خفضت وكالة التصنيف الائتماني الدولية "فيتش" تصنيف المغرب الائتماني إلى "مرتفع المخاطر"، قائلة إن فيروس كورونا أضر بشدة بالأوضاع المالية للملكة المغربية. وقالت "فيتش": "السلطات تستهدف الحد من التدهور في المالية العامة؛ لكن التأثير المستمر للجائحة على الموازنة وخطط لتوسيع نطاق الخدمات الاجتماعية وسط تصاع البطالة سيعقدان جهود تحقيق الاستقرار على صعيد الديون". فهل هذا التصنيف منصف أم أنه جانب الصواب؟ الدكتور عبد النبي أبو العراب يحاول، من خلال المقال التالي، تسليط الضوء على أسباب هذا التصنيف الجديد ومدى صوابية التعليلات المقدمة من طرف الوكالة. وهذا نص المقال: خرجت وكالة التصنيف الائتماني الدولية "فيتش"، مؤخرا، بقرار يحمل تخفيضا لتصنيف المغرب من أدنى درجة جديرة بالاستثمار عند (BBB-) إلى أعلى درجة مرتفعة المخاطر عند (BB+)، متذرّعة بأن هذا التخفيض هو بسبب التأثير الخطير لوباء فيروس كورونا على اقتصاد المغرب وماليته العمومية والخارجية وتراجع الإيرادات الضريبية وانكماش الناتج المحلي الإجمالي بشكل سيفاقم مديونية الدولة، مع تنبيهها إلى أن استمرار تأثير الوباء على ميزانية الدولة وخطط توسيع الخدمات الاجتماعية وسط تصاعد البطالة سيعقد جهود الحكومة في التحكم في الديون. وقد عللت الوكالة سالفة الذكر أيضا موقفها بأن المغرب سيشهد خلال السنوات الخمس المقبلة ارتفاعا كبيرا في حجم الإنفاق الاجتماعي بسبب خطط الحكومة المرحلية ونفقات الصحة ومعاشات التقاعد، حيث سيؤدي العجز المالي الكبير والنمو الضعيف إلى ارتفاع مهول في الدين الحكومي ليصل إلى 68.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 عوض 56.4 في المائة في 2019، وإلى اتساع عجز الميزانية الحكومية إلى 7.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2020، و6.5 في المائة خلال 2021 عوض 2.8 في المائة في عام 2019. وإذ نتفهم هذه العمليات الحسابية الضيقة، فإننا نعتبر أن هذه الوكالة أخطأت في هذا التقدير الذي سيضر بالمغرب؛ لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار القدرات الإستراتيجية للمملكة من جهة، ولأنها تغفل الحلول المبتكرة والبديلة التي يعتمدها المغرب في مواجهة تبعات هذه الجائحة الخطيرة. 1 من المقاربة المحاسباتية الضيقة إلى الرؤية الإستراتيجية الطموحة لقد اختار المغرب، منذ أول وهلة، التعامل مع الجائحة بمقاربة استشرافية، حيث لم تكن كل الإجراءات السباقة والجريئة التي اتخذها تهدف فقط إلى التعامل مع حالة الأزمة؛ ولكن أكثر من ذلك، إلى إعداد المملكة وتعبئتها لما بعد الجائحة. وفي سياق هذه المقاربة، جاءت الإجراءات التي أعلنها الملك كخطة للخمس السنوات القادمة هي عبارة عن إجابة كافية لمظاهر القصور التي أبانت عنها الأزمة، والتي بخلاصة تجتمع في ثلاثة عناصر أساسية، وهي الإقلاع الاقتصادي، والحماية الاجتماعية الشاملة وإصلاح القطاع العام. بالفعل، قد يكون مفاجئا ونحن في عز الأزمة، وموارد الدولة في تراجع حاد، بلغت ما يفوق 13 مليار درهم برسم قانون المالية التعديلي 2020، ونفقاتها في ارتفاع لا يمكن التراجع عنه، خاصة برسم السنة المالية 2021، أن تختار الدولة إطلاق برامج اجتماعية مكلفة تهم التغطية الاجتماعية والصحية ل22 مليون مغربي. إن المقاربة الضيقة والخجولة ستوحي بكل تأكيد بالتركيز على المدى القريب وتفضيل موازنة المؤشرات الماكرو اقتصادية الأساسية، ومنها بالأساس مستوى عجز الميزانية والمديونية. إلا أن فطنة القيادة الحكيمة وروح المسؤولية أمام المستقبل والمخاطر التي تحدق بالمغاربة مع تطور الأوبئة والأمراض وتفاقم الحاجة إلى الرعاية الاجتماعية والطبية للساكنة تفرض اتخاذ إجراءات جريئة للحيلولة دون الوصول إلى هذه الأوضاع الخطيرة من الهشاشة والضارة بالسلم الاجتماعي والأمن القومي. لقد أبانت الأزمة عن خطورة الوضعية الاجتماعية وخطورة ترك الملايين من المغاربة بدون صحة ولا تقاعد ولا تعويض عن فقدان الشغل ولا تعويضات عائلية، خاصة مع ارتفاع البطالة وتوقف أو تراجع العديد من الأنشطة الاقتصادية وتسريح الألاف من العمال والأجراء، بالإضافة إلى التكلفة الباهظة التي على المواطن والأسرة تحملها في نفقات الصحة ومخاطر ترك الشريحة الغالبة من المغاربة خارج مؤسسات الرعاية سواء خلال فترات العطالة وفقدان الشغل أو بعد بلوغ سن التقاعد والعجز. نعم على المستوى القريب، قد تبدو هذه البرامج الاجتماعية مكلفة على ماليا للدولة؛ ولكن على المستويين المتوسط والبعيد، فهي الكفيلة بالحفاظ على السلم الاجتماعي الذي لا يقدر بثمن. ولكن هل فعلا هذه النفقات ستجعل المديونية خارج السيطرة وستتسبب في انفجار عجز الميزانية بالمملكة كما ذهبت إلى ذلك "فيتش"؟ إن هذا الافتراض الخاطئ والمتسرع يتجاوز الاعتبارات الإستراتيجية والعوامل الإبداعية التي تلف قرار المملكة بإطلاق هذه المشاريع العملاقة في عز الأزمة، هذه العناصر التي سنتناولها في الفقرة التالية. 2 الحلول المبتكرة والاختيارات الإستراتيجية مباشرة بعد إعلان قرار الحجر الصحي وإعلان حالة الطوارئ الصحية بالمغرب، أطلق الملك محمد السادس مبادرة فريدة على المستوى العالمي، وتمثلت في صندوق التضامن الشعبي كوفيد 19، الذي وفر للدولة ما قدره حوالي 3 في المائة من الناتج الاجمالي الداخلي، وجعل الخزينة لا تصرف ولو سنتيما واحدا على هذه الجائحة إلى حد الآن، بل تكفل بذلك سخاء المواطنين والمواطنات وتضامنهم. إن هذا الصندوق العجيب، والذي شكل تعبيرا حقيقيا على متانة قيم التضامن التي يتقاسمها المغاربة، جعل إلى حد الآن ميزانية الدولة خارج دائرة الضغط، ومكن على الرغم من كل النفقات الاجتماعية التي تم صرفها لحوالي 12 مليون مغربي و700 ألف أجير فقدوا عملهم، ومليارات نفقات التجهيزات الطبية وغيرها من إبقاء خزينة الدولة تحافظ على توازنها النسبي، وأعطت للدولة هامشا كبيرا في تدبير هذه الأزمة. وقد كان على وكالة التصنيف "فيتش" أن تأخذ بعين الاعتبار هذا الإبداع الذي وفر على الخزينة حوالي عشرة نقاط من العجز، ومكن من الحفاظ عليه في نسب مستقرة وتحت السيطرة، في حدود 7،5 في المائة سنة 2020، مقارنة مع بلدان أخرى كإيطاليا التي بلغ فيها عجز الميزانية 10 في المائة، وفرنسا وإسبانيا التي بلغ فيهما العجز العمومي مستوى تاريخيا يتجاوز 11 في المائة، وبلجيكا التي حطمت ميزانيتها أكبر عجز على المستوى الأوروبي ب14 في المائة. كما كان على وكالة التصنيف "فيتش" اعتبار خيار الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص الذي تبنته الحكومة لتعبئة 30 مليارا من الاستثمارات التي سيتم ضخها في الاقتصاد الوطني، بالإضافة إلى 75 مليار درهم من القروض البنكية المضمونة لفائدة الشركات والمقاولات بكل أنواعها. هذا بالإضافة إلى تخصيص مشروع قانون المالية 2021 لمبلغ 230 مليار درهم كمعدل استثمار غير مسبوق في تاريخ المملكة. بالإضافة إلى خطة دعم الإنتاج المحلي واستبدال حوالي 33 مليار درهم من الواردات لفائدة المقاولة الوطنية، بتفعيل مبدأ الأفضلية الوطنية من جهة والرفع من الرسوم الجمركية من جهة أخرى. هذه المجهودات وهذه المقاربة الإبداعية والجريئة ستمكن بكل تأكيد من تغطية النفقات الإضافية التي تضمنها قانون المالية 2021، والتي لا تتجاوز 33 مليار درهم؛ هذا المبلغ الذي اعتبرته وكالة "فيتش" كافيا لتخفيض تصنيف المغرب الائتماني، في حين أنه لا يدفع بعجز الميزانية إلى مستويات مقلقة، بل سيتراجع إلى 6،5 سنة 2021، كما ستبقي على المديونية في حدود متحكم فيها لا تتجاوز 76،1 في المائة، مقارنة مع دول انفجرت فيه المديونية إلى مستويات مقلقة، ولم تخفض بشكل غير مفهوم هذه الوكالة تصنيفها الائتماني، كبلجيكا وفرنسا وإيطاليا التي تجاوزت فيها المديونية العمومية مقارنة بالناتج الداخلي الإجمالي 115، 117 و158 في المائة تباعا. إن هذه المنظومة من الإجراءات لكفيلة بأن تحافظ على السلم الاجتماعي من جهة، وتمكن من تحقيق الانطلاقة الاقتصادية الضرورية للخروج من تبعات هذه الجائحة من جهة أخرى؛ وهو ما سيسهم في إعادة التوازن إلى مالية الدولة بفضل التعافي الاقتصادي وعودة إيرادات الدولة إلى مستوياتها العادية، مما سيمكن من تغطية النفقات الاجتماعية الإضافية التي يستحقها الأمن الصحي والاستقرار الاجتماعي للمغاربة. لقد أخطأت "فيتش" التقدير، وعليها تصويب هذا الخطأ في أقرب فرصة.