إنّ للفتوى شروطا مقرّرة وللمفتي ملكة إضافية غير أن يكون ملمّا بالمظان عارفا بالأصول وهي شيء أرقى من أن يكون المفتي مجرّد داعية. ومثل هذا الكلام لم يعد خافيا على أحد حتى من غير المتخصصين. غير أنّ فوضى الفتاوي وجنون بعض الدعاة المتطاولين على الفتوى حوّل الفتوى إلى حكاية الحرافيش، وبات الدعاة بعد هذا الفحش الفتوائي أدعياء. ولا يستثنى بلد من هذه المصيبة التي ألمت بمجتمعاتنا العربية ، وهي لا تقلّ خطورة عن سائر المصائب التي حلّت بفنائها. في المشرق كما في بلادنا تحوّلت الفتوى إلى كوميديا فقهية يحتضنها الجهل ويملي لها التّسلط وتمنحها الفوضى الخلاّقة شروط النّمو والتكاثر والانتشار. في مصر لم نكد نستوعب صدمة إرضاع الكبير حتى أتحفنا حرافيش السوق الفقهية السوداء بفتوى زواج الإماء وهو خاتمة المطاف في مسلسل طويل من الأنكحة الحلال التي تجود بها السوق السوداء. كما لا زلنا بين الفينة والأخرى تستوقفنا بعض الفتاوى الساذجة لفقيه مغربي أو بالأحرى داعية "أكروباط" سقط سهوا في سوق الفتوى، جعل من الفتوى مجالا لتشويه الإسلام والتّندّر بفقهه. ودائما وجب التّذكير بأن مواجهة هذا التّخبط الفتوائي والغباء الفقهي لا يتطلب استنفارا لأصول الحداثة وأسباب السماوات والأرض. فالأمر في غاية السخف إلى حدّ يجب التندّر فقط، ومحاكمتهم بأصول الفتيا نفسها. ويتعيّن أخذ ما وراء هذه الفتاوى على محمل الجد بالاتجاه الآخر؛ يعني ، من يا ترى يقف خلف هؤلاء الدعاة ومن يوحي لهم بهذه العبثية في الإساءة إلى سمعة الإسلام؟ الفتوى في طول المشروع الحضاري كانت الفتوى ولا زالت أمرا خطيرا لما تقتضيه من شروط تجعل الفتوى صناعة وليست دعوة. فهؤلاء الدعاة المتجرّئين على الفتوى يخلطون بين الإنشاء الدّعوي والصناعة الفقهية. هذا ناهيك عن شرط ضروري يكمّل سائر شروط الفتوى الصحيحة، ألا وهو المعرفة الموضوعية بقضايا ومشكلات الزمان والمكان في الحدّ الذي يكفي لتشخيص الموضوعات واستنباط الأحكام في ضوء ذلك التّشخيص، لتبعية الأحكام لعناوينها. ومهما اختصت فروع العلم الدّيني من جهة التحصيل والتكوين والتخصص فهي لا تكفي لتكوين الرّؤية العامة التي يجب أن تتحرّك الفتوى في ضوء معطياتها المتجدّدة. هنا يصبح الاجتهاد على عظيم فضله، غير كافي في إنجاز مهمّة الفتوى. بل يتطلّب الأمر مزيدا من تثقيف الاجتهاد وتوسيع مداركه. لأن قيمة الاجتهاد هو في إيجاد ممرّ منسجم بين الأحكام والموضوعات المتجدّدة. فمهما بلغت قيمة العلم بأصول الأحكام فإن المشكلة تستمر إذا لم يتحقق الحدّ المطلوب من العلم بالواقع. فالمشكلة في سائر الإفتاءات مع توفّر شرط الاجتهاد ، عادة ما تكمن في الجهل بالواقع الذي ينعكس على عملية تنزيل الأحكام. إن تخلّفنا هو في التنزيل لا في إحراز قواعد الاستنباط. وهو تخلّف في تشخيص الموضوعات الواقعية وليس في استيعاب منطق الحكم النظري. ومن هنا عرفت الممارسة الفقهية في تجربة المغاربة ما يعرف بالنوازل. وبغضّ النظر عن تفاصيل ومستوى التعاطي مع النوازل، فإنّ استحضار النازلة في مسار صناعة الفتوى هو أمر يؤكّد أهمية مقاصد الشريعة وفلسفة الأحكام. لكن كلّ هذا النقاش هو أسمى بكثير من مستوى الإسهال الفتوائي الذي يطالعنا به بعض الدّعاة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وهؤلاء يجب محاكمتهم في ضوء ما تقتضيه الفتوى من شروط ومواصفات تجعلهم في نهاية المطاف أشبه بمهرّبين للفتوى وحرامية في السوق السوداء. لقد ذكرنا في غير ما محلّ ، بأنّ المجتمع حينما يتخلّف، تتخلّف مقاصده معه ويتخلّف فقهاءه معه. فالآلية الفقهية وحدها لا تصنع تقدّما. بل الفقه نفسه لا يصنع تقدّما . وإنما هو يواكب حركة التقدم ويتكيّف معها. فالفقه ذو وظيفة سلبية تكييفية. وربما في غياب وصمت العلماء يجد هؤلاء الدعاة فضاء مناسبا لتكريس العبث في الدين والدنيا. ولكي نكوّن صورة عن هذا التّخلف الفتوائي أو لنقل على سبيل المجاز، هذا التهريب الممنهج للفتوى، لا بدّ أن نذكر عيّنات منها مع إبداء ملاحظات أوليّة ومختصرة حولها. زواج الأمة قبل بضعة شهور تناهى إلى مسامعنا حديث عن أمر عجيب، يتعلّق بالمرأة التي وهبت نفسها لتكون أمة لرجل قصد أن يعقد عليها عقد الإماء. وكان الداعية المصري المدعو عبد الرؤوف عون قد دعا إلى زواج ملك اليمين. بعد أن قام هو نفسه بعقد زواج على أساس الرّقّيّة. والصيغة هنا تتميز بقيد ملّكتك نفسي ثم يجري القبول ليتم الزواج. شكل هذا العقد الجاهلي استفزازا كبيرا في أوساط العلماء المصريين. وكان علماء الأزهر قد شجبوا الفتوى وانتقدوها. وهذا الحدّ محمود. لكنهم ذيّلوا نكيرهم على الفتوى وصاحبها باعتبارها تؤدّي إلى انتشار الفساد والزنا وما شابه. يعني لا يوجد تحليل لفلسفة الأحكام تدين الفتوى والمفتي من حيث يهين كرامة المرأة ويضرّ بمفهوم التحرر والحرية. في أحكام الإماء يجب مراعاة العناوين. فهذا الشّكل من النكاح له صلة بواقع سوسيو تاريخي كان الرّق فيه ليس فقط ثقافة بل مرحلة تاريخية من مراحل نمط الإنتاج. الذين يتحدّثون عن أن الإسلام شجّع الرّق هو جاهل بتاريخانية التّشريع الإسلامي وغير ملمّ بالتّطور الحتمي للمجتمع الإنساني. لا أحد يدين مراحل التاريخ بشروطها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما تكمن المشكلة حينما نكرس شروط حياة اجتماعية قديمة في مرحلة اجتماعية مختلفة. يبقى السؤال هنا حول التدابير التي اتخذها الإسلام لمحاربة الرّق بصورة ممنهجة. إنّ الشروط التاريخية لا تتغيّر بحكم شرعي ناجز بل هي لا تتغيّر إلاّ بمخطط تاريخي بعيد المدى. ولا زال القيّمون على فلسفة التّشريع لم يهتدوا بعد إلى نمطين من التحريم: التحريم التكليفي الفردي والتحريم الوضعي التاريخي. هذا له صلة من وجه وفرق من وجوه أخرى مع مفهومي الحكم التكليفي والوضعي بمعناهما الأصوليين. أي يمكن أن نتحدث عن أحكام وضعية تدور مدار التكليف الفردي، كما يمكن أن تكون الأحكام التكليفية لها دخالة بمفهومنا للحكم الوضعي التاريخي. نعني هنا بهذين المصطلحين، أننا لو تتبعنا بالاستقراء كيف تعاطت الشريعة مع التكاليف الفردية والتكاليف الاجتماعية والتاريخية، سنجد أنّ الأحكام الفردية التكليفية فورية أو متمرحلة على المدى المتوسط يستوعبها زمن التنزيل نفسه وحاسمة. لأنها تتعلق بموضوعات حاضرة في كل زمان ومكان. أو لأنها ربما ترتبط بالمجتمع المحصور ولا تشكّل مرحلة تاريخية للمجتمعات الإنسانية. وفي مثل هذه الحالة، يتعلّق الأمر بالحكم الوضعي التاريخي الذي يعني هنا وليس بالمعنى الأصولي التقليدي، مجموع الأحكام التي تتكامل فيما بينها لتنتج عنوانا اجتماعيا وشرطا تاريخيا يجعل الأحكام تتغيّر لمجرد ما يطرأ على عناوينها الكبرى من صيرورة. والرّق بات محرّما اليوم بموجب تبدّل العناوين لأنه لم تعد له أسباب موضوعية.وحتى الحرب لم تعد سببا له في ضوء الشرعة الدولية المعاصرة. فهو إن وقع اليوم يقع بعناوين تجعله محرّما لا مباحا.لقد تزامن تاريخ الحدث الإسلامي مع مرحلة الرق في المجتمعات الانسانية برمتها حتى كانت الحروب تقام لمزيد من جلب الرقيق. في كلّ أحكام الرّق نقف على أسلوب جديد انتهجه الإسلام لم تسبق إليه نظم البشر في التعاطي مع مسألة الرق. ويمكن من خلال الإطلاع على أحكام الكفارات في الإسلام حيث جعلت من تحرير الرقيق سياسة عبادية ممنهجة استطاعت أن تهيئ الأذهان قبل الشروط الاجتماعية ضد الرقيق. فأحكام الكفارات ارتبطت بالأبواب التشريعية ذات الصّلة بالعبادة وليس المعاملة، كما في الصوم واليمين؛ أي ما يؤكّد أن حركة تحرير العبيد في المجتمع المسلم أصبحت حركة تشريعية وعبادية وأخلاقية بالدّرجة الأولى. لقد طوّر الإسلام ثقافة إنسانية حتى في أزمنة العبودية بين السيد والرقيق؛ علاقة تزخر بأخلاق الإنسان إلى حدّ قلّص الإسلام في زمن العبودية بين السيد والعبد لتصبح العلاقة بينهما مجرّد علاقة محدّدة الصلاحيات وليست عبودية مطلقة، مما جعل الرّقية غير محرزة ويصبح الاستغناء عنها يسيرا بل أصبح الرّق مسؤولية أكثر مما كان حظوة وتفاخرا. ففي سنن أبي داوود عن أبي مسعود الأنصاري قال كنت أضرب غلاما لي فسمعت من خلفي صوتا يقول اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه فالتفت فإذا هو النبي فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله قال أما إنك لو لم تفعل للفعتك النار أو لمستك النار . لقد أمروا بأن يطعموهم من مأكلهم ويكسوهم من لباسهم وأن يسموهم إماء وغلمان وموالي وليس عبيدا.وشيئا فشيئا تهيّأت الأذهان لإدراك أنّ الرقية ليست منتجة على جهة الحتم في المجتمع. وهذه الجهة هي التي اشتغل عليها التشريع الإسلامي على المدى البعيد؛ أي الاستغناء عن خدمات الرقيق وجعل ذلك أمرا عباديا. ولو تأمّلنا قليلا لماذا ارتبطت أحكام تحرير العبيد بأحكام العبادات وليس المعاملات، سندرك لا محالة بأنّ قضية العبيد كان لها علاقة بنمط الانتاج والمصلحة ، ولا يمكن مناهضة ذلك إلاّ بأحكام غالبة تأخذ بالأذهان والنفوس ولا تنظر إلى المصالح. هنا يكون الأثر الديني مهمّ في عملية التّحوّل بالأنماط. فلكي نغيّر التاريخي لا بدّ من تمثّل سوبر تاريخي. من يتأمّل في أحكام الإسلام يشعر أنّ هذا الأخير وضع متفجّرات فقهية تجعل من الرّق قضية زمنية حتمية الاندثار. كانت الحرب إحدى أسباب الرّقية منذ بداية المرحلة العبودية في تاريخ المجتمعات. وكان أرسطو واضحا حينئذ لما اعتبر أن الأسير هو مخيّر بين أن يفقد حياته أو يفقد حرّيته. وكان حكم العقلاء أن يفقد حريته أفضل من أن يفقد حياته. اليوم بات هذا الأمر مجرد تاريخ، ولا أحد من المسلمين يتحدّث عن الرقيق عموما بالأحرى أن يشرّعه بين المسلمين. في ضوء هذه المقدمة، أين يا ترى نضع فتوى زواج الأمة التي أتحفنا بها مفتي جهول في مصر؟ هذا يعني بداية العودة الممنهجة لعهد العبودية وثقافة العبيد. وهذا أشبه ما يكون بالتعرّب بعد التّحضّر. إن أسباب الرقيق هي الحرب المشروعة بين المسلمين وغيرهم. ولم تكن الحرب التي قامت بين المسلمين سببا في نظر الفقهاء للرقية. فليس الحرّ من يسترقّ نفسه بل الرّقية هنا تجري على نحو القهرية بالحرب أو بيع الملكية. ولم يحدث قط أن وهبت امرأة حرّة نفسها لعبيط كي يستعبدها تحت ذريعة الزواج. ومتى كان الزواج ثمنا لعبودية المرأة؟! وهل طلب المستحب يتم بطلب الحرام؟! إنّ الإنسان لا يجوز له استعباد نفسه لا فرق في ذلك بين الجنسين. وكما قال عليّ بن أبي طالب:" لا تكن عبدا لغيرك وقد خلقك الله حرّا". فلو كانت الحرية قابلة للتّصرف من قبل صاحبها فلا قيمة لنضالات الإنسان من أجل استكمال حقوقه وحريته. ولما كانت الحرية ضرورية ولا كان النضال من أجلها واجبا. ولما بلغت حدّا باتت عند المسلمين تجري مجرى المقاصد كما عبّر عنها محمد الطاهر بن عاشور. بل لا قيمة للمقاصد الشريعية الكبرى لولا وجود الحرية. فحفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض لا يمكن تصورها إلاّ بحفظ الحرّية. والإنسان غير مفوّض لكي يتصرّف في نفسه كيفما شاء. فالانسان ليس حرّا في التّصرّف في حرّيته سواء من جهة الإسراف والتّعدّي بها إلى حرية الآخرين كما ليس حرّا في الزّهد والتّخلي عن حرّيته للآخرين. ويمكن الحديث هنا عن أنّ الإنسان غير مرخّص له في التّصرّف في حرّيته وذلك في نظري يقوم على مدركين: أوّلا إن الإنسان المسلم محرّم عليه أن يكون ظالما لنفسه. ولقد تحدّث القرآن بما يكفي عن ظلم الإنسان لنفسه. وسلب الإنسان من نفسه حقه في الحرية هو مصداق أعظم لهذا الظّلم. هؤلاء الذين استباحوا أنفسهم وتخلّوا عن نعمة الحرية إنّما كفروا بنعمة الله. ولا شكّ أنّ الكافرون هم الظالمون. فهم ظالمون لأنفسهم، إذ: (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم)/ (هود 101)..بل هؤلاء النساء اللاّئي يزهدن في حريتهن لن يحصل لهم سكن في بيت الزوجية، الذي اعتبره الله تعالى سكنا بعضهم البعض على نحو سواء، بل سيكون مصداق مساكن الذين ظلموا أنفسهم، حيث يقول تعالى:(وسكنتم في مساكن الذين ظلموا انفسهم)(ابراهيم 45). بل ستخرب بيوتهم تلك لقوله تعالى(فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا). يقول علي بن أبي طالب: "لا تكن ظلما ولا مظلوما". ثانيا: تحريم الضرر في الإسلام. وقد أجمع الفقهاء على أصل تحريم الضّرر إن بالنّفس أو بالآخر. وربما كان الاختلاف في مراتب الضّرر، حيث رأى قسم من الفقهاء بأنّ إلحاق شيء من الضّرر الخفيف بالنفس جائز. وهذا نفسه لا ينفع في المقام ، لأنّ التّخلّي عن الحرّية هو ضرر قائم وكبير وهو من أكبر مراتب الضّرر. إنّ الرّقّيّة حتى في زمانها كانت تحصل بسبب الحرب وتترتب عليها آثار بعد ذلك في انتقال ملك اليمين بفعل المتاجرة. لكن أي مبرر اليوم للمرأة في أن تستبيح نفسها وتهب نفسها لرجل قصد استعبادها ونكاحها. وأي فارق هنا بين الرجل والمرأة؟ فلا توجد لدينا أدلّة حتى نحكم باستصحابها اليوم ، ولا خروج بالدليل في هذا المقام لكي نعتمده مدركا لتصحيح هذا النوع من العقود ولا ما يميز بين المرأة والرجل بما يجعل الأمر يمتد إلى أن يستعبد كل امرء نفسه متى شاء؟ فعلاقة الرجل بالمرأة في الإسلام علاقة مساواة، أو كما في الآية الكريمة:(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). فأين هو حال المرأة المستعبدة نفسها طواعية من هذا الحكم؟ وهل الإسلام جاء ليوسع من مساحة الحرائر أم أنه جاء ليوسع من مجتمع الإماء؟ أقول هذا، لأنّ هذا النوع من الاستعباد الرخيص ليس فقط أنه يعود بنا إلى عصور الظلام فحسب، بل أجد فيه ظلما فاحشا للمرأة وتمييزا عنصريا بالغ القبح. أي سوف نحظى فقط بمجتمع الإماء في غياب أي تخريجة فاحشة مثل تلك التخريجة التي تعبّد الرّجل للمرأة. هنا لا شكّ أننا أمام حالة من تشويه سمعة الإسلام في زمن بات الإسلام فيه محاربا. في قبح فتوى الزمزمي بجواز إتيان الجثث الزمزمي داعية وليس فقيها. ومهما بلغت درايته ببعض المتون فلا يكفي هذا لأن يكون مفتيا لأنّه ليس مجتهدا. فهو لا يحرز ملكة اجتهاد ولا إلمام له بسائر المظان ولا دربة له في تطبيق القواعد الفقهية والأصولية على النوازل. وهو فضلا عن هذا وذاك ، شخص جاهل بفنون عصره وثقافة زمانه. بل فضلا عن ذلك شخص له مزاج خاص بالفتوى يجعلها تعبيرا عن أهواء لا حقائق اجتهادية. ولا نريد هنا أن نطنب لكي نظهر أين أخطأ التطبيق وأين فاتته بعض المظان وتصرف كما لو لم يوجد هناك نص. فهي فتاوى تجرف المنقول والمعقول. وهي ليست اجتهادا، لأنّ صاحبها لا يبدل جهدا في تحصيل الأحكام أو تشخيص الواقع. ومجمل فتاويه حول الجنس كانت أدعى للتّندر منها للجدّ. وهي فتاوى في مجملها تفتح للمكلف بابا في غرائب الجنس التي عزّت حتى على صاحب: "عودة الشيخ إلى صباه". ولنأخذ منها آخر ما راج في سوق الصحافة، لأنّ الزمزمي في لعبة الفتوى بات يقدم تبريراته من بعيد وفي الصحافة وقلّما أخضعها لمناقشة المختصين. وآخر تلك الفتاوي/البلاوي، قوله بجواز أن يأتي الرجل زوجته بعد وفاتها. فتوى شاذّة حول أمر شاذّ بمزاج شاذ. ولنا في ذلك ملاحظات أولية وموجزة كالتالي: إن للفتوى آدابها ومقاصدها فضلا عن شروطها. وليس فيما أفتى فيه الزمزمي ما يمت بصلة إلى تلك الآداب لإخلاله بالذّوق العام ولا بمقاصدها لأنّ الموضوع ليس حرجيا ولا مطلوبا ولا به يتحقّق اليسر في الأحكام. وهو من النّاحية النفسية يعزّز آفة إتيان الجثث والجمادات، الذي يعتبر مرضا وشذوذا. وهذا يعني أنّ الزمزمي يشرّع بفتاويه الفوضوية لما من شأنه الضّرر بالصّحة النّفسية. ولا أنكى من هذه الآفة عند علماء الصحة الجنسية. ولكنه مزاج الزمزمي البعيد عن ذوق وثقافة عصره. أمّا من جهة الصناعة، فلا أرى سببا لهذه الفتوى سوى عدم إحاطة الزمزمي بمظان المسلمين. ما يجهله الزمزمي هو أنّ المرأة بعد وفاتها تحرم على زوجها إلاّ ما خرج بالدّليل كالغسل وجواز النظر. فالمحلل هنا خارج بالدليل. وذلك لوجود نصّ في المسألة. أي المدار هنا على الدّليل الروائي وإن كان في السيرة العقلائية والذّوق العام ما يغضده. مثلا توجد صحيحة الحلبي عن الإمام الصّادق قال:" " سئل عن الرجل يغسل امرأته ؟ قال نعم من وراء الثوب لا ينظر إلى شعرها ولا إلى شئ منها ، والمرأة تغسل زوجها لأنه إذا مات كانت في عدة منه وإذا ماتت هي فقد انقضت عدتها ". وفي صحيحة زرارة عن الصادق : " في الرجل يموت وليس معه إلا نساء ؟ قال تغسله امرأته لأنها منه في عدة وإذا ماتت لم يغسلها لأنه ليس منها في عدة ". تحريم النّظر هنا لا يعني تحريم التغسيل، حيث ظاهر الصحيحتين عدم جواز تغسيلها مجرّدة عن اللباس. فإن حدث مو وراء الثّوب جاز. هنا يبدو أنّ للمرأة حظّا أوفر من الرجل في النّظر إلى زوجها حال الغسل لأنّها من جهتها في عدّة على خلاف الرّجل فهي تحرم عليه فور وفاتها. والشّاهد هنا ما خرج بالدّليل كالغسل والنظر. ولذا جاز له تغسيلها شريطة عدم النظر إلى عورتها حسب هذا الرأي الفقهي. ومنه نستنبط حكم تحريم الإتيان بناء على دليل قياس الأولوية. فإذا كان النّظر إليها غير جائز فكيف يجوز الإتيان؟ وقد رتّبوا عقوبات على من أتى زوجه بعد الوفاة كما في تقريرات الكلبيكاني في باب الحدود والتعزيرات: "وأما إذا كانت زوجته ففعل بها وهي ميتة وكذا أمته فإنه يقتصر في التأديب على تعزيره وسقط عنه الحد للشبهة أي لأنه اشتبه عليه الأمر وتوهم أنها تكون حلالا عليه كما كانت عليه حلالا في حياتها مضافا إلى بقاء علقة الزوجية بين الرجل وزوجته بعد وفاتها إلى أربعة أشهر وعشرة أيام ، فالزوجة والأمة ليستا كالأجنبية وإن كانتا محرمتي النكاح بعد وفاتهما فالوطء مع زوجته الميتة أو أمته الميتة وإن كان محرما إلا أنه ليس زنا ولا بحكمه ، فاللاّزم عليه التعزير فقط" . إن كثيرا من الدعاة من غير الفقهاء من أمثال الزمزمي يخلطون بين ارتفاع بعض الحدود لجهة عدم انطباق العناوين عليها أو لشبهة في المقام وبين الإباحة. فكلّ ما كان حكمه التعزير يرونه مباحا. وهذا جهل كبير بفلسفة الأحكام ومقاصد الشريعة. إنّ المرأة تحرم على زوجها إلا ما خرج بالدّليل وعلى نحو الفورية، فيما لا يحرم زوجها من جهتها ما قبل استكمال عدّة الوفاة. وهي محرّمة عليه في النّظر إلى عورتها فمن الأولى إتيانها. تكون فتوى الزمزمي فاقدة للذوق والثقافة فضلا عن افتقادها لقواعد المعقول والمنقول. وهذان مثالان لفتاوى الشذوذ والاستعباد والفساد والتّخلّف. ومع ذلك كلّ شيء عندنا يجري بعناوين المقاصد والنوازل زعما وادعاء.