الوجود البشري تتداخل فيه الكثير من الأبعاد، فيها ما هوذاتي أي تلك العلاقة التي تجمع كل واحد منا بنفسه ويجسدها حديثنا معها وتشجيعها أولومها أوفي بعض الأحيان عقابها ماديا. كما أن هناك ما هو زمني، فكل سلوكاتنا ونشاطاتنا وطقوسنا اليومية محكومة بمعايير زمنية محددة، أهمية الزمن يعكسها السؤال الأزلي :كم الساعة الآن، يا ترى. إلى جانب الزمن، فنحن نعيش في المكان، فالإنسان في تفاعل مستمر مع جغرافية معينة يمنحها معنيي المقدس أوالمدنس، ومن هنا أيضا، يحدد هويته وانتماءاته العرقية، فأن تقول أنا مغربي، يعني أنك تعيش في جغرافية لها حدود ترابية معينة وهي من تحدد جنسيتك وحقوقك وواجباتك. والبعد الأخير، الذي سنهتم به في هذه الورقة، هوالبعد العلائقي أي تلك العلاقة التي تجمع الإنسان بالآخر، الذي قد يكون شيئا (كعلاقتي بهاتفي المحمول) وقد يكون أيضا نبتة (كعلاقة الفلاح بزرعه)، ثم هناك تلك العلاقة التي تجمعني بالإنسان ذلك الكائن الذي يشبهني ويختلفي عني(الغير)، (كالعلاقة التي تجمعني بك). وأخيرا، تجمع الإنسان علاقة وطيدة بالحيوان وهي العلاقة التي سنهتم بها هنا وسنركز عليها فيما يلي ونقاربها من خلال إستراتيجية الاقتراب والنفور. إن علاقة الإنسان بالحيوان علاقة قديمة قدم الإنسان نفسه. فالأبحاث الأركيولوجية أتبث هذه العلاقة الوطيدة من خلال الرسوم والمجسمات الذي جسد بها الإنسان القديم هذه العلاقة. إلى درجة أن الفراعنة كانوا يحنطون الحيوانات، كما شكلت مجموعة من الحيوانات رموزا أساسية في الكتابة الهيروغليفية، وكذا القط الذي كان بمثابة الحيوان المقدس. لقد كانت الحيوانات ولا زالت إلى حد اليوم موضوع خوف وتهديد وأيضا موضوع حب واحترام. وهي تلعب أيضا مجموعة من الوظائف ، فهناك الوظيفة الغذائية، فهي من بين الكائنات الحية الأساسية في النظام الغذائي الإنساني. والوظيفة السحرية حيث تحضر في مجموعة من الكتب والقصص والطقوس الدينية والاحتفالية، إما كمقدس(النحل بالنسبة للإسلام) أوكمدنس(الكلب بالنسبة للإسلام) أوقرابين ( كالخروف بالنسبة للإسلام). زد على هذا ،الوظيفة الاقتصادية، حيث يستعين بها الإنسان في عمله اليومي كنقل البضائع والحرث وعصر الفواكه ورعي المواشي والتبادل... وهناك الوظيفة الحربية والسياسية، حيث استعان بها الإنسان، ولا زال، في الحروب وتنظيم الشأن العام وتدبيره، فالحصان والكلب، لا زالا إلى حد اليوم وسيلتان تستعين بهما الدولة في ممارسة العنف المشروع كفض المظاهرات والدوريات الأمنية... وهناك الوظيفة الجمالية، كفروبعض القوارض وجلد التمساح أوبعض الكلاب الصغيرة الحجم المرافقة، والتي تمثل أكسيسوار زينة ك"الشيواوى". أضف على هذا، الوظيفة الاجتماعية، كحراسة المنزل،وتوجيه المكفوفين،والمؤانسة، وفي بعض الأحيان إشباع الرغبة الجنسية (الزوفيليا). هذه العلاقة البرغماتية، دفعت الإنسان لتدجين مجموعة من الحيوانات، خدمة له أولتوجيهها ضد الأعداء (كالأسد والتماسيح والثعابين في العهود القديمة والكلب البوليسي و"البيت بول" في عهدنا هذا). وجهت الحيوانات أيضا اتجاه الحيوان نفسه (كالاستعانة بالقط للقضاء على الفأر والنسر لإبعاد الحمام عن التجمعات السكنية). وأخيرا، استخدم الإنسان الحيوان في علاقته بالأرواح والقوى الخارقة إما لدرئها(كالكلب الأسود) أو استعطافها(كالديك المذبوح الذي يرمى في البحر). لقد تأرجحت علاقة الإنسان بالحيوان بين الجذب والنفور. حيث جذب إليه كل الحيوانات التي يمكن أن تخدم مصالحه وقام بتدجينها واستعبادها(الحديقة والسيرك) أو أنسنتها عندما فرض عليها قواعد اللياقة والأخلاق من خلال الترهيب والترغيب. ومن بين الحيوانات التي سخرت لخدمة الإنسان، نجد الكلاب والخيول والقطط وكل أنواع الدواجن والسمك...إلخ. كما أقصى مجموعة من الحيوانات وحاول ما أمكن إبعادها أوالقضاء عليها كبعض أنواع الفئران والحشرات (كالنمل والناموس والصراصير والجراد....). هذه الاستراتيجية المزدوجة الموجه نحوالحيوان، لها أيضا أبعاد رمزية. فالإنسان، حسب الثقافة، صنف الحيوانات إلى صنفين، صنف يمثل الخير(الاقتراب) وصنف آخر يمثل الشر(النفور). فالإنسان المغربي مثلا، له تمثلاته الخاصة للحيوان والتي من خلالها يقيم الآخر ويحكم عليه ،وهي في غالب الأحيان تحمل قيمة اجتماعية، إما أن تعبر عن الخير أوالشر. فأن تصف أحدهم بالذئب(المكر) أوالعقرب (السوء) أوالبومة (النحس) يعني منحه قيمة اجتماعية سلبية فيها دعوة للحذر والنفور منه وإقصائه. ويمكن أن نضيف هنا، ما يفيد السخرية والاستصغار والقدح، كالدجاجة(الخوف) و"سراق الزيت" (الاستصغار) والقدح (كالحمار والمعزة والكلب والقرد والذبابة).... إلى جانب حيوانات الشر نجد حيوانات تجسد الخير وتفيد سياسة الاقتراب، كنعت أحدهم بالغزال أوالقطة (الجمال) والسبع (القوة) والخيل (العود أي الفحل) والطير الحر(الأصالة)...كما تجسد مجموعة من الحكايات والأمثال الشعبية علاقة الاقتراب والنفور من الحيوانات وهي كثيرة وتشبه إلى حد كبير حكايات كليلة ودمنة. وأخيرا، فاستراتيجية اقتراب نفور، يوجها الإنسان (ذلك الكائن المتعالي الذكي، المتمركز حول إنسانيته anthropocentrisme))، ليس فقط نحوالحيوان، بل أيضا نحوالنباتات وتعتبر البستنة ،أوالتعامل الانتقائي مع النباتات، من أبرز مظاهرها، ويقول الفيلسوف "نيتشه" في هذا الصدد ما مفاده: أن الخوف الذي يثيره الشكل الطبيعي للنباتات هومن دفع الإنسان لإبداع البستنة. إن علاقة الإنسان بالحيوان تطورت كثيرا إلى درجة أن عليه اليوم، أن يضمن لها مجموعة من الحقوق: كالحق في الذبح السليم والقتل الرحيم (غريب أمر هذا الإنسان) والحق في التطبيب والرعاية وبيئة نظيفة واستمرار النوع .وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك وطالب بحقها في الحياة عندما امتنع عن أكلها مكتفيا بالنباتات، كأن النبات أشياء، وليست كائنات حية تتنفس وتتغذى وتناسل، ولما لا، وتحس. ويبقى التمساح من الحيوانات التي تستغل اليوم في الخطابات السياسية البنكيرانية وهي تشبه إلى حد كبير الطريقة التي وظفت بها في كليلة ودمنة، لكنها وظفت ضد الحاكم وأصحاب القرار. فضد من يوظفها رئيس الحكومة إذا كان هو من يمثل الحكم؟