قال عدي الراضي، الباحث في التاريخ والتراث، إن "جبل العياشي كان حاضرا بقوة على مسرح الكثير من الأحداث التي عرفها المغرب، وساهم بشكل فعال في تكوين أهم مسارات تاريخ المغرب خلال جميع الحقب والعصور، ويظهر ذلك جليا من القرى التي تحتضنها سفوحه الشمالية والجنوبية باحتوائها لمآثر تاريخية ومعالم طبونيمية". وأضاف الراضي، في مقالة بعث بها إلى جريدة هسبريس الإلكترونية، يحاول عبرها الباحث إنارة زوايا مظلمة من تاريخ قرية منسية تدعى تاعرعارت، أن "قرية تاعرعارت خير شاهد على هذا الحضور المتميز والقوي، لوجودها في قلب الجبل وقربها من الفجاج والمسالك المؤدية إلى تافيلالت وقصور أوطاط وأعالي ملوية"، وتابع: "الفكرة العامة والمحورية التي ينبغي الانطلاق منها أن تاريخ جبل العياشي ومشاهده من وقائع وأحداث لا ينفصل عن القرية المعنية. وللبحث في تاريخ الجبل من الضروري البدء من تاعرعارت لأن قراءة تاريخ البلدة ليس مجرد ضرورة علمية منهجية تستوجبها المقاربة المونوغرافية المعتمدة في هذا البحث، وإنما اعتبارها جوهر الأحداث نظرا لوجودها في قلب الجبل". وأورد المقال أن "القرية تقع بين شعاب جبل العياشي بمنابع وادي ملوية على علو يناهز 2300 متر فوق سطح البحر، وتنتمي إداريا إلى جماعة "أكديم" قيادة تونفيت بإقليم ميدلت، وتنقسم إلى شطرين يفصل بينهما "وادي تيسار"؛ "أيت عياش"، القسم العتيق من القرية واستوطنته قبائل أيت عياش منذ زمن بعيد، والقسم الثاني يعرف ب"مندايور"على الضفة اليمنى للوادي سالف الذكر، واستوطنته قبائل أيت موسى وحدو أواخر القرن 19". ومضى الباحث قائلا: "توجد القرية المعنية بالبحث والدراسة بحدود مقسم الماء بين ملوية وزيز؛ وتفصلها بعض القمم فقط عن القرى والأصقاع الواقعة على السفوح الجنوبية لجبل العياشي بمنابع زيز؛ فما يميز هذه القرية كونها تحتل النقطة العالية من سفوح العياشي أسفل أعلى قمة "تدرارت" المعروفة ب"تكونت" دائمة البياض بفعل الثلوج التي تسقط عليها بكثافة". "بتأمل أسماء القصور بالأطلس الكبير الشرقي، مع القيام بدراسة تفكيكية، تحليلية وطوبونيمية لجذور التسمية، نستنبط أنها تختزل في محددات رئيسية تحكمها عوامل تاريخية وجغرافية وطبيعية وإثنية، إذ نجد جلّ التسميات تعود في أصلها إلى اسم قبيلة (أيت علي ويكو؛ أيت يعقوب)، أو مصدر مائي (تطيوين، بوتغبالوت)، أو نسبة إلى ضريح مشهور (زاوية سيدي حمزة؛ موش قلال)"، وفق المصدر عينه؛ ويذكر أيضا أن الأسماء قد تعود إلى "موقع القصر بالنسبة للشمس، حسب الشميس والظليل (تسامرت؛ تما لوت)، أو انطلاقا من موقعها بين الأودية (أموكر؛ تكرسيفت)، وإما وجودها في الخوانق والمضايق والفجاج الجبلية (توغاش؛تاغيا)، وأقدم نقطة عمرانية (قصر أقديم)، حيث يلاحظ أيضا أن بعض القصور تستمد اسمها من الغطاء النباتي السائد (تزارين)". ماذا تعني لفظة تاعرعارت؟ أي من المحددات اكتسبت القرية الاسم؟.. للإجابة عن ذلك، أوضح الراضي أن "كلمة تعرعارت هي تأنيث أمازيغي لأعرعار (توالت، ووال بالأمازيغية)، وإذا تمعنا في اللفظة نجدها متداولة بالاسمين الأمازيغي والعربي بالأطلس الكبير الشرقي، والعرعار شجرة متوسطية معمرة من فصيلة السرويات دائمة الاخضرار وذات الأوراق المستديمة"، واستطرد: "هي أنواع كثيرة منها العرعار ينتج حبات حمراء شبيهة بالنبق، وهو السائد بجبل العياشي، ومنها يصنع عصير "الرب" الشبيه بالعسل شديد المرارة، ويعتبر الدواء الفعال لعلاج عدة أمراض، خاصة الروماتيزم، حيث يشكل هذا النوع مأوى أساسيا لنوع من الطيور سوداء اللون بريش أبيض حول العنق والصدر (أبرطال بالأمازيغية)، تفرخ في الصحراء حيث النخيل، ومع بداية الخريف بعد جني التمر وخلو الأشجار من حباتها، تهاجر هذه الطيور نحو الأطلس الكبير الشرقي، خاصة إلى غابات العياشي بداية فصل الشتاء، موسم نضج الحبات الحمراء للعرعار". وأبرز الباحث أن "الصنف الآخر يثمر حبوبا صغيرة خضراء تسمى محليا بأعرعار، والنوع الثالث الموجود بالمنطقة يتميز بأوراق حادة وشوكية على شكل سيوف تسمي "تاقا"، ومنه يستخرج "القطران" "أودي ن الغمان"، المادة الأساسية المستعملة قديما لتنظيف القرب والأوعية المعدة لجلب وتخزين المياه (أيديد بالأمازيغية)، ويتم تحضيره بإشعال لهيب نار قوية على الأغصان الخضراء لهذه الشجرة في أفران خاصة تعرف محليا ب"تفيروت". كما يوظف القطران حاليا في الأواني الفخارية بهدف إعطاء مذاق جيد للماء". أما جبل العياشي فيؤكد الراضي أن تاريخه "يرتبط بالقرى الموجودة بين شعابه مثل تاعرعارت، الند، أفراسكو، ايت يعثوب، تازروفت، تاوراوت"، موضحا أن المصادر التاريخية تصف الجبل ب"الحصن المتين للكثير من القبائل، لاسيما آيت يدراسن بكل فصائلها وجروان وغيرهم، والأسطوغرافية التقليدية غنية بعبارات تؤيد هذا الاستنباط، وتاريخ هذه القصور يختزل تاريخ جبل العياشي". ومضى الباحث بالقول: "كان يسمى قديما إلى يومنا هذا "تدرارت" من طرف الساكنة المحلية للجبل، ويعرف عند الغير ب"عاري وعياش" بالأمازيغية، وجبل العياشي بالعربية؛ فبالعودة إلى الطوبونيمية فإن "أدرار" هي اللفظة الأمازيغية المرادفة للجبل بالعربية الفصحى، والدليل التسمية القديمة للجبل، لكن الفصائل الصنهاجية تطلق كلمة "عاري" على الشاهق من الجبال"، وزاد: "نرجح كون الجبل ينسب إلى قبيلة آيت عياش التي استوطنت سفوحه الجنوبية والشمالية منذ عهود غابرة، وليس إلى "تعياشت" كما ورد عند بعض الباحثين، ومع مرور الزمن غلبت التسمية الثانية على الأولى، خصوصا مع مجيء الاستعمار الفرنسي الذي وضع الخرائط الطبوغرافية للمغرب، فتم تغيير الكثير من المعالم الطوبونيمية وطمس الرموز الثقافية والهوياتية للساكنة، لهذا فإن تعريب جغرافية المغرب إساءة إلى تاريخ البلد"؛ ثم استدرك: "يعرف الأطلس الكبير قديما بجبل "درن"، أي الجبل الحي بالعربية، حيث كان رمزاً للحياة لما يزخر به من عيون لا تنضب وجداول مائية متدفقة بين شعابه وأنهار جارية، فهو فضاء المياه والخيرات والثروات لما يحتويه من فواكه وأشجار مثمرة ومعادن نفيسة، ويقصده السكان كلما اشتدت الأزمات الطبيعية من قحط ومسغبة؛ وبشرية من حروب وفتن، فهو الحصن المتين خلال فترات انعدام الأمن وسيادة الفوضى والقلاقل، إذ نجد تسميات السلاسل الجبلية الأخرى قد اختفت رغم أنها أعلام أصلية تحمل بين طياتها رموزا ثقافية ولسانية تشكل مفاتيح أساسية لحل ألغاز تاريخ "بلاد تيموزغا" المنسي". هكذا، فالأطلس المتوسط يعرف ب"فزاز"، ونجد أن "أفزا" و"تفزا" تعني الصخر شديد الصلابة، وفق الكاتب، ذلك أن الأطلس الصغير يعرف حاليا ب"الهقار" أو الهكار، وهو تحريف لفظي لكلمة "أهقار" (الغراب بالعربية)، مبرزا أنه "إلى يومنا هذا نجد أسرابا من الغربان تحتل الأجراف العالية والصخور الشاهقة للجبال المكونة من الصخور الكارستية". وبشأن تاريخ "تاعرعارت" من خلال الأعلام، لفت متحدثنا إلى أن "تاوريرت ن وعيرم تعني بالعربية كدية أو ربوة، تقع على الجهة اليمنى لوادي "تسيار"، وتشرف على "أغروض" القرية الجديدة بتعرعارت التي استقرت بها أسر غادرت منازلها القديمة بكل من "منديور" وأيت عياش، استجابة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية الطارئة على كل قرى الأطلس الكبير الشرقي". من هو أوعيرم؟ يجيب الباحث بأن "الرواية الشفوية تروي أن وعيرم كان قائدا لعبد المؤمن بن على الكومي"، وزاد أن المنطقة "تحتوي على بقايا عمران مندرس، إذ عثر من بين هذه الأطلال على عدة أجزاء من الأرحية الحجرية المستعملة قديما لطحن الحبوب وإعداد الدقيق، فهذه شواهد تاريخية تؤكد أن الربوة المعنية كانت حصنا قديما، بينما سمي الوادي الذي يشرف عليه "تيسار" نسبة إلى المطاحن المائية الموجودة بكثرة على ضفافه". وفي ما يخص "أقا ن تعرعارت"، شعبة "تاعرعارت"، فهي عبارة عن "مروج ومراع صيفية غنية بالعشب والكلأ، يبدأ الرعي فيها انطلاقا من شهر ماي إلى حدود منتصف شتنبر، حيث موسم الترحال نحو المراعي الأكثر دفئا، والذاكرة الجماعية بالقرية تحتفظ بروايات مهمة حول الماضي المجيد لهذه البقعة التي تحتضن في القرون الماضية عددا من الخيام، وتستقطب العشرات من التجار"أعطار" القاصدين لها محملين بالسلع الأكثر تداولا بين الساكنة". بينما "تداوت ن وودي"، أي تل السمن بالعربية، فأوضح الباحث أنها "المكان المخصص لتنصيب الخيام، وبوفرة العشب الجيد والماء تدر ضرع الأنعام وديانا من اللبن، في حين يجمع السمن في أواني فخارية وخزفية لأيام الشدة لمقاومة قساوة ومسغبة الشتاء؛ ولكثرة ما يجمع منه سمي المكان بالسمن تيمنا بالخيرات واعترافا بالجميل للمكان، حيث شكل معلمة تاريخية مفيدة للتأريخ للقرية لما تحتويه من معلومات وحقائق تاريخية بإمكانها تسليط أضواء كاشفة على غياهب الدجى المكتنف على المنطقة". أما سيدي أمحمد ن تعرعارت أو سيدي الشيخ أحد الأولياء المشهورين بالقرية والمبجلين من قبل الساكنة، فقال الراضي إنه "هاجر إلى القرية بعد معركة بطن الرومان، النقطة الحاسمة في تاريخ المغرب التي غيرت مسار تاريخ البلاد، حيث اندحار القوى الصنهاجية والقبائل المتحالفة حول السلطة الدلائية، وفي الوقت نفسه حسم السلطان الرشيد الأمر، فكان القضاء على الدلائيين المفتاح السحري الممهد لتوحيد المغرب بعد الصراع القوي بين قوى جهوية وإمارات محلية". وبخصوص "تاركا ن الشيخ"، فإن المقالة تورد أنها "معلمة تاريخية بقرية تاعرعارت، وهي ساقية لتحويل كمية مهمة من الماء من وادي تيسار نحو مزرعة الجهة الشرقية من شطر أيت عياش وتقريب المياه إلى الساكنة، حيث ارتبط اسم الساقية بالولي الصالح سيدي "محمد ن تعرعارت أو سيدي الشيخ"، وسميت باسمه إلى يومنا هذا، لأنه خطط بأسلوب هندسي رائع تحديد المجرى المائي للساقية في موضع يستحيل حسب طبوغرافية المجال ونسبة علو المكان أن تمر عبره المياه التي تتجه عادة نحو المنحدرات من السفوح والشعاب". أما "الحفير"، فيضيف الكاتب أنها "كلمة عربية تعني الخندق العميق، فهي وسيلة حربية لمنع العدو من الولوج إلى الحصون بحفر متاريس لإعاقة والإحالة دون وصول الفرسان إلى المعاقل المتينة، وهذه المعلمة الطوبونيمية الواقعة بغرب تاعرعارت في الطريق المستوية المؤدية إلى "ماسو" القرية المجاورة، تحمل دلالة تاريخية لأنها كانت الناحية الغربية للقرية الجهة الأكثر خطورة على الحصن منذ أقدم العصور، باعتبارها المنفذ الوحيد للخيل لوعورة المسالك بباقي الجهات، ما جعل الساكنة تعتمد حفيرا دائما لضمان الأمن والاستقرار بتعرعارت". وبشأن "مندايور"، فهي كلمة مركبة من كلمتين أمازيغيتين، لفظة "مندا أيور"؛ والأصل اللغوي فيها "منيد" ن وايور"، أي الربوة المقابلة للهلال، وهي ربوة على الضفة اليمنى لوادي "تيسار" هبوطا، كانت في القديم ربوة مستوية بالجهة الغربية يتم مراقبة الهلال من خلالها من طرف أعيان وعلماء وفقهاء القرية، ذلك أنه ابتداء من أواخر القرن 19 استقرت بها قبائل أيت موسى وحدو مع معاهدة الحماية "تكورت" الموقعة بين أهل القرية والقبيلة المجاورة بالسفح الجنوبي للعياشي، حسَب المقالة. وحول "أما زير" ن "وكرا"؛ أي حظيرة الجرواني بالعربية، فإن "زير" باللغة الأمازيغية يقصد بها الحظيرة المخصصة للأنعام من الغنم والماعز في سفح جبل مصنوعة من الأحجار وبعض أغصان الأشجار، وفوقها الخيمة وكوخ للحراسة ينام فيه الراعي وتحرسه كلاب مدربة لا تكف عن النباح طوال الليل كلما أحست بخطر محدق من البشر والحيوان"، تبعاً للكاتب. ومن ثمة، فقد كان "أماز ير" إحدى المراحل الحاسمة في النظام الرعوي لأنه ارتبط ببداية تدجين الحيوانات وانتقال البشرية حسب أنماط الإنتاج من المشاعة البدائية نحو الشكل الأول للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، بينما أكرا تعني الجرواني، وهذه المعلمة المكانية تؤكد الإشارات الواردة في بعض المصادر التاريخية كون قبيلة "جروان" استقرت بجبل العياشي ردحا من الزمن بعد معركة "زيان" المشهورة بعد هروبها من الإبادة الجماعية التي استهدفتها من طرف المخزن بعد الواقعة الحربية سالفة الذكر.