يُعد سباق الماراثون أحد أعرق المسابقات الأولمبية. تحكي الأسطورة أن الإغريق واجهوا الفُرس في معركة فاصلة بقرية ماراثون 490 سنة قبل الميلاد، وبعد قتال مرير، أفضت المعركة إلى انتصار اليونانيين؛ حينها أخذ أحد الجنود اليونان مبادرة حمل بشارة النصر إلى أثينا، فركض دون توقف من موقع المعركة إلى الأكروبوليس بقلب أثينا، حيث خر صريعا من شدة الإعياء بعد أن نطق كلمة واحدة "انتصرنا". وعند بعث الألعاب الأولمبية الحديثة في العام 1896، اقترح الأكاديمي الفرنسي المتخصص في التاريخ الإغريقي القديم ميشيل بريال على رئيس اللجنة الأولمبية الدولية بيير دي كوبيرتان تنظيم سباق للركض الطويل يستوحي اسم تلك المعركة الفاصلة، ويُرفع فيه تحد في وجه المشاركين بالجري لنفس المسافة التي قطعها الجندي اليوناني، وجاوزت الأربعين كيلومترا.. راق الاقتراح لدي كوبيرتان لأنه يربط الألعاب الأولمبية الحديثة بماضي مهدها اليوناني القديم. منذ الدورة الأولى في أثينا عام 1896، أصبح الماراثون مسك ختام المسابقات، وصار تقليدا أن يكون دخول متسابقي هذه المنافسة للملعب الأولمبي إيذانا باختتام فعاليات الألعاب الأولمبية الصيفية. وشهدت مضامير الألعاب الأولمبية سباقات أسطورية في الماراثون بمجرياتها المثيرة وأبطالها العظام، لكن من كل هذه السباقات ظل ماراثون دورة روما 1960 بإجماع المتخصصين أشهرها صدى وأكثرها ندية وأقواها إثارة. وفي المغرب دخل هذا السباق التاريخ الرياضي لأنه منح البلاد أول ميدالية في تاريخ مشاركاتها الأولمبية. ثلاثة مغاربة في خط الانطلاق شهدت دورة روما 1960 أول مشاركة أولمبية للمغرب، شأنه شأن مجموعة من الدول الإفريقية التي كانت حينها حديثة العهد بالاستقلال. وكان المغرب قد انضم للجنة الأولمبية الدولية في 25 ماي 1959، عاما فقط قبل الألعاب، وكان يعول في حظوظه للتتويج - كما اليوم- على رياضة واحدة هي ألعاب القوى. تحرك أعضاء اللجنة الأولمبية المغربية وعلى رأسهم الحاج محمد بنجلون لإقناع مجموعة من الأبطال المغاربة الذين تكونوا في فرنسا ودافعوا عن العلم الفرنسي قبيل الاستقلال لحمل القميص الوطني؛ مبادرة أتت أكلها بعد انضمام مجموعة من الأبطال، أبرزهم عداؤون في المسافات الطويلة هما عبد السلام الراضي وبنعيسى باكير. في روما، وبعد ستة عشر يوما من المنافسات، لم يتمكن أي رياضي في البعثة المغربية من الصعود إلى منصة التتويج، وبات مؤكدا أن آخر أمل للمغرب يبقى في آخر مسابقة مبرمجة، والتي لم تكن سوى سباق الماراثون. بُرمج السباق يوم السبت 10 شتنبر 1960، وكان معهودا في الدورات السابقة أن يجري صباحا، لكن ولارتفاع درجة الحرارة في روما ارتأى المنظمون تأخير انطلاقته إلى الساعة 17.45 ليكون الوصول ليلا بقوس نصر الإمبراطور قسطنطين، وليس بالملعب الأولمبي حسب التقليد المتبع. أخذ الانطلاقة 75 عداء يمثلون 37 دولة، بينهم ثلاثة مغاربة هم: عبد السلام الراضي (32 سنة)، بنعيسى ياكير (25 سنة) وعلال سعودي (28 سنة)، سابقة نادرا ما تكررت في الدورات اللاحقة. ولم تخرج تكهنات المتخصصين بشأن الأسماء المرشحة للفوز في عمومها عن أربعة أسماء، هي السوفياتي سيرجي بوبوف، بطل أوربا في الماراثون لعام 1958 وحامل الرقم القياسي العالمي، والأرجنتيني أوزفلدو سواريز، بطل أمريكا اللاتينية في المسافات الطويلة لسنوات، والأمريكي جون جوزيف كيلي، الفائز بماراثون بوسطن 1957، وبالمسابقة ذاتها في الألعاب الأمريكية عام 1959؛ ثم المغربي عبد السلام الراضي، الذي اعتبر حينها المرشح الأول للظفر باللقب؛ لأنه ببساطة حقق في شهر مارس من نفس العام إنجاز السنة بفوزه ببطولة العالم في العدو الريفي في حلبة هاملتون بارك بمدينة كلاسكو الاسكتلندية. ولم ينتبه أحد إلى شاب إفريقي نحيل، يعمل جنديا في حرس إمبراطور إثيوبيا هيلاسيلاسي، ألحق ببعثة بلاده في آخر لحظة لتعويض العداء الرسمي وامي بيراتو، الذي قيل إنه أصيب في مباراة لكرة القدم. قبيل السباق لم يجد أبيبي بيكيلا حذاء مريحا يناسب مقاس قدميه، فأقدم على المغامرة التي أدخلته التاريخ، فقرر أن يخوض السباق حافي القدمين كما اعتاد على ذلك في التداريب، ما وجه إليه الأنظار منذ بداية السباق. ومن الطرائف التي واكبت هذه الواقعة تعاليق للجمهور الإيطالي، كان أصحابها يتساءلون حول ما إذا كانت إثيوبيا بالفقر الذي جعلها عاجزة عن توفير حذاء رياضي لمتسابقها؟ أداء خرافي لبيكيلا واستماتة بطولية للراضي ما إن قطع المتسابقون خمسة كيلومترات فقط، حتى تشكلت الكوكبة الرئيسية، التي ضمت كل الأسماء الكبيرة المرشحة للفوز إلى جانب الأثيوبي أبيبي بيكيلا، كانت تعليمات مدربه السويدي ألا يأخذ المبادرة، ويراقب الكبار، خصوصا عبد السلام الراضي الذي أوصاه أن يقطره كظله لأنه مفتاح السباق، وكذلك كان. في الكيلومتر الثامن عشر (18) رفع عبد السلام الراضي الإيقاع، ما لم يجاريه باقي المتسابقين، فتفككت الكوكبة الرئيسية. قاد الراضي السباق لكنه ظل متبوعا ببكيلا الذي لازمه كظله... في الكيلومتر 41 سيأخذ بيكيلا المبادرة وسيتجاوز الراضي الذي بدا منهكا، لكنه لم ينهر كلية وواصل المطاردة بإباء. كان بيكيلا يعدو في المقدمة بأريحية كبيرة دونما إي إحساس بالتعب، وهو ما ظهر في 500 متر الأخيرة حين رفع الإيقاع في سرعة نهائية لافتة، ذكرنا لاحقا بمثيلتها مواطنه هايلي جيبري سيلاسي، ليدخل أولا محطما الرقم القياسي العالمي ب2 ساعات 15 دقيقية و16 ثانية وجزأين من المائة، ويدخل التاريخ كأول إفريقي من إفريقيا جنوب الصحراء ينال الذهب الأولمبي، مُدشنا بداية سيطرة الأفارقة على المسافات المتوسطة والطويلة. وحل عبد السلام الراضي ثانيا متأخرا ب 200 متر وبفارق 25 ثانية فقط عن بيكيلا، ونال الميدالية الفضية عن جدارة؛ فيما حل النيوزيلندي باري ماكي ثالثا ب 2 ساعات 17 دقيقة و18 ثانية وجزأين من المائة. وحقق العداء المغربي الشاب بنعيسى باكير نتيجة جد طيبة، حين أنهى السباق ثامنا بتوقيت 2 ساعات 21 دقيقة و21 ثانية، متجاوزا كثير من عمالقة ألعاب القوى كالأرجنتيني سواريز والأمريكي كيلي والفرنسي من أصل جزائري الآن ميمون وغيرهم. أما العداء المغربي الثالث علال سعودي فأنهى السباق في المرتبة 61 ب2 ساعات دقيقة و41 ثانية؛ وهو ما عُد إنجازا بالنظر إلى إمكانات المتسابق وتجربته الدولية. قواسم كثيرة جمعت البطلين عبد السلام الراضي وأبيبي بيكيلا؛ منها أنهما ينحدران من البادية، وكلاهما رعى الأغنام في صغره وتعلم العدو في مروج البادية وجبالها، وهما معا طورا مسارهما الرياضي بعد انتسابهما للجيش؛ الراضي عندما تطوع في الجيش الفرنسي وبيكيلا عندما انتسب للحرس الإمبراطوري بإثيوبيا. هل أضاع عبد السلام الراضي الميدالية الذهبية ؟ هو سؤال أثار كثيرا من اللغط بالمغرب بعد دورة الألعاب الأولمبية، وقيل فيه الكثير، لكن بعد ستين سنة من الحدث واستجماع الكثير من العناصر من مختلف المصادر، نستطيع أن نقطع بكل يقين بأنه لم يكن بإمكان عبد السلام الراضي أن يحقق أكثر ما حققه ليلة 10 سبتمبر 1960 في نزاله مع أبيبي بيكيلا، لثلاثة عوامل نفصلها كالتالي: العامل الأول هو السن، فقد كان بيكيلا يصغر الراضي بأربع سنوات وستة أشهر، فكان في بداية المشوار في وقت كان الراضي في خاتمته. وليس خاف في ألعاب القوى أن الشيخوخة الفسيولوجية لها تأثير على قدرات التحمل، وبالتالي على تحقيق الإنجاز العالي في سباقات المسافات الطويلة؛ ومما يدلل على ذلك أنه في نفس السباق شهد العالم كيف أنهى بطل الدورة السابقة في ملبورن 1956 آلان ميمون السباق في المرتبة 34، وفي الدورة السابقة التي فاز بها هذا الأخير أيضا لم يستطع الأسطورة التشيكي زاتوبيك الحفاظ على اللقب الذي انتزعه في دورة هلسنكي 1952 . ويعود العامل الثاني إلى الخطأ الذي اقترفه المسؤولون في البعثة المغربية بإقحام عبد السلام الراضي في سباق 10000 متر يومين فقط على سباق الماراثون، رغم أنه عداء حلبة وليس متسابق مضمار، فجرفته مجريات سباق سريع لم يستطع مسايرة إيقاعه، فدخل في المرتبة 14، والمجهود الذي بذله في هذا السباق أجهده وأفقده الكثير من الطراوة البدنية المفروض أن يختزنها لسباق الماراثون. قد يقول قائل إن هنالك عدائين للعدو الريفي تحولوا لمسافة 10000 متر وحققوا فيها نتائج مبهرة كمولاي إبراهيم بوطيب وخالد السكاح، فهذا صحيح لكنه تم بعد إعداد طويل وتدريبات مكثفة على مسابقات المضمار. بعد سنوات طويلة على السباق، سيعترف المدرب السويدي أوني نيسكنن، المدير التقني الأثيوبي ومدرب بيكيلا، بأن خوض عبد السلام الراضي لسباق 10000 متر فبل يومين من السباق سهل كثيرا مهمة بيكيلا في التغلب عليه، رأي شاركه فيه محرر صحيفةLe Parisien libéré الذي كتب: "لو لم يخض عبد السلام الراضي سباق 10000 متر لربح بلا شك الماراثون بهرولة بطيئة". العامل الثالث والحاسم أن عبد السلام الراضي واجه في روما من اعتبر أفضل عداء ماراثون في جميع العصور، فقد فاز في دورة روما وهو حافي القدمين محطما الرقم القياسي العالمي، ثم حافظ على لقبه الأولمبي في دورة طوكيو 1964 بعد شهر من خضوعه لعملية جراحية لإزالة الزائدة الدودية، محطما رقمه القياسي العالمي السابق بدقيقة كاملة، ليصير أول عداء في تاريخ الألعاب الأولمبية يحافظ على لقبه في سباق الماراثون؛ أكثر من ذلك لم يخسر في 13 ماراثون خاضها إلا مرة واحدة في بوسطن العام 1963. لقد ظهر تفوق بيكيلا على الراضي باديا من عدة أوجه، فمن المفروض أن يحس الذي يركض بقدمين حافيتين بصعوبات جمة في الركض مقارنة بمن يجري بحذاء رياضي، لكن العكس هو الذي حدث مع بيكيلا، فقد كان يركض برشاقة كبيرة، في نهاية السباق، وفيما كانت قوى عبد السلام الراضي خارت في الكيلومتر الأخيرين، وكان يتقدم بصعوبة بالغة، انتقل بيكيلا إلى السرعة النهائية القصوى دون أن يبدي وهنا. وفي خط الوصول بدت علامات الإجهاد على الراضي، لكن بيكيلا ظل طبيعيا ولم يطلب شربة ماء، حتى إن مدربه أرغمه على احتساء زجاجة كوكا كولا لتعويض السوائل التي فقدها في السباق. ولا يسع أي محلل يتسم بحد أدنى من الموضوعية إلا أن يسجل بعد كل هذه السنوات أن عبد السلام الراضي أدى سباقا بطوليا رغم كل الإكراهات ولم يقصر في شيء، ولو لم يرتكب المسؤولون خطأ إقحامه في سباق في غير تخصصه على قرب تاريخ إجرائه من ميعاد السباق الكبير لسار تاريخ ماراثون روما مسارا آخر. ولكن نعود في الأخير ونقول ليس بالإمكان أبدع مما كان. من المجد إلى غياهب النسيان بعد رجوع البعثة المغربية إلى أرض الوطن، حظي عبد السلام الراضي باستقبال خاص من المغفور له الملك محمد الخامس. وعاد الرجل إلى فرنسا وبقي بها إلى أن تقاعد من سلك الجندية ثم عمل في بعض الأعمال في القطاع الخاص قبل أن يعود إلى المغرب حيث استقر بمدينة فاس. وبعد أولمبياد روما، شارك الراضي في عدة مسابقات للعدو الريفي حتى العام 1963، وظلت ميداليته الفضية يتيمة في الرصيد الأولمبي للمغرب لمدة 24 سنة، إلى أن تمكنت نوال المتوكل ومعها سعيد عويطة من إغنائها بميداليتين ذهبيتين في دورة لوس أنجلس 1984. في سنة 1985، وبعد مرور ربع قرن على إنجاز روما، سيحل الراضي ضيفا على برنامج "وثيقة" الذي كان يخرجه إدريس المريني في التلفزة المغربية، وسيسمع المغاربة قصته كما حكاها لمحاوره الصحفي المقتدر الحسين الحياني، لكن ما سمعناه حينها لم يكن إلا الجوانب المشرقة من سيرته، فما خفي أن الرجل عاش تقاعده الرياضي والمهني في شظف من العيش، فكان كل معاشه من الجيش الفرنسي في حدود 1300.00 درهم كل ثلاثة أشهر؛ وقد رق له قلب أحد عمال صاحب الجلالة على عمالة فاس فشغله "شاوش" بالعمالة، يتلقى أجره من الإنعاش الوطني بمبلغ 900.00 درهم شهريا. لقد استحال بطل العالم والبطل الأولمبي الكبير مستخدما صغيرا ينقل الملفات بين مكاتب ولاية فاس ويُعد المشارب، وصارت في حلقه غصة من جراء الجحود التي تعرض له وهو الذي فضل حمل قميص وطنه على القميص الفرنسي؛ ولعل ذلك ما دفعه إلى عرض ميداليته الأولمبية للبيع، ربما حاجة وربما احتجاجا.. يتذكر من عايشوا هذا الحدث كيف آلمهم هذا الخبر الذي نشرته إحدى الجرائد الوطنية. ويحكى أن إحدى الجمعيات الرياضية سارعت حينها إلى استعادة الميدالية من المشتري. في يوم 4 أكتوبر 2000، وإثر مضاعفات مرض القلب، سيتوقف ذلك القلب الكبير الذي طالما نبض بقوة في حلبات السباق وإلى الأبد. قد تكون مبادرات جلالة الملك محمد السادس الأخيرة تجاه أرملته خففت عن أسرته بعضا مما لحقها في حياته، لكن يظل أكبر تكريم يمكن أن يقدمه المغرب للرجل هو تخليد ذكراه بإطلاق اسمه على إحدى المنشآت الرياضية الكبرى بهذا البلد الذي منحه الراضي الشيء الكثير دون أن يظفر إلا بالقليل.