اختار الكاتب المغربي عمر علوي ناسنا جانبا غير مطروق من قضية المجرم الاسباني "دانيال" الذي اغتصب 11 طفلا مغربيا، وحظي بالعفو الملكي عنه، حيث سلط الضوء على العديد مما اعتبرها فوائد وثمار لأزمة قرار العفو الملكي عن "البيدوفيل" الاسباني. وبسط نانسا، في مقال توصلت به هسبريس، تلك الثمار التي أينعت من خلال قضية المغتصب الاسباني، ومنها أن الحكومة تفهم المغاربة كشعب لقيط يقبل بنخاسة رمزية مقيتة ويتاجر بأطفاله، ومنها أيضا مراجعة بنية العفو وتفاصيله، وإبعاده عن المزاجية والأهواء". ولفت القاص والشاعر ذاته إلى فوائد أخرى لا تقل أهمية، ومن ذلك أن "الدولة المخزنية مازالت حية، وأن السلطة تختبر وجودها بالدم"، فضلا عن يقظة المغاربة، وعودة "الربيع المغربي في صيف قائظ"، على حد تعبير صاحب المقال الذي تنشره هسبريس: ثمار الأزمة...قراءة في فوائد أزمة قرار العفو الملكي من حسنات الأزمات السياسية أنها تضع على المحك آلة التدبير وتختبر بصرامة جدية التعاطي مع تفاصيل الأمور ومجريات الأحداث. من حسنات الأزمات السياسية أنها بلاغ عام حول الفاعلين الارتكازيين وحول خلفياتهم والأسنن الثقافية التي تحكم تدبيرهم ورشدهم في المعالجة؟ وبصرف النظر عن الصخب الذي خلقته أزمة العفو الملكي عن الإسباني مغتصب الأطفال المغاربة فقد أثمرت هذه الأزمة وجنى منها المغاربة كثيرا من الفوائد ماكانت معطيات السياق السياسي ستجود بها في ظل استمرار لغة الصمت والنفاق في علاقتنا بالمعاني السياسية وتأويلاتها في المشهد المغربي. ففي الوقت الذي تناقضت فيه مؤسسة الحكومة مع القصر بخصوص تأويل العفو عن المغتصب، ظهر للعيان أن الحكومة تورطت في البداية في موقع تبرير الخطأ وتقديمه للمغاربة في صورة ذكاء سياسي يضع المصالح الإستراتيجية للدولة المغربية فوق كل اعتبار، ويرجح كفة الرضا الدولي والرحمة الإسبانية على الجرح المغربي وعلى امتداداته الاجتماعية والنفسية، فيصبح العفو قرارا اتخذ في إطار العلاقة بين ملكين، في إشارة إلى الملك الإسباني خوان كارلوس والملك المغربي محمد السادس. المشكلة هنا تحديدا هو قراءة الحكومة لوجهة نظر المغاربة، واعتقادها أن العقل الاجتماعي والثقافي المغربي يستضمر مثل هذه المقايضة ويرضى بها في إطار وطنية دموية ومواطنة سادية تقضي بجعل صراخ أطفالنا خلفية موسيقية لمشهد العلاقات الإسبانية المغربية. إننا أمام حكومة تسيء الظن بالعمق الأخلاقي والديني للشعب المغربي، وتفهمه كشعب لقيط وابن حرام، شعب بلا أخلاق، شعب يقبل بنخاسة رمزية مقيتة ويتاجر بأطفاله وبجراحهم، ويسوق عذاباتهم في مزايدة محتدمة في البورصة الدولية للظفر بسيروم الاستقرار السياسي والاقتصادي لبلد يبدو أنه يحث خطاه نحو انهيار اقتصادي وشيك. المشكلة التأويلية الثانية تتعلق بنظرة الحكومة للقصر باعتباره يمكن أن يصدر عنه مثل هذا الحس البراغماتي الذي يسفح دم الطفولة قربانا لتقارب استراتيجي لم تحققه حتى الاتفاقية المخزية بخصوص الصيد البحري، تلك التي صيغت بطريقة فيها إهانة حقيقية للمرجعية الاقتصادية المغربية ومساومة تفتقر للذكاء السياسي تلعب على أكثر من حبل للحفاظ على توازنات يحكمها عمر قصير ستفضحه الأيام والحقائق المقبلة. وجهة نظر الحكومة، حسها التبريري، ركضها نحو القصر لتخصف عليه من ورق الوهم يفضح نظرتها للقصر والشعب معا، وإذا صح رأيها فنحن أمام قصر وشعب يسيئان تقدير الطفولة المغربية، والحال أن المغاربة لن يقبلوا بحكومة تسيء الظن بشعب لا يساوم ولا يقايض بكرامة أطفاله ورود وزينة مستقبله. الحكومة معنية بتجاذباتها مع القصر مدا وجزرا، وهما وحقيقة، بيعا وشراء، لكن هذا لايفوض لها أي حق بخصوص المتاجرة بسمعة المغاربة وعلاقتهم بأطفالهم ضمن الأفق الأخلاقي والإنساني الذي يعيشه ويتنفسه المغاربة الأحرار. الفائدة الثانية المتحققة في سياق هذا السجال الغريب، هو وقوف كثير من المحللين على أن بنية القرار المغربي خصوصا في الأمور السيادية بات موضع سؤال ومناط بحث، وأصبح السؤال المحوري هل مايصدر عن القصر هو قرار القصر؟ وهو أمر يشبه العدوى الإسنادية التي عاشتها الحكومة المغربية في أيامها الأولى حيث كان كل طرف فيها يعتبر نفسه ناطقا رسميا بها وبدل قرار واحد توحده مرجعية محددة ومسؤولة أصبحنا أمام حكومة لها أكثر من رأس وأكثر من فم وأكثر من منبر. سفينة لها أكثر من ربان فكان طبيعيا أن يتم تعويم القرار الحكومي قبل أن يحسم رئيس الحكومة الأمر أخيرا ويطلب حتى من الفاعلين في حزبه التزام الصمت خصوصا في ظل الأزمة التي شبت عقب سحب حزب الاستقلال لوزرائه من الحكومة. هذا الفهم ينسحب اليوم على قرارات القصر ووحدة مرجعيتها وسندها وحول المسؤولية القانونية التي تعضد القرار وتسوغه، الاستدراك الأخير الذي قدمه بيان القصر يفتح الطريق أمام كثير من الأسئلة وصيغة لا علم لنا بالموضوع تجعل من صدور قرار بدون علم به مسألة بحاجة لوقفة عميقة تطيح برؤوس تتاجر بهوية القرار ومرجعيته ونتائجه. إذا كان القرار خطأ فتبريره جريمة، وإذا كان جريمة فينبغي تقديم المسؤول عنه للعدالة باعتبار الموضوع يتجاوز حدود التأويل ليكشف عن اختراق لهوية القرار نفسه وهوية المؤسسة التي يصدر عنها. تصبح الجريمة إذن هي من اقترح العفو، وأهم من سؤال من اقترح العفو هناك سؤال أهم وهو: كم قبض؟ إذ لا يتعلق الأمر بقرار بسيط بل يتجاوزه ليمس بسمعة وكرامة المغاربة، نتحدث هنا هن قرار يمس الهوية العقائدية والأخلاقية للمغاربة، والملك مسؤول دستوريا وقانونيا ، والحكومة مسؤولة دستوريا وقانونيا عن حماية كل أبعاد الهوية المغربية. حماية القرار، مراجعة بنية صدوره، قراءة مرجعيات ومسؤوليات المتحكمين فيه ثمرة أساسية ينبغي تذوقها لكي يعرف المغاربة مستقبلا من يخاطبهم. الفائدة الثالثة تتعلق بالبنية الاستشارية لما يصطلح عليه بهيئة المستشارين. وهي هيئة يفترض فيها أنها هيئة محكمة،هيئة لها مرجعية تستقي أحكامها من المشترك الحضاري المغربي، هيئة لها من سعة الاطلاع وبصيرة التدبر ما يمكنها من قراءة القرار في كل حيثياته ونتائجه وخلفياته وامتداداه . الأزمة كشفت عن فشل هذه الهيئة، لأن الارتباك المتعلق بالتوقيت والصمت والتناقض أمور تمس حكمة تداول الأزمة وقراءة مفرداها، تصبح البطانة عريا حين تفشل في صناعة حكمة القرار وجوهره. إننا نفهم أن الملك لا يتخذ القرارات لوحده، ولا يوقع ما يرفع إليه دون استشارة، وهذا أمر محمود يتعلق بمصداقية القرار وطرق تدبيره ديموقراطيا وعلميا حتى يكون قرارا صائبا. ونجاح الحاكم أمر له صلة شديدة بقوة وقدرة وحكمة الهيئة الاستشارية، لكن صدور هذا القرار وبحيثياته وارتباكه وتململه تكشف مصداقية هذه الهيئة وتضع تدبيرها وحنكتها على المحك، وتصبح الفائدة الأهم هنا : حصن قرارك بحكمة وعمق اطلاع الهيئة الاستشارية. الفائدة الرابعة التي يبدو أنها في طريقها للتحقق، هي مراجعة بنية العفو وتفاصيله وجعلها أكثر قابلية لاستضمار الديموقراطية والمصداقية وإبعادها عن المزاجية والأهواء، وجعل العفو قرارا له سنده الأخلاقي والقانوني، بحيث يتحول العفو من قرار مزاجي فردي أو قرار للتخلص من أكبر عدد من السجناء لإخلاء الأسرة للقادمين إلى قرار له وجاهته الإنسانية وخلفيته القانونية ودلالته التي تنطلق من الاستحقاق ومن العفو باعتباره تتويجا لتحول إيجابي مبرر علميا وإنسانيا ولا يتناقض مع البديهيات. فما جعل المغاربة يحتجون على قرار العفو هو تناقضه مع المنطق ومع البديهيات الأخلاقية والانسانية ومع منطق العدالة، وكما قال أورليوس فأخطر شيء على العقل البشري هو عندما تنكفئ البديهيات. المغاربة خرجوا للشارع انتصارا للعقل وانتصارا للبديهيات واحتجاجا على سياسة هوجاء تساوم المنطق وتحارب العقل. الفائدة الخامسة هي القناعة التي تجددت لدى كل الذين احتجوا من أن الدولة المخزنية ماتزال حية، وأن السلطة تختبر وجودها بالدم وتحقق سلطتها فوق أجسام المحتجين، السلطة التي أفهمت المحتجين بلغة الدم أن وطنهم مسروق وأن صوتهم مغتصب وأن الشعار يساوم الحياة وأن الوهم يراود الحقيقة عن نفسها. الفائدة الأخيرة تتعلق بيقظة المغاربة وباعتبار هذه اليقظة ضمانة وطنية لاستمرار الدولة دولة الحق والقانون، الدولة التي ما يزال المغاربة يعرفون أنها تسكن في الشعار ولا تمشي على أرضهم ولا تتسرب في نسيج حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فالذين عجلوا بخروج القرار وقبضوا الثمن، راهنوا على حصان خاسر اسمه صمت المغاربة وموت ضميرهم وحسهم النضالي. وعليهم اليوم أن يراجعوا قناعاتهم ويفهموا أن المغاربة ليسوا حائطا قصيرا وليسوا سذجا وأن حسهم السياسي والأخلاقي حي. وإذا كان المغاربة يخاصمون الصناديق، لأنها صناديق تموت فيها الأصوات، فهم يعرفون متى تعلوا أصواتهم الحية في الساحات والشوارع، تلك الأصوات التي لا تباع ولا تشترى ولا تسجنها ظلمات الصناديق، الأصوات التي تصدر من صدور وعقول نقية تفهم أن الوطن لا يغتصب ولا يختلس ولا يعلب للتصدير خارج الحدود. أما فائدة الفوائد، فعودة الربيع في صيف قائظ ربيع المغاربة الذين يزهرون دائما كي يثمر أطفالهم في صورة وطن جميل لا يساوم اسمه المغرب.