كيف انحدر الخطاب السياسي الإسلامي وانحط حينا من الدهر وقبل الانتفاضات الشعبية الأخيرة بحيث لم يصر له هَمٌّ غير تطويع إرادة الشعوب والانشغال بالضلالات الصغيرة للتعمية على البدع والضلالات الكبيرة كاحتكار السلطة والثروة؟ كيف تَرسَّخت سوابق الاستبداد والقهر والغلبة في تاريخنا ؟ كيف نضمن لثورات الشعوب شروط النجاح حتى لا ترتد إلى محاور الاستبداد والاستعباد،وإلى محاور الولاء القبلي والطائفي والعشائري؟ وحتى لا تفقد الشعوب الثقة في كل عمل يروم التحرير والتغيير؟ لماذا تتحول الكثير من النخب الحزبية والسياسية في أحسن الأحوال إلى عنصر تهدئة تُمَنِّي الناس بالإصلاح بينما هي في الواقع تعمل على الإطالة من عمر الاستبداد والفساد،وتمده بالمبررات النظرية والاعتقادية والشرعية،وفي أسوإ الأحوال تتحول إلى معارضة مُخرِّبة (المثال المصري)؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة يقتضي الإحاطة بجدل الدين والتاريخ والفقه والسياسة في تاريخنا،وهو ما فعلناه في مقالات سابقة على هذا الموقع، والقول هنا مُتَمَحِّض للتنبيه على قواعد وإعلان مبادئ تشكل بأجمعها خلاصات مركزة لمراجعات في الخطاب السياسي الإسلامي: 1.النظر في المسائل السياسية وقضايا الحكم مُفوَّض إلى الخَلْق ولا يدخل في مسمى العقائد،وعلى هذا الأساس يُقَيَّم الاختلاف في تلك المسائل والقضايا بمقاييس الخطأ والرشد والصواب لا بمقاييس الخطيئة والكفر والإيمان. 2.لم ينشئ الرسول صلى الله عليه وسلم دولة كي تحكمها عائلته ولذلك لم يستخلف ولم ينص على أحد بعينه كي يخلفه، وإن ظهور الاستبداد في تاريخ العرب والمسلمين تزامن مع وقوع الانقلاب على الخلافة الراشدة لصالح الملك العضوض الذي صادر حق الأمة في اختيار حاكميها ومحاسبتهم،ورسخ سوابق التمديد والتوريث،وجعل المال دولة بين الأغنياء والمترفين،فكان هذا هو شأن أولية الاستبداد الذي تقعَّد بتوالي القرون بفقه "الأحكام السلطانية" وظهرت مقولات"السلطان ظل الله في الأرض"،وغدت الأمة كالقطيع يسوقه الحاكم حيث شاء،إما باسم "الإمامة الشيعية" أو باسم "السلطنة السنية التاريخية" والجامع بينهما مصادرة حق الأمة في اختيار من يحكمها ويسوسها. 3.التوريث شكل من أشكال اغتصاب الحكم ومصادرة حق الأمة في اختيار من يحكمها، ولقد أجاز بعض الفقهاء العدول عن حرية الاختيار إلى أشكال التوريث والتغلب بحكم الضرورة الداعية - في نظرهم- إلى الحفاظ على الوحدة وحقن الدماء ودرء الفتنة،إلا أنهم في الحقيقة بالغوا في التحرز والاحتياط بما أدى إلى ظهور فتن عظيمة لم تكن تخطر لهم على بال كالوقوع في حبائل الاستعمار القديم والجديد،والانحطاط الحضاري،والتأخر العلمي،وإزاحة الشريعة عن مواقع التشريع ،والاستلاب والتبعية وفقدان استقلالية القرار الاقتصادي والسياسي،وتفكك المجتمعات العربية والإسلامية إلى شيع وأحزاب متناحرة نتيجة لغياب ثقافة الحرية والتدبير السلمي للاختلاف،وهو غياب أنتجه فقه التغلب والاستيلاء،فشاعت في الشعوب العربية والإسلامية أخلاقيات النفاق والخوف واليأس والتردد والأنانية وإيثار العافية والمصلحة الشخصية، وسلوكيات الرشوة والمحسوبية والغموض والتقية بدل الوضوح والشفافية والصدع بكلمة الحق. 4.يتذرع الاستبداد بمُسَوِّغات شرعية من آيات وأحاديث تستعمل في غير محلها ويساء استغلالها،لاسيما آية طاعة أولي الأمر،وأحاديث السمع والطاعة،والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن أولي الأمر المأمور بطاعتهم في الآية المعروفة هم الحكام العاملون بالعدل،والعلماء الآمرون بالعدل. 5.أحاديث السمع والطاعة فيها ما يدعو إلى طاعة مطلقة،وفيها ما يدعو إلى طاعة مقيدة والمعروف في قواعد الأصول أن المطلق يحمل على المُقيَّد فلا طاعة مطلقة لحاكم، وإن تكرار الإحالة على المذهب المالكي كلما طُلب إلى "الشعب العزيز" بذل طاعة مطلقة يكاد أن يؤول بالفقه المالكي إلى "فقه مَلَكِي" يتمحور حول قضايا ومسائل الإمارة. وإن الشأن الديني الرسمي في المغرب أناط بالعلماء دورا جد محدود لا يتعدى في كثير من الأحيان البَصم على السياسة الرسمية ،ولم تُعط لهم بتاتا صلاحية الاعتراض عليها،فخطة ذلك الشأن تنص على أن"السياق الديمقراطي حقق للدعاة والعلماء والأئمة مزايا عديدة، وخفف عنهم أعباء كثيرة، فتكاليف الأمر بالمعروف صارت اليوم من اختصاص مؤسسة البرلمان، وعبء التشهير بالمنكر صار من اختصاص الصحافة، وأمانة الحسبة صارت من اختصاص القضاء والشرطة وأجهزة الأمن، وإسعاف المظلومين ونصرة المحرومين صارت اليوم من اختصاص المجتمع المدني.لم يبق للعلماء والدعاة والأئمة إلا استعادة وظيفتهم النبيلة، وهي النيابة عن الإمامة العظمى،والوفاء لعقيدة البيعة والإمارة"،كذا،مهمة وحيدة:الوفاء لعقيدة البيعة والإمارة،مع ما يحمله إدخال الحكم ومسائله في مسمَّى العقيدة من مغالطة وتدليس وذريعة لتكفير المعارضين والمخالفين وقمعهم وسفك دمائهم،بينما النظر السياسي مُفوَّض كما قلنا وأكدنا إلى النظر الشعبي عبر ممثليه الحقيقيين ولا علاقة له بالعقيدة. 6.بلغت الأمة الإسلامية من النضج مبلغا لم يعد من المقبول أن يظل الحكم مرهونا بمزاج الحاكم الفرد مهما كان صالحا،فلا بد من مؤسسة تراقبه وتحاسبه،وليس من المقبول أيضا أن تطول مدة الحكم لأن طول الأمد يفضي إلى قسوة القلوب والتخشب والإعجاب بالرأي. 7.في التاريخ الإسلامي كانت السلطة العلمية في يد علماء عاملين وملتحمين بشعوبهم ولم يمثلوا "إكليروسا" يحتكر النطق باسم الله وتأويل الدين، وتمس الحاجة إلى تفعيل دور العلماء بضمان استقلاليتهم،والانفتاح على الأغيار والمخالفين وأصحاب الخبرة والتجربة. 8.البيعة ذات صبغة تعاقدية اشتراطية وليست إرادة تحكمية فوقية، والبيعة الدينية هي غير البيعة السياسية،فالأولى كانت منشئنة للدخول في دين جديد،وهي التي كان عدم الوفاء بها يُعدُّ ارتدادا إلى محاور الولاء الجاهلي والقبلي والعشائري،أما الثانية (السياسية) فإن الوفاء بها يتوقف على وفاء الحاكم بشروط التعاقد،وإنَّ عَدم وفائه بها يجعل من حق أي أحد أن ينخلع منها. 9.إن الاستبداد أثر في مدارس السلوك ومجالات اشتغال العلوم،أثر أولا في السلوك بإشاعة التصوف التبركي المنعزل عن الاهتمام بالشأن العام للناس والمزكي للسياسات الظالمة،فسهل على المستبدين توظيفه سياسيا،وأثر ثانيا في مجالات اشتغال العلوم بتضخم القول في الشأن العبادي وضموره في الفقه السياسي وحقوق الناس،لذلك يتحتم ممارسة اجتهاد حماعي لتشييد المهاد النظري للدولة المدنية. 10.إن دعوات "تطبيق الشريعة" التي تُغمض الأعين عما هم الناس فيه من حيرة نتيجة التجييش الإعلامي الممنهج،وتُغفل الحديث عن آفات الفساد والاستبداد والفقر والعوز التي يحسن اعتبارها شبهات توجب درء الحدود في واقعنا الراهن،كما تصور(تلك الدعوات) الشريعة كأنها ترسانة من القوانين "القمعية" ما فيها غير جلد الظهور وقطع الأيدي، بينما الأمر يتوقف على اقتناع عقلي واطمئنان قلبي،لا تنفع في إيجادهما لا نعوت التكفير،ولا سوء التعبير الموجب للتنفير،ولا أدوات الدولة. وبلا حرية ولا عدل يجد الناس أنفسهم أمام بنية عقدية هشة قابلة للزعزعة والاختراق،مما يجعل الحاجة ماسة إلى خطة تكاملية لا تفصل الاجتماعي والسياسي عن الديني،وإن أي تغييب للحديث عن القاعدة الاجتماعية المعاشية للأمن الروحي سيؤول إلى تحويل الدين إلى عامل تخدير وتسكين،وقبول الدنية طوعا لا كرها،وتبرير القعود والاستسلام.