"انك الذي يُعلِّم العَوْد الأبدي .ليس زرادوشت هو الذي يكرر ،تلقائيا،قولها لنفسه ،انه يسمعها من حيواناته ،المذكورة في مدخل المقدمة...نقرأ هناك: (حينما كانت الشمس في كبد السماء ،رفع زرادوشت بصره ،صوبها، مستفسرا ؛إذْ تناهى إلى سمعه نداء حاد لطائر.أبصر عُقابا ،يحوم في الفضاء،راسما دوائر واسعة.كان يتدلى منه ثعبان؛لكن ليس كفريسة ،وإنما كصديق.كان ملتفا حول عنقه .)في هذا العناق اللغز ،نستشعر من الآن كيف تتداخل ،بكيفية ضمنية، الدائرة والحلقة ،في منعطفات العقاب و حلقات الثعبان .هكذا تتألق هذه الحلقة المسماة: ANULUS AETERNITATIS الحلقة الختمية والسنة الأبدية .منظر الحيوانين يُظهر بأي شيء يتعلقان في الدوران.ان الدائرة والحلقة ليستا من إبداعهما ؛ولكن يندمجان فيهما ،ليَشعرا- هكذا – بوجودهما .في منظر الحيوانين يتضح لنا ما يهم زرادوشت ،حين يستفسر السماء بنظرته.ولهذا يواصل النص: إنها حيواناتي ،يقول زرادوشت والبهجة تغمر فلبه. الحيوان الأكثر أَنَفة ،تحت الشمس، والحيوان الأكثر حكمة ،تحتها، انطلقا مستكشفين.يريدان أن يعرفا إذا كان زرادوشت لا يزال حيا. وفي الحقيقة ألا زلت حيا؟ يتساءل زرادوشت نفسه. MARTIN HEIDEGGER: ESSAIS ET CONFERENCES ترجمة :رمضان مصباح .العلم الثقافي عدد:919 ،.1989 الآن يحلو الحوار: بعد صخب رقصة العريس والعروسة ،وانصرافهما الى متعتهما-الحلال- يتمتع المدعوون بالسهر الهادئ. أردته نقاشا يمتح من غير ما تكره ,من أكبر مدرسة في العدمية شكلها نيتشه،وقد "قوضها "هايدغر قارئا. كما أذلها رجل اسمه هتلر ،اذ اتخذ منها عجلات لقاطرة النازية التي انتهت شبحا في الغابة السوداء الألمانية. وبالمناسبة-الفلسفية- فهي نفس الغابة التي أحبها ،وعاش فيها هايدغر,فيلسوفا يقارع النصوص المغلقة ،القديمة والحديثة،،لكن نازيا أيضا. ما دام الهندي الأحمر الذي يسكنك ،طمر شاقور القتال ،وأفضى،دون تصريح، الى حكماء القبيلة يستفتيهم في أمر نزال أكثر ذكاء وهدوءا ،وفعالية؛مادامت الغارات المرتجلة لم تفد في شيء، لا الأمازيغية ولا أمها –غير البيولوجية-العلمانية. *ما دمت انتهيت الى محاولة رؤية أكثر شمولا، للدائرة التي تحيط بنا جميعا؛بل بالكون كله ،ما دمت كوني النزعات.. *مادمت ارتقيت-أو هكذا بدا لي- الى افتراش الثرى- والتواضع رقي-مع سُمَّرِ العشيرة الكبيرة ،في ليل لا يغيب له قمر.للتفكير في أفضل كيفية لإغراء الشمس حتى تقلع عن إضرابها و تسطع ،من جديد،على البلد. ما دمت هكذا ،وهكذا ، سنتناقش بهدوء: سنتحدث لغة "زرادوشت نيتشه". سنقوض –جدلا- كل المعمار الروحي الذي بنته البشرية ،ثم انتهى الى المتعالي الذي لم تبنه هي إطلاقا. سنمسك بخصومك السلفيين ،ونشد وثاقهم ،بأسلاك الكهرباء التي لم تلتهمها الحرائق في مسجد تارودانت. أراك تعجب لأن جهنم التهمت عدوها "حيا" في الأرض؛واختارت صلاة الفجر ميقاتا. لا تتوزعكم الظنون ،حتى الأنبياء ,والمصلحون، قتلوا وأوذوا ،فكيف بسائر البشر والحجر؟ لكن سنمسك أيضا بكل المتطرفين من أبناء الأمازيغ ،أولائك الفتية الذين يشنفون أسماعك كما الإيقاع في رقصة أحواش التي أغبطك على إتقانها. سنمسك بهم ونشد الوثاق ،مرة أخرى، بما تخلف من أوتار عندليب الأمازيغ محمد ارويشة؛حتى لا يشوشوا على الحوار ب :"ثنميرث "و"القومجة "والجزيرة،وهلم قمعا لكتاب يحترقون ليلا ،وتُقرا مقالاتهم ،صباحا،بين رشفة قهوة ،وعضة خبز ،ونفسا لذيذا من مارلبورو الأميريكية... وسنمسك بالنخبة الشرسة من العلمانيين ونبحث لهم عن سجون في المختبرات العلمية، حتى يتعلموا أن العلم سابق و العَلمانية لا حقة ؛ويريحونا من التشدق بها قبل أن يعترض على علمهم أحد.لا كنيسة ولا مسجد،ولا زاوية ،ولا مجلس علمي أعلى لم يخلص بعد وجهه لقضايا المعيش اليومي للناس –ومنها العلم-لأن"الحي أولى بالجديد من الميت". مجلس يجب ان يفتي في إحياء الناس وليس قتلهم. نخلي الساحة ،من كل هؤلاء،ونترك السياسيين على حالهم ،إذ لا يضرهم أن ينصرف كل الى ما يعنيه ويُخْلي بينهم وبين ما يعنيهم. ثم نتحدث حديث الدائر الكبرى : حديث القيم الكونية التي تتولى عنها ،وهي بين يديك ،وتعشقتها وهي بين يدي هذا الغرب الحداثي ،هذا "السيبرمان" ذي الشعر الأشقر،الذي ملك العالم ،علما، وأبى علينا أن نملكه روحا؛قبل أن نستعيده علما أيضا. لا هوية أبدا للقيم ،خالصة لهذه الحضارة أوتلك؛هي بين يديك كونية ،وبيد الغرب كونية أيضا.ماذا كرهتَ وماذا أحببت َ؟لا أدري. لكنني أدري أن البعض لا يكرهون لكن يُحملون على أن يكرهوا فينقادون.ويزين لهم أن يحبوا فيتيهون هياما.وكلنا ذلك الرجل لأن الهوى قُلَّبُ. هذا يحدث في الخفاء- كما ذكرت أنت-وراء وراء؛في تلافيف الوجدان الذي لا نعرف كل السراديب المفضية إليه؛وكأنه قبر فرعوني لن يكتشفه أحد. قيم كونية تتحدث دائما لغة المنتصر ؛وتحمل المنهزم على أن يتمثلها ،ويعشقها،في حلتها الجديدة. كان هذا منذ استوت البشرية واعية بكيانها ،مُرقِّشة ثم كاتبة لتاريخها. كل قرون الأمم كانت تبدوا ساكنة قاهرة ،يستحيل تبدلها وزوالها؛لكنها دالت وخرت تباعا؛وتلاحقت القرون بنفس الوتيرة القيمية:قيم صاعدة وقيم نازلة.قيم صاعدة لكنها،هي نفسها، بيد المنهزم نازلة.قيم بخسة لكنها بيد المنتصر لآلئ ومرجان. انه معمار قيمي بشري ،لا يمكن أن تدعيه حضارة لنفسها إلا غصبا وعنفا؛لكن الى حين. كيف يستقيم الآن أن نحكم على أنفسنا – في المغرب -بتخلف قيمنا ،جملة وتفصيلا،ونتحدث لغة اليأس التي لم تعد تملك الا استنبات الأمل استنباتا.؟ نحن بهذا ننقلب على أطروحتنا الكونية برمتها ،ما دمنا مَغْربنا،فقط، ما هو متخلف فيها . هاهي ذي دائرة نيتشه الكبيرة الواسعة، التي رسمها عقابه في الأعالي ،تضيق وتضيق حتى تصير دوائر متكورة لثعبان يخنق الأنفاس. ثعبان نيتشه،وهو يرمز للحكمة، غير قاتل بل باحث عن الحقيقة ،لكن ضمن الدائرة الكبرى التي تحيط بكل حلقاته . أن نكون كونيين يتضمن أن نعيش القيم كونية ،وان بدا أننا لم نَحُزْ منها غير ما يثقل الخطى،على حد عبارتك مشفقا. هل يستقيم أن ننفرد هنا ،في هذه البقعة من الكون،بقيم نعتبرها قدرنا البئيس ،في حين أنها كونية ؟ لماذا لا نستفيد من تعاقب القرون ،وما لحق إمبراطوريات عظمى من غلبة ، في أدنى الأرض وأعلاها .إمبراطوريات لم يكن واردا لدى بناتها ،ورعاياها , ومستضعفيها ،أنها زائلة ؛سيطويها الزمان في ما سيطوي. لماذا نثق الآن في استقرار الحضارة في قارات ،وامتلاكها لوسائل تدمير الكرة الأرضية كلها ؛نثق في قيمها ،وفي إيديولوجيتها ونقيس وضعنا بمقياسها لكي لا نصل إلا الى يأس قاتل. أين يوجد الآن المعسكر الشرقي الذي أغلق ،في وقت ما كل الكنائس،وحمل المناجل والمطارق ،وبنى أسوارا صيبنية أعلى وأعتى؟لكن كل هذه المنعة لم تمنع أن تتسلل الأرَضَة الى جسمه تنخره خلية خلية ،حتى مات وهو جالس على عرشه ؛ميتة سليمان النبي ,رغم كل ما سخره الله له من بأس شديد. وهانحن نعيش –كونيا- مدخل أزمة نقدية عالمية ،ستنعكس حتما على السياسة وعلى العلاقات الدولية ،وسيبحث رأس المال على الأوكسجين ولو بإشعال حروب لا تبقي ولا تذر. يجب ان نقرا المستقبل من خلال الماضي:أزمة1929 وما تلاها من حرب عالمية ،وما تلاهما من مخططات تنموية ،وعلى رأسها مخطط مارشال الذي بنى أوربا جديدة. لكل هذا تأثيره في بورصة القيم –القيمية- ومن يدرينا ألا تهوي الحضارة الغربية ،كما يتنبأ الكثير من المحللين الاستراتيجيين.؟ ها هو معيارك يا عصيد بدأ يتذبذب على سلم ريشتر بدرجات متصاعدة. عد الى الدائرة النيتشية الكبرى ،واعتبر أنك كوني لأنك تعيش مغامرة الإنسانية كلها في هذا الكون ؛وما يبدوا لك حضارة مغرية هناك قد لا يكون كذلك إلا الى حين. عودة الى حقوق الرومان وبني ساسان: وفق الطرح الكوني الجدلي للقيم هل تعتقد أن رسائل نبي الهدى ,صلى الله عليه وسلم،هي التي دكت الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية ؟ وهل تعتقد أن الحضارات السابقة أرهبها بدورها أنبياء ،وقوضوها؟ بئس الرأي إن كنت فعلا تؤمن به في قرارة نفسك. ما من نبي يا رجل إلا وبعث بلسان قومه.وهل اللغة بريئة؟ بعث بقيم قومه ،بمعتقداتهم ،بآمالهم وأحلامهم . حمال قيم في بحر من القيم ،لكن عرف كيف ينجي ما في فلكه ،ليستنبته في يابسة تربو وتزهر. هذا هو النبي ؛أما كيف تأتى له أن يمتلك البحر ،بعد أن كان مهددا بالموت غرقا فيه ؛فهنا تكمن القضية كلها. ليست قضية الأنبياء فقط ،بل قضية الإنسانية كلها ،ولو لم تكن كذلك لهلكنا كلنا لأننا ،اليوم،خارج تغطية الأنبياء،زمنا. لا نبي سيظهر ،فمن أين لفلكنا النجاة ،ونحن في بحر عاصف؟ كيف بنا مع الفلك النبوي ،بين يدينا ،أنثقبه ونحن في اليم ؟ أنسير به سيرة رسولنا عساه ينجينا؟أنصبر عليه مركبا الى أن نصل الى اليابسة ثم نتصرف؟ كيف سنتصرف ,ووفق أي معيار؟ وفق أي سلم قيمي، وهذا الغرب ينهار بين ايدينا كما انهارت أمم ومضت عصور؟ كلها أسئلة كونية يطرحها العالم كله ،مجاهرا أو مخافتا.يطرحها المؤمن والملحد على السواء ؛لكن بفوارق. فالمؤمن الحقيقي يجب ألا يكون وثوقيا فقط ،سكونيا ،في بحر خرج منه الأنبياء ولم يبق به غير فلكهم.يجب ن يظل باحثا عن الخلاص ،لكنه في البحر وليس بين يديه غير فلك نبيه. والملحد الحقيقي ليس هو من ينكر وجود الله، بل من لم يقتنع بعد بالخطاب الموجه إليه ؛ولا يمكن أن يكون قاطعا في إلحاده ،وهو لم يحلل بعد كل مضامين الخطاب .الشك فطرة في النفس البشرية ,ولم يسلم من هذا حتى الأنبياء؛ومن صدقهم وثقتهم في أنفسهم لم يخفوه . الإيمان والإلحاد خطان متوازيان ،ان كانا لا يلتقيان فالسالك فيهما لا يضمن أنه لن يبدل أحدهما بالآخر. وكم من ملحد ارتقى عاليا في مدارج العرفان الصوفي،وكم من مؤمن انتهى الى أن يستبدل الطريق. من يضمن ،وجدلية القيم ،كما تعلم؛والتاريخ لم ينته-كما ذكرت- ألا يدخل عصيد الى سوس العالمة، لينتهي به التطواف سلفيا يعاتب الشيخ الفزازي على اعتداله. حتى لا نكرر حمق نيتشه العضوي : في هذا نستفيد من نيتشه نفسه,فكم كان حكيما ،وهو يقول عن حيواناته: "ان الدائرة والحلقة ليست من إبداعهما ،ولكن يندمجان فيهما ليشعرا هكذا بوجودهما" كنت حدثتك عن اكتمال المعمار الروحي ،وهو واحد ويسع الموحدين كلهم،وهذا ما يعطي مشروعية لدعاة الحوار بين الأديان. ما دامت الديانات الثلاث انتهت الى أن لا تعبد غير الله ؛وقد جربت عبادة ما يعقل وما لا يعقل؛بل عبد بعضها حتى الأحجار "يبول الثعلبان برأسها" كما قال الشاعر؛فقد انتهت الى أرقى ما يمكن أن يصل اليه حتى العقل الفلسفي الأكثر تجبرا.عبادة الله ،الواحد الأحد، العزيز ،الجبار المهيمن،وكل الأسماء الحسنى التي له ،لا لسواه ،بعد أن توزعها الأباطرة والقياصرة . "شهلان ذا الهضبات هل يتحلحل". كل هذا المعمار ,وأنت تعلم كيف تراصت قيمه عبر العصور،وكيف ثبتها الوحي الإلهي،حتى سارت فلكا نقل رعاة الإبل ،رواد مرابد الشعر،أبطال أيام العرب القاتلة،الى بحار العالم الروحي ،يقودون فيه الحضارة ،نحو الكونية ،كما فهموها ،وكم يطمحون الى بلوغها. لعل نيتشه ،وقد هدم كل المعابد على رؤوس الرهبان، لم يقو على وحشة الفراغ فبحث عن آلهة جديدة يخلقها فكانت دائرة زرادوشت التي وسع العقاب رسمها ،وهو يطوف في الأعالي وبعنقه ثعبان صديق. هكذا حتى لو بدا لك هدم المعمار مفيدا ،وندبت حظك إذ أحاط بك ما تعتبره ظلاما ،وصرت لا تقول الا بالرجاء والأمل ، فاعلم أنك ،في حالك هذا ، أفضل من "أطلال سعدى في قفار من البسابس ملس".كما يقول البحتري اذ ضاق ذرعا بقومه ،ولجأ الى إيوان كسرى حيث لم يبق من بني ساسان غير رسوم باهتة على الجدران. لنقوي جميعا المعمار ،ولنجتهد في ترميمه وإضاءته ،وحينما نيأس نستمد القوة من كوننا إزاء معمار كوني نحن فيه ذرات متناهية الصغر. علمنا التاريخ أن الحضارات غير قارة ,مهما بدت كذلك ،وعلمنا أن التخلف غير قار.كل شيء متحول ،دينامي ؛وكل هذا يستدعي قوة وجدانية ،ومرجعية، حتى يتحقق التوازن النفسي، ولا يفقد الإنسان عقله ،لأنه الكائن الوحيد الذي يعي هذا .من هنا عظمة الإيمان ،وضرورته،ساميا مثبتا للإنسان، ما دام حيا ،ثبات هذا الكون وانقياده ،قهرا،للقوة المتحكمة فيه. الإيمان ضرورة جاذبية للإنسان لينسجم جزءا من هذا الكون الشاسع. هكذا أراد الله تعالى ... [email protected]