشراء؟ لا سيما أنه أشار إلى إمكانية أن يلجأ مرشحون في جماعات أخرى تمتلك موارد ومؤهلات إلى زبائن من أجل الفوز بالجماعة التي ستؤهلهم بعد ذلك للترشح لرئاسة المجلس الإقليمي أو عضوية مجلس المستشارين.
إن قارئ هذا العمل العلمي ستستوقفه في نظرنا ثلاثة عناصر مميزة ومتكاملة هي: الاجتهاد والجودة والجدة. خصائص ثلاثة إذا وصلناها بمجموع الكتب التي أصدرها الباحث حتى الآن، سيتبين لنا أنها تشكل مشروعا سوسيولوجيا مميزا، فيه بصمة خاصة لهذا الباحث الذي يسعى حثيثا لتوسيع موضوع ومجال وأدوات السوسيولوجيا، يمكن أن نسميها بالسوسيولوجيا الموسعة أو الرحبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.