يقصد بالثورة الرقمية، الانتقال من الصناعات الميكانيكية الثقيلة إلى الصناعات الإلكترونية الدقيقة. من خلال توجيه الصناعات نحو الأجهزة الرقمية والإلكترونية، التي انتهت باختراع الحاسوب، باعتباره إنجازا تاريخيا غير مسبوق، مكن من تخزين المعلومات وتسهيل استرجاعها ومعالجتها، وأدى إلى وضع العالم أمام ثورة رقمية معلوماتية، حولت الأرض إلى قرية كونية بتعبير ماكلوهان (Mcluhan). هذه الثورة التقنية الحديثة، ونتيجة لاندماجها بالاتصال والإعلام، حولت المجتمعات إلى مجتمعات معرفة وإعلام وتواصل. مما يعد مؤشرا على ميلاد حضارة إنسانية جديدة كما يقول يحيى اليحياوي: "تكنولوجيا المعلومات تؤسس لانبعاث حضارة جديدة، مرتكزة على المعلومة والمعرفة، فالمجتمع الشبكي لا يبشر ببناء مجتمع بمميزات جديدة فقط، بل بعهد جديد واقتصاد جديد، وثقافة جديدة، وحضارة جديدة". وقد بدأت هذه الثورة الرقمية، خلال العقدين الأخيرين، في بسط نفوذها على كل مجالات الحياة، مما أدى إلى تفكيك الكثير من النظم وإعادة تشكيلها، وبشكل بشكل تدريجي وسلس. غير أن جائحة كورونا العالمية قد تسرع من هذا التغيير، وتضاعف من وتيرته، وتزيد في ترسيخه، لدرجة أن المجتمع الدولي قد يتجاوز قرية ماكلوهان إلى الأكواخ الافتراضية التي سبق وقال بها توفلر، خاصة أن هناك من يعتقد أن هذه الثورة قد تشكل بداية انقلابات كثيرة كما يرى بروس بمبر (B.Bumber) الذي يقول: "إن ثورة المعلومات انقلاب سريع، لقد أصبحت هي العالم الجديد، إنها ليست مجرد انقلاب تقني يقطع مع كل قديم، بل ثورة حقيقية ستكون مصدر انقلابات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية لم يسبق لها مثيل". في هذا البحث سنحاول تتبع بعض ملامح هذه الانقلابات، في محاولة لرصد تعاظم دور الثورة الرقمية في ظل هذا الوباء العالمي؟ وكيف يمكنها أن تمسي طوق نجاة في الشهور الأخيرة، لتصبح منقذة العالم بعد أن كانت موضع شك وخوف وتحذير، علما أن هناك من يرى أن الصين قد نجحت في احتواء الوباء بفضل استقلالها التقني والمعلوماتي، الذي أفادها كثيرا في تجميع البيانات حول المواطنين، وتحديد الأمكنة التي كانوا فيها، وبالتالي تصنيفهم إلى حاملين وغير حاملين للفيروس ومخالطين، حيث كانت توجه لكل فئة ما يلزم القيام للتحكم في الوباء والحد من انتشاره. من المجتمعات الواقعية إلى الافتراضية لقد فرض وباء كورونا على سكان العالم الخضوع لحظر صحي، وإقامة إجبارية في بيوتهم لشهور طويلة. كما ساهم في إخلاء مدن لم تكن تنام، وألغى لقاءات عالمية، ومناسبات ومواعد رياضية ودينية لم يحدث أن ألغي بعضها منذ انطلاقه. كما حال بين الأهل والأحباب، ومنع زيارات الأقارب، لدرجة أن الكثير من الناس لم يودعوا موتاهم، وحد من كل سبل اللقاءات الاجتماعية المعتادة، لنكتشف في الأخير أنه يمكن القول إن كورونا قد نجح مؤقتا في إلغاء المجتمعات الواقعية ولم يعد يسمح بقيامها. في ظل هذا الوضع، تمكنت الثورة الرقمية من سد الفراغ وتعويض المجتمعات الواقعية بمجتمعات افتراضية، مستفيدة مما تتيحه وسائلها من اتصال وإعلام وتواصل، وما توفره من إمكانيات كالسرعة والتفاعلية والصوت والصورة والفيديو، وهو ما نلمسه هذه الأيام من خلال تضاعف حجم الاتصال والتواصل، وارتفاع الإقبال على المتابعات الإعلامية وتزايدها. ما يؤكد ما ذهب إليه خبراء الإعلام، حين أكدوا أن الثورة الرقمية ستحول المجتمعات إلى مجتمعات قائمة على الاتصال، محولة مواطنيها إلى كائنات اتصالية وتواصلية. هذا التحول زاد من حدته ما يعيشه العالم اليوم، حيث لجأ المواطنون إلى خلق مجموعات افتراضية، وضاعفوا من اتصالهم بالآخرين سواء بشكل مباشر أو من خلال حوارات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو مشاركة محتويات رقمية وتبادلها، وذلك تعويضا لفقدانهم لمجتمعهم الواقعي الذي أرغمتهم كورونا عن التخلي عنه ولو مؤقتا. ما يميز هذه المجتمعات الافتراضية، أنها مجتمعات غير طبقية ولا تخضع لتصنيفات قبلية، فقط تربطها اهتمامات مشتركة. يصفها هاوارد رينغولد قائلا: "المجتمعات الافتراضية تجمعات اجتماعية تشكلت في أماكن متفرقة في أنحاء العالم، تربطها اهتمامات مشتركة ولا تربطها حدود جغرافية أو أواصر عرقية أو قبلية أو سياسية أو دينية". تعليم عن بعد كان اعتماد الدول المتقدمة على تكنولوجيا المعلومات في التعليم يتم بشكل محتشم، بسبب التردد والشك، أما في الدول النامية فكان ذلك منعدما للسبب نفسه، ناهيك عن معاناتها من الفجوة الرقمية، وما ينتج عنها من أمية جديدة كما يقول المهدي المنجرة، أو كما قال عبد الله العروي في محاضرته الأخيرة بالرباط. لكن وباء كورونا غير التوقعات وأرغم الجميع، ولو بدون استعداد، للانخراط في التعليم عن البعد، وهو ما نلمسه اليوم في المغرب، حيث عملت الثورة الرقمية على تعويض المدارس، ولو جزئيا، من خلال إيصال الدروس والملخصات والتمارين إلى التلاميذ حيثما كانوا، دون حاجة للقاء أساتذتهم. لقد كان مجرد تصور ذلك نوعا من الخيال، لكن مع هذا الوباء العالمي ومع قدرة الثورة الرقمية، فقد صار الأمر ممكنا. صحيح أن العملية يعتريها الكثير من النقص والفوضى واللاتكافؤ، لكن النظر إلى ما يتحقق يؤكد أن ذلك يشكل تحديا حقيقا في ظل الكثير من العراقيل، كالوضع الاجتماعي والاقتصادي للعديد من الأسر، والأمية الجديدة التي أشار إليها المنجرة والعروي كما قلنا سابقا. ليبقى الأهم هو البداية، وهو ما نرى أن على الدولة التفكير فيه مستقبلا، من خلال توفير تجهيزات تقنية، ووضع وتطوير محتويات رقمية، تعمل كمنصات ووسائل مساعدة للتعليم العمومي لاحقا. تعلم ذاتي وتوعية يومية لقد أكدت جائحة كورونا حاجة مواطني اليوم إلى الثورة الرقمية ووسائلها المتعددة، وخاصة وسائل الإعلام الجديدة قصد استغلالها في التعلم الذاتي، وتنمية المعارف والمهارات، وخلق وعي اجتماعي وصحي لمواجهة هذا الوباء. يظهر ذلك من خلال لجوء المواطنين لمواقع البحث ومحركاته، لإجراء أبحاث حول الوباء وطرق انتشاره وسبل الحد منها. كما تتجلى هذه الأهمية من خلال نشر هذه المواقع ومشاركتها وتوزيعها للوصلات الإشهارية التوعوية، ونجاحها في قيادة حملات وطنية مثل حملة "بقا في دارك". لقد تأكد للجميع قدرة هذه الوسائل التقنية الجديدة على تشكيل الرأي العام والتأثير عليه وتوجيهه، مما يؤدي إلى خلق إجماع وطني وتماسك اجتماعي، مبني على التواصل المستمر، وقائم على نشر المعلومة، وهو ما مثله مثلا هاشتاغ "لخبار تجي ليك حتى لدارك# صحفيون ضد الإشاعة #"، خاصة أن وفرة المعلومة وتيسير الحصول عليها يزيد من فرص الترابط الاجتماعي، كما يؤكد خبراء الإعلام الذين يرون أن تسهيل التواصل وتشجيعه بين أفراد المجتمع، يؤدي إلى خلق التماسك الاجتماعي وتقوية الروابط الاجتماعية، كونه يشجع على التعارف وينشر التسامح والتضامن. ففي دراسة قام بها واليسون وزملاؤه تبين أن وسائل التواصل الاجتماعي تعزز الرأسمال الاجتماعي، حيث تحافظ على العلاقات الاجتماعية القديمة وتمكن من ربط علاقات جديدة، كما أنه يساهم في تمكين الأفراد من الانخراط في جماعات وخلق ما يسميه باتريس فليشي بالعيش الجماعي المنفرد (vivre séparément ensemble) كنوع من رد الاعتبار للفردانية، بحيث يصبح كل فرد مركزا بذاته، منتجا للتعدد والاختلاف، الأمر الذي يعده دينيس ماكويل تدعيما لحاجة الفرد للانتماء إلى المجتمع. من الإعلام الورقي إلى الرقمي الإلكتروني يدرك كل المهتمين بالصحافة أنها تعيش تراجعا خطيرا، بسبب تراجع نسبة القراء وتراجع الإعلانات، مقابل انتشار الإعلام الجديد وتسجيله لمتابعات كبيرة، واستحواذه على سوق الإعلانات التجارية. وقد بدأت بوادر هذه النهاية تظهر في أوروبا وأمريكا، حيث اضطرت كبريات الصحف العالمية إلى التوقف، مكتفية بنسخها الإلكترونية. الوضع نفسه تعيشه الصحف المغربية التي تعيش رمقها الأخير، مستفيدة من إنعاش الدولة لها، في محاولة للإبقاء عليها. لكن مجيء محنة وباء كورونا دفع إلى الإجهاز عليها، صحيح أنه توقف مؤقت، لكنه يظهر بالملموس الحاجة إلى الشجاعة لإعلان وفاتها، خاصة أن اكتفاء هذه الجرائد بنسخ إلكترونية يغني عن طبعاتها الورقية، وربما يسجل متابعات إعلامية أفضل مما كانت تسجله سابقاتها. لقد كتب الصحفي عزيز كوكاس مؤخرا مقالا بمناسبة وباء كورونا، أكد فيه أن كورونا قد نجح أخيرا في إقامة جنازة للصحافة الورقية، هذه الجنازة تمثلت في قرار الدولة وفيدرالية الناشرين منع نشر وتوزيع الصحف الورقية والاكتفاء بالنسخ الإلكترونية. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فقد عمل وباء كورونا على جعل المواطنين أكثر تعلقا بتتبع الأخبار، وتصفحا للمواقع الإلكترونية التي نجحت في سحب القراء والإشهار من الصحف الورقية في الآن نفسه، بسبب قدرتها الفائقة على نقل الخبر بالثانية، مدعوما بالنص والصوت والصورة والفيديو، مع إمكانية منح المتلقي حق التفاعل مع الخبر بالتعليق عليه أو مشاركته أو نسخه وإعادة إنتاجه. لقد نرى أن كورونا قد ينجح فعلا في دفن الصحف الورقية ويرسخ قوة الإعلام الإلكتروني، الذي صار وسيلة أساسية للاتصال والتواصل، ومصدرا للمعلومة، تعتمده الدولة والمؤسسات قبل المواطنين والمواطنات. إدارة رقمية وحكامة إلكترونية أطلقت الدولة المغربية ومؤسساتها في العقد الأخير بوابات ومواقع رقمية، في محاولة منها للانتقال التدريجي والسلس نحو إدارة وحكامة رقميتين، حيث بدأ التفكير في استخراج الوثائق إلكترونيا، وتشجيع التعامل الرقمي في جميع الوزارات والمؤسسات وفي كل المجالات، لكن حلول هذا الوباء العالمي دفع إلى التسريع في تطبيق هذه المعاملات، بعد أن لجأت الكثير من الإدارات والمؤسسات إلى إطلاق مواقع رقمية ومنصات للتواصل وتلقي الطلبات والشكايات، واستخلاص الفواتير، والحصول على الوثائق أو تجديدها. هذا التحدي شمل كذلك اجتماعات الحكومات والشخصيات الكبرى وعقد اللقاءات، التي أصبحت تعقد عن بعد باستعمال وسائل التواصل الحديثة التي وفرتها الثورة الرقمية، مثلما حدث في اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي الذين يعقدون لقاءات عبر السكايب أو اللايف. لقد ساهم هذا الوباء في إعادة الاعتبار للحكامة الرقمية التي اعتبرت ملاذا أخيرا في ظل الحظر الصحي، كما ترسخت وبشكل قوي استراتيجية العمل عن بعد، حيث لجأ الكثير من الموظفين إلى القيام بمهامهم من بيوتهم. مبادلات وتسوق رقمي بالإضافة إلى هذه الأدوار، فإن الثورة الرقمية وفرت أمام المواطنين المحتجزين في بيوتهم سوقا افتراضية، تتيح لهم من خلالها التسوق، وطلب كل ما يحتاجونه دون أن يبرحوا منازلهم، ودون الحاجة إلى أوراق نقدية، ما يعد ترسيخا لدور هذه الثورة في الحياة اليومية للمواطنين. يقول فرانك كليش: ''لقد وجدنا أنفسنا أمام مصارف بلا صرافين ومتاجر بدون رفوف وكتالوجات بلا أوراق''. ويقصد كليش بذلك التجارة الرقمية التي أصبحت تتيح للمرء إمكانية التسوق انطلاقا من ضغط زر. لقد تغير شكل الاقتصاد بتغير السلع والمبادلات وأساليب التجارة والتحويلات المالية، إذ أصبحنا أمام تجارة إلكترونية يتحكم فيها مجتمع شبكي عوض الجغرافيا، فقديما كان هناك باعة ومشترون ومتاجر، أما اليوم فأصبحنا أمام رفوف الكترونية ومزودين ومستعملين. هذه التغييرات همت كذلك العملات التي بدأت تتحول نحو الإلكتروني. فإذا كانت الدول النامية، ومنها المغرب، لا تزال بعيدة عن كل هذا، فإن كورونا اليوم قد دفعها للتعجيل باعتمادها، بعد أن أرغم الكثير من الأفراد على التعامل بها. خاتمة إذا كان فيروس كورونا قد نجح في إيقاف حركة الكوكب الأزرق، مجمدا حركة الملاحة الجوية والبحرية والبرية، وأعاد مفاهيم كالقرصنة والسطو إلى أجندات السياسة الدولية، وأدخل الاقتصاد العالمي إلى غرف الإنعاش إلى جانب المصابين، وأعاد رسم الخرائط الجيواستراتيجية كما يرى خبراء السياسة، فإنه في المقابل قد يوسع امتدادات الثورة التكنولوجية الحديثة، ويرسخ مفهوم مجتمع المعرفة والمعلومات، مما يعد قطعا مع المجتمع الصناعي وتأكيدا لبلوغ حضارة إنسانية جديدة، أساسها الثورة التقنية المعلوماتية وديدنها الاتصال والتواصل. يقول بروس بمبر (B.Bumber) في كتاب بعنوان "الديمقراطية الأمريكية وثورة المعلومات": "إن ثورة التكنولوجيا والمعلومات أحدثت انقلابا سريعا وأنها أصبحت هي العالم الجديد، فهي ليست مجرد انقلاب تقني يقطع مع كل قديم مثلما فعلت المطبعة خلال ق 15، بل ثورة حقيقية ستكون مصدر انقلابات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية لم يسبق لها مثيل''.