قبل أن يغزو التلفاز البيوت ، ويصبح منافسا شرسا للمذياع الذي شدنا إليه شدا ، فرادى وجماعات بما يقدمه من برامج ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية ، فضلا عن أخبار الناس وأخبار العالم وما يحدث فيه من إنجازات وكوارث وحروب. إلى جانب ذلك، يلعب المذياع دورا مهما كسائر وسائل الإعلام الأخرى، ولم يفقد بريقه وأهميته في تأطير المجتمع رغم سطوة القنوات الفضائية وانتشار الانترنيت. فهو وسيلة سريعة وغير مكلفة للاتصال بالجماهير من أجل نشر المعرفة، وإعلان الخبر الرسمي ، وإسعاد الناس بشذى الألحان تارة ، وبالنكتة المميزة والمسرحية الهادفة تارة أخرى ومن أحلى ما قيل في المذياع هذه الأبيات لمحمد غنيم : شاد ترنَّم لا طير ولا بشر*** يا صاحب اللحن، أين العود والوتر؟ أني سمع لسانا قُدَّ من خشب *** فهل ترى بعد هذا ينطق الحجر؟ ورغم ما تقدمه القنوات الفضائية من إغراءات وتنوع في البرامج والأنشطة لجذب أكبر عدد من المشاهدين ، فإن " الراديو" ما يزال يحتفظ بمكانته داخل البيوت ، ويتابع مواده الترفيهية جانب من الجماهير التي تجد في المذياع ضالتها. فالمذياع رفيق الواحد في البيت، وأنيسٌ في السفر، ومنشطٌ بارع يتوسط أفراد الأسرة الفقيرة التي لم تتوفر لها -بعد - الفرصة لتملك تلفاز أو انترنيت. لقد شُرِعَ في أول بث إذاعي في الخمسينات ، وكانت البرامج تتميز بحمولتها الفكرية والثقافية المغربية . وكان المشتغلون وقتها في الراديو الوطني يعملون جاهدين لتحقيق أهداف وطنية ، بإشاعة القيم النبيلة ، من التسامح إلى التعاون ، إلى المحبة والإخاء . أما اليوم وخاصة بعد إنشاء " راديو هات خاصة " ، فإن الأهداف لم تعد هي نفس أهداف الرواد ، وأصبح شغل مالكي " الراديو الحالي " هو استقطاب أكبر عدد من المستمعين من أجل تحقيق واردات عن طريق الإشهار والمكالمات الهاتفية التي توظِف مشاكل الناس الاجتماعية و التربوية لخلق شبكة تواصل مع المستمعين الذين يفضلون نشر غسيلهم على الهواء ، والحصول على استشارات عن طريق الهاتف من مذيعي البرامج، عوض اللجوء إلى خدمات المختصين وأصحاب الخبرة والدراية . ومن أجل الاستئناس أسوق مثالين لمشكلتين أثارتهما زوجتان في راديو خاص مغربي. قالت السيدة :" منذ مدة دكتور وأنا أحاول الاتصال بك ، أشكرك على عملك والخدمات التي تقدمها للمستمعين للراديو.إني زوجة ولذي أبناء ، لكن مشكلتي سببها زوجي الذي لا يعيرني أي اهتمام ولا لأطفاله، إنه في الغالب خارج البيت، ولا يعطي لأسرته الاهتمام المطلوب منذ ستة عشر سنة، وأنا صابرة على سلوكه الذي أضر بالأسرة، أنصحني ولك مني جزيل الشكر." بسرعة ، ودون تروي ، أجابها الدكتور على الهواء قائلا : " إذا كان منزل أحدهم مهدد بالسقوط ماذا على المسئولين فعله ؟ لم تجبه السيدة ولكنها قالت:" منك نستفيد دكتور". فأجابها الدكتور" يجب إفراغه وحتى لا يسقط البيت على ساكنيه وحتى لا تضرب الحجارة المتساقطة منه المارة" أي عليك بطلب الطلاق . وتعليقا على هذا الحديث الذي دار بين المستمعة والدكتور، لا شك ، بأن العديدين ممن استمعوا للمكالمة غير مقتنعين بالحل الذي بسطه الدكتور ، الذي طلب من الزوجة الخروج من البيت وتطليق زوجها ، في حين أنه لم يطلب من السيدة أي إيضاحات عن الزوج ولا حيثيات عن تصرفاتها مع زوجها قبل الخلاف، كما لم يطلب منها عرض مشكلتها على أقاربها أو أقاربه قبل التوجه إلى المحكمة. أما الحالة الثانية فهي لزوجة أخرى تقدمت بمشكلتها لنفس الدكتور قائلة: " ألوه دكتور! ممممم! وهي تبكي الدكتور:" ماذا بك تكلمي ! المستمعة:"ممممم! والله دكتور إني أعيش العذاب ،إذ زوجي لا يرحب بصديقاتي، ولا يتركني أخرج وحدي، أو ألبس ما أريد . الدكتور:" وما هو مستواك الدراسي؟ ماستر الدكتور:" ماستر وتتعذبين ! اسمعي ! اطلبي من أخوانك أو والديك بأن يتكلموا معه " بشدة" ويطالبون منه بأن يحترمك ويقدرك ويحقق لك ما تريدين وإلا الطلاق أهون. هنا كذلك، يرتكب الدكتور (ضيف البرنامج)نفس الخطأ ويطلب من المستمعة الثانية أن تطلب الطلاق من زوجها هي كذلك . دون أن يسأل عن الأسباب الذاتية و الموضوعية للمشكل الذي طرحته الزوجة. ولم يكلف نفسه كذلك عناء السؤال عن تصرفات الزوجة التي يمكن أن تكون سببا في رفض الزوج صديقاتها ، أوسببا في رفضه السماح لها (للزوجة) بارتداء أنواع خاصة من الألبسة. هذين حالتين فقط من حالات تعج بها حلقات الراديو ، والذي يتحول بعض منشطيه، من منشطين إلى مختصين في علم الاجتماع و علم النفس و علوم التربية و القانون بقدرة قادر.ويتقمصون أدوار الفقهاء فيعطون " الفتاوى " بغير علم، ويلعبون أدوار المربين والأطباء والحكماء بغير هدى. ويبدو أنه من اللازم أن يراجع المذيعون بالراديو بعض توجهاتهم نحو الحداثة بتشدد، وبعض برامجهم التي تستهدف النساء وتشجعهم على التحرر والعصيان، وكذلك بعض طرقهم في معالجة قضايا المجتمع المغربي ، الذي هو مجتمع مسلم ، يؤمن بقدسية الزواج " عقد غليظ" وقدسية الأسرة التي لا يجب التلاعب بها. كما أنه من المفيد أن تستضيف تلك الراديوهات مختصين ومثقفين مشهود لهم بحبهم لثقافة وأصالة الشعب المغربي ، لا هم غوغائيون ، يرون من العالم فقط حرية الغرب وثقافة الغرب وتربية الغرب، و لا هم متطرفون ،يرون أن أفضل حل لفض النزاعات الزوجية هو الطلاق. وللأسف الشديد ، هناك العديد من الزوجات ، اللواتي يغتنمن خروج الأزواج للعمل، فيتصلن بعدد من الراديوهات لبسط مشاكل تربوية وأخرى زوجية على مذيعي الراديو ، أو على ضيوف البرنامج الإذاعية ، كي يحصلن على إجابات ، قد تكون أقل ما يقال عنها أنها تأزم العلاقة بين الأزواج ، ولا تساهم في ردم الهوة والخلافات بينهما،ولا تنير طريق الآباء لمساعدتهم على تربية أبنائهم التربية السليمة. ولا غرو أن ما تتلقاه الزوجة من أفكار عشوائية – تحريضية عن طريق بعض المحطات الإذاعية ، يساهم بشيء أو آخر في إفساد العديد من العلاقات الزوجية .وفي تقويض بناء الأسرة ، وتشتيت أفرادها. فقد تكون حياة زوجين سعيدة ، لكن من الممكن أن تخفي هذه السعادة حينما يبدأ الراديو في التحكم في سلوك الزوجة ،وفي آليات توجيهها نحو حياة زوجية أكثر تحررا ، ربما لا يملك الزوجان بعض شروطها . فحينما يؤلب الراديو الزوجة- المتصلة- تشرع هذه الأخيرة في فتح نيران حرب ضروس على الرجل/ الزوج ، حرب لا نهاية لها إلا باستسلامه أو افتراقهما، في وقت كان من الممكن أن يتطرق الراديو إلى وجوب تحسين العلاقة بين الزوجين ، بسرد أمثلة ونماذج لتحسين تلك العلاقة من أجل استدامتها . وإن الناس في حاجة إلى الاستقرار في عالم يغلي بالمشاكل والمستجدات وليس لمن يثير زوابع الخلافات وينبه الغافلين والغافلات لصناعة الشر. فمن أهم أهداف الراديو التبشير بوجوب الحفاظ على التماسك والحب بين الناس، بدل نشر اليأس والكره والاستغلال. فالمجتمع محتاج لراديو التسامح والتعاون ، وشعاره قوله تعالى :"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" وليس لراديو يدعو لتناطح النساء والرجال ، وتصادم الأبناء والآباء ، ولازمته :" بعضكم لبعض عدو".