على الرغم من انتهاء الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1943 وانسحاب آخر جندي عام 1946 بعد أكثر من 20 عاما من الاحتلال، ترددت أثناء جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حي الأشرفية اللبناني، أمس الخميس، هتافات باللغة الفرنسية التي يجيدها اللبنانيون جيدا تقول: "تحيا فرنسا"، كما كانت هناك دعوات بعودة الانتداب الفرنسي، تأكيدا على عدم الرضا عن النظام الحالي. لقد عانى الشعب اللبناني كثيرا، وتغلب على الكثير من المآسي من قبل، ابتداء من المعارك الضارية بالوكالة إلى حرب أهلية كارثية دمرت وسط بيروت. وأظهر الشعب اللبناني قدرة فائقة على التحمل؛ لكن يبدو أن صبره نفد الآن، خاصة بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت يوم الثلاثاء الماضي. فقد كان ترحيب اللبنانيين بزيارة ماكرون لا يوصف، حيث وقف في وسط الجماهير في بيروت وتحدث إليهم؛ بل إنه أزاح أحد حراسه جانبا من أجل أن يعانق سيدة لبنانية رغبت في ذلك. لقد اعتبره اللبنانيون "منقذا لهم". لقد بادر بهذه الزيارة غير مبالٍ بالمخاطر، وأقلها إمكانية الإصابة بفيروس "كورونا" وسط جموع اللبنانيين الذين جاء إليهم للإعراب عن تضامنه وتضامن فرنسا معهم. لم يشهد اللبنانيون مسؤولا لبنانيا يقف وسطهم ويخاطبهم. وفي حقيقة الأمر، لا ولن يجرؤ أحد كائنا من كان من المسؤولين أن يفعل ذلك؛ فغضب الجماهير اللبنانية عاصف، ولا يمكن التكهن بعواقبه. فعلى سبيل المثال، عندما حاولت ماري كلود نجم، وزيرة العدل اللبنانية، تفقد مناطق منكوبة نتيجة الانفجار، قام محتجون غاضبون بمطالبتها بالاستقالة قائلين: "أليست عندك كرامة؟"، وأثناء مطاردة المحتجين لها حاولت الاختباء في أحد المباني المهدمة حتى وصل جنود الجيش لإنقاذها. واكتفى الرئيس اللبناني ميشال عون بتفقد المرفأ فقط. وتقول وكالة بلومبرج للأنباء إن مشاهد جولة ماكرون، التي نقلتها وسائل الإعلام مباشرة على الهواء في أنحاء العالم، من المتوقع أن تثير الجدل في فرنسا، حيث يتعرض ماكرون للانتقاد من حين إلى آخر لعدم استجابته لمطالب الفرنسيين، وبالكاد بدأت شعبيته تتعافى بعد احتجاجات نشطاء حركة السترات الصفراء. لقد كان ماكرون أثناء جولته يرتدي ربطة عنق سوداء، تعبيرا عن الحزن على ضحايا الانفجار المدمر الذي شهده مرفأ بيروت الرئيسي وأسفر عن مقتل من 135 شخصا على الأقل وإصابة الآلاف، وتشريد حوالى 300 ألف شخص. وتقدر الأضرار بنحو 5 مليارات دولار، وهو مبلغ لا تمتلكه لبنان الآن، حسب بلومبرج. وفي حديثه للصحافيين في نهاية زيارته دعا ماكرون إلى إجراء تحقيق دولي لتحديد أسباب الانفجار، الذي تردد أنه كان نتيجة لوجود شحنة كبيرة من نترات الأمونيوم في أحد مستودعات المرفأ. وقال ماكرون: "نحن في حاجة إلى تحقيق دولي شفاف وصريح، لضمان عدم إخفاء أي شيء أو بقاء أي شكوك". وحاول ماكرون إظهار تضامنه مع الشعب اللبناني دون الوقوف إلى جانب أي فئة سياسية. وعندما صاحت إحدى السيدات قائلة: "من فضلك لا تعطوا المال لحكومتنا الفاسدة"، اتجه ماكرون بنظره نحوها وقال: "لا تقلقي بالنسبة لهذا الأمر". ووعد الرئيس الفرنسي بأنه سوف يقوم بتنظيم المساعدات الدولية، بينما سيدفع أيضا نحو تحقيق تغيير سياسي وقال: "جئت هذا الصباح للمساعدة، وسوف أتحدث مع كل الفصائل السياسية لمطالبتهم بميثاق جديد". ورفض ماكرون استبعاد فرض عقوبات ضد الحكومة اللبنانية، على الرغم من أنه أكد أن هذا الأمر ليس أولوية في هذا الوقت. وقال إنه يتعين على البنوك اللبنانية أن تفصح عن خسائرها لصرف القروض الدولية الضرورية للحفاظ على الإمدادات الغذائية. من ناحية أخرى، ذكرت وكالة بلومبرغ أن زيارة الرئيس الفرنسي للبنان تظهر طموحه في أن يكون قائدا عالميا في منطقة حافظت فيها الولاياتالمتحدة وروسيا على ميزان القوة في السنوات الأخيرة، وتستعرض تركيا عضلاتها فيها. وقال جون الترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية الأمريكي، إنه في الظروف العادية كانت الولاياتالمتحدة ومن على شاكلتها من الحلفاء والشركاء سيأتون معا لمساعدة لبنان على الخروج من الهوة السحيقة التي وقع فيها، ويوجهون في الوقت نفسه ضربة ضد النفوذ الإيراني ومساعدة لبنان على ألا يصبح دولة فاشلة. ولا يوجد الآن دليل كاف على أن الولاياتالمتحدة لديها القدرة أو النية لتنظيم مثل هذا الجهد الآن؛ ولكن يبدو أنها تسمح لمختلف الخصوم بتعزيز مصالحهم في لبنان. ودعا الترمان إلى ضرورة أن تجري إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مناقشات عميقة مع فرنسا والمملكة المتحدة ودول الخليج العربية، كما يتعين أن تكون هناك مناقشات صعبة مع المسؤولين اللبنانيين. وهذه المناقشات والمفاوضات سوف تستغرق وقتا وتحتاج إلى مهارة، وتعاطف وتفهم. وقال مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية الأمريكي إنه على الرغم من أنه ليس من المؤكد أن تستطيع الأطراف الدولية استغلال الأزمة الراهنة التي يواجهها لبنان لتحقيق الإصلاحات التي يحتاجها لبنان، فإن الفرص أفضل لو قامت الولاياتالمتحدة بدور مركزي في هذه الجهود، إذ إن عواقب فشل لبنان يمكن أن تؤرق ترامب وتؤرق من سيخلفونه لسنوات مقبلة. *د.ب.أ