قبل عقدين من الزمن، كان مصطلح "الإسلام الأوروبي" يُثير جدلا كبيرا في الأوساط الأكاديمية والعلمية؛ إذ لم يستسغ المسلمون الحديث عن أي تصنيف جغرافي أو سياسي للديانة الإسلامية، مبرّرين وجهة نظرهم بأن الإسلام واحد؛ بحيث لا يمكن "تبْيِئ" الدين ووضعه وفق مقاسات تُنتجها الظروف التاريخية، بينما يرى طرف ثانٍ أن الإسلام تفاعل مع ثقافات وعادات القارات التي انتشر فيها. وقد تضاعف الاهتمام بالموضوع بعد توالي الأحداث الإرهابية باسم الدين داخل وخارج "القارة العجوز"، لتبرز الحاجة إلى ضرورة مأسسة الدين؛ وهو مطلب لطالما نادى به الأكاديميون في الجامعات، داعين إلى طرح رؤى فكرية معاصرة لتحديث الخطاب الإسلامي في أوروبا تفاديا لأي تلاعب به من لدن التيارات الشعبوية والجماعات ذات النزعات المتطرفة. هذا هو المدخل الذي قدم من خلاله الدكتور محمد حصحاص، الباحث المغربي في جامعة "لويس" الدولية بروما، ورقته البحثية حول تيمة: "الإسلام في أوروبا والإسلام الأوروبي: دراسات وإشكالات"، التي يرصد عبرها مفهوم "الإسلام الأوروبي"، لافتا إلى أنه "نمط جديد من التفكير في الفكر الإسلامي المعاصر داخل الحيز الجغرافي والسياسي والثقافي للحداثة الأوروبية". المقالة المنشورة سلفاً، التي أعيد تحيينها من لدن الباحث في دجنبر الجاري، عبارة عن أجزاء تلخص أبحاثه الصادرة باللغة الإنجليزية حول الإسلام والإسلام الأوروبي، من بينها كتابه الشهير المعنون ب "فكرة الإسلام الأوروبي.. الدين، الأخلاق، السياسة والحداثة المسترسلة"، ومؤلفه الذي يحمل تسمية "الأئمة في أوروبا الغربية.. تطورات، تحولات وتحديات مؤسساتية". السياق التاريخي ل "الإسلام الأوروبي" انطلق الباحث في مركز "لابيرا" لدراسة تاريخ وعلوم الإسلام (باليرمو) في تناول الموضوع من وضع الإسلام الأوروبي في سياقه التاريخي، موردا أن الفكر الإسلامي عانى قصورا وانحطاطا لما يقرب من ستة قرون، لكنه ينفي أن يكون الفكر وحده سبب الانحطاط أو الازدهار، مشيرا إلى أن الظروف السياسية والاقتصادية ذات تأثير أكبر على ازدهار أو اضمحلال الأمم والشعوب. وتابع بالقول إن "الاختيارات السياسية والاقتصادية والسياسات الداخلية الفاسدة، والهيمنة الأجنبية والإقليمية لدول بعينها، هما من أكبر مسببات هذا النزيف الفكري العام، ويشاركهما بطبيعة الحال ركود وتقليد فكري للسلطة الدينية"، مؤكدا أن ثلاثة عوامل متكاملة تجثم على الفكر العربي الإسلامي؛ اثنان منهما داخليان (سياسي وفكري)، والثالث خارجي يتقاطع فيه السياسي والاقتصادي. "إن الحضارات تتلاقح وتبنى اعتمادا على ما سبقها وما يعاصرها، لكن قياداتها السياسية التي قد تتبنى أيديولوجيات/ فكرولوجيات معينة تحتاج إلى بناء صورة الأنا المتفوق، والمتحضر، والعقلاني، في مقابل الآخر الضعيف، والتابع، والهمجي، والرجعي"، يقول الكاتب. وأضاف حصحاص: "ليس لأوروبا آخر غير الآخر العربي والمسلم بالخصوص لاحتكاكهما منذ مجيئ الإسلام، ولتقاربهما الجغرافي الذي لا يسمح بغير هذا الاحتكاك السلبي أحيانا والإيجابي أحايين أخرى"، مشيرا إلى أن "الصورة في الشعور واللاشعور الأوروبي تجاه الإسلام والمسلمين عموما – أقول عموما – هي سلبية، أو قل إيجابية إلى أن يثبت العكس". وأرجع الباحث دوافع هذا التخوف الثقافي والديني إلى التاريخ الأوروبي الخاص مع الدين، موردا أنه "في كثير من الأحيان هو تاريخ دموي مع الدين، لأنه رمز للاستبداد السياسي والاقطاع الاقتصادي والقهر بالنسبة للنساء، لافتا إلى أن هذا "المعطى التاريخي والعلاقة مع الدين في أوروبا يتم إسقاطه في الحاضر على تاريخ الإسلام". وأوضح الكاتب المغربي أن "التاريخ العربي الإسلامي المعاصر أصبح مشابها للتاريخ الأوروبي المسيحي قبل الحداثي، رغم أن البدايات كانت مختلفة سياسيا وعقديا". التحدي الآن، بحسبه، هو "كيف يخاطب الأوروبي-المسلم نظيره الأوروبي-غير المسلم لتجاوز هذا الخلط وذاك التشابه في الوقت نفسه؟". ويرى الأكاديمي ذاته أنه بالرغم من كون "العوامل السياسية والاقتصادية والفكرية عموما تلعب دورا مهما في تأجيج التنافر الهوياتي في أوروبا، إلا أن العمل الديني يبقى حاسما ومهما إلى حد الآن، فقد لا يكون الأوروبي متدينا أو محافظا، لكن ثقافته ما تزال متشبّعة بالتراث الديني في شكله القديم الذي يرفض الآخر إن لم يكن ينتمي لدينه وثقافته". من الإسلام في أوروبا إلى الإسلام الأوروبي الجزء الثاني قدّم فيه الباحث موجزا لوجود المسلمين بأوروبا عبر التاريخ إلى الآن لفهم علاقات التوتر وجغرافيتها السياسية، قائلا: "ليس الإسلام بجديد على أرض أوروبا، ولكنه كذلك في العصر الحديث من نواح مختلفة، حيث يذكر المؤرخ الدانماركي يورغن نيلسن (Jorgen Nielsen) في كتابه "نحو إسلام أوروبي"، الصادر سنة 1999، أن المسلمين بأوروبا مروا بأربعة مراحل كبرى". المرحلة الأولى هي "مرحلة الفتوحات الإسلامية، ووجود المسلمين لمدة ثمانية قرون بالأندلس، وما يقل عن قرنين، مع بقاء التأثير في صقلية جنوبإيطاليا". أما المرحلة الثانية، ف "تتسم بحضور الإسلام في دول البلطيق وروسيا الاتحادية وجزيرة القرم وأوكرانيا عن طريق إسلام التتار"، بينما المرحلة الثالثة "ترجع لفترات الإمبراطورية العثمانية ووجودها بدول البلقان، وأثر ذلك إلى الآن في دول كألبانيا، والبوسنة والهرسك وهنغاريا". وتتجسد المرحلة الرابعة، يضيف الكاتب، في "المرحلة المعاصرة التي تلت الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما تبعهما من استقطاب لليد العاملة من بلاد العرب والمسلمين عموما، بالإضافة إلى الهجرة القسرية هروبًا من الحروب الأهلية والنزاعات السياسية أو الهجرة الاختيارية من أجل العمل في بيئة مناسبة أو الدراسة أو البحث عن حياة أفضل". "بعد الحرب بين العراق وإيران، والحرب الأهلية في الصومال، والحرب على أفغانستانوالعراق، وبعد الخراب العربي الموسع الذي تبع انتفاضات الربيع العربي، ازداد حجم الفارّين من الحروب في ليبيا واليمن، وبالخصوص في سوريا، باتجاه أوروبا"، وفق ما أوردته الورقة التحليلية. واعتبر حصحاص أنه "مع هذا التعدد التاريخي للوجود الإسلامي في أوروبا، مع ما يتبع ذلك من تعدد إثني، لغوي وثقافي، بين المسلمين، ليس سهلا الحديث عن إسلام أوروبي واحد. فكما أن أوروبا متعددة في لغاتها وثقافاتها وقوانينها الوطنية، فكذلك العالم العربي والإسلامي". وأشار المصدر عينه إلى أن "هذا التعدد الجديد في أوروبا يتعبها ثقافيا وقانونيا"، متسائلا: "كيف للدولة الوطنية الأوروبية أن تتعامل مثلا مع الأقلية المسلمة القادمة من المغرب، والعراق، والصومال، وتركيا، وباكستان؟ من يمثل الإسلام ومن يمثل المسلمين؟". ومع ظهور الحداثة الغربية ستختلف الأمور، يورد الباحث، مضيفا: "سيكتشف العالم الإسلامي تخلفه، وهو ما سينعكس سلبا ليس فقط على الأقليات، بل على الأكثريات، أو الأغلبيات، وخاصة الأغلبية العربية التي استعمرت، في حين إن الأغلبية العثمانية، أو التركية حاليا، أو الفارسية، الإيرانية حاليا، فإنها لم تستعمر، بل أضعفت فقط، وهذا الفارق يؤثر في سيكولوجية التركي والإيراني والعربي". دراسات الإسلام في أوروبا تحدث الباحث المغربي المقيم في روما عن مدارس دراسات الإسلام في أوروبا، وعلى رأسها "الدراسات الاستشراقية بكل أنواعها، من فيلولوجية إلى فلسفية-لاهوتية وأدبية، التي تتغذى بكتابات القرون الوسطى السلبية حول العالم الإسلامي في عمومها". أما الدراسة الثانية، فهي "الدراسات الأمنية في شعب العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالخصوص". وأورد الباحث أن "هذه الدراسات التي طغت منذ الثورة الإسلامية الإيرانية سنة 1979 لتصل أوجها مع أحداث 11 شتنبر 2001 بالولايات المتحدةالأمريكية، وصولا إلى آخر حدث سجل مرتين بباريس في شهر يناير ثم شهر نونبر 2015، تنظر إلى القادم من أصول عربية إسلامية نظرة الشك وغير المستأمن". ينضاف إلى ذلك، الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية، أو ما يطلق عليه الأكاديمي "دراسات علم الاجتماع وعلم الأناسة"، مبرزا أنها "انتشرت خاصة منذ تسعينات القرن الماضي، ومن حسناتها أنها تكسر الصورة النمطية التي تصور المسلمين والإسلام كهوية واحدة يمارسها الجميع بشكل واحد بدون تعدد التأويلات وأشكال التدين". ولم تُغفل الورقة الحديث عن الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في الجامعات الأنجلوساكسونية، وكذلك دراسات الأديان والأديان المقارنة في بعض الجامعات الأوروبية كألمانيا وهولندا والدول الاسكندنافية. ونقتبس منها ما يلي: "هذا الصنف الرابع من الدراسات استفاد من استقدام أو ولوج أكاديميين مسلمين أو من أصول إسلامية أثْروا النقاش حول الإسلام والمسلمين، بالانفتاح على التراث وتعدد تأويلاته في المسائل الفلسفية والقانونية الكبرى". دلالات الإسلام الأوروبي الجزء الرابع من الورقة البحثية سلط الباحث من خلاله الضوء على دلالات "الإسلام الأوروبي"، موردا أنه "من خلال هذه النماذج الأربعة أعلاه–وغيرها أشرنا إلى بعضها عبورا–يقدم (الإسلام الأوروبي) تلاقحا بين ثقافتين دينيتين وسياسيتين مختلفتين؛ يدفع هذا الإسلام الأوروبي بنظرية صدام الحضارات إلى الهاوية ويبني مكانه مفهوما يفتح آفاقا جديدة تقرب عالمين متباعدين، ليشكل بذلك نواة تعيد الاعتبار للفكر الإسلامي في زمن الحداثة". "الإسلام الأوروبي-وإن لم يطور بعد بالشكل اللازم لا نظريا ولا واقعيا من خلال سياسات منفتحة-يخدش تراثين غاضبين عن بعضهما، إن صح القول؛ فهو يجمع جوهر الفكر الديني الإسلامي من أخلاق وعدالة وروحانيات، وجوهر الحداثة الغربية من حرية فردية خلاقة ومساواة وعدل للسلطان السياسي؛ وهو يفعل ذلك دون أن يقطع صلته بالغيب ودون أن يقتل الإله كما قتله عصر الأنوار الأوروبية"، بتعبير الكاتب. بهذا المعنى، يرى الباحث أن "الإسلام الأوروبي كمفهوم يعيد للفكر الإسلامي عالميته وتعدده وجوهره، ويعيد للحداثة الغربية انفتاحها وروحها؛ وكنت قد سميت هذا الفهم والفاهم للدين في زمن الحداثة باسم بروميثيوس إسلامي (Muslim Prometheus)، ليقابل، بل ليتجاوز، أسطورة بروميثيوس الذي يسرق شعلة المعرفة من الله، فيعذب لذلك". وتابع الباحث مسترسلا: "فبروميثيوس المسلم، أي الشخصية الإسلامية المتخلقة أو الشخصانية الإسلامية إذا ما استعرنا مفهوم الفيلسوف محمد عزيز الحبابي، لا يحتاج لمعاداة الله ومقاتلته ونفيه من ذاكرته ووعيه لكي يكتشف حريته، لأن للفرد الحرية والمسؤولية، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، والمهم هو الإحساس بالمسؤولية من أجل الصالح العام في الأمور العامة ومن أجل الصالح الخاص في الأمور الخاصة، وما بينهما مؤسسات يتم التوافق عليها والائتمان عليها". أوربة الإسلام في الجزء الخامس، تحدث الدكتور محمد حصحاص عن أوربة الإسلام، قائلا إن "مفهوم الإسلام الأوروبي مشروع في بداياته، وهو لم يدرس بعد من هذه الناحية الفكرية التي حاولنا رصدها هنا، لأن صخب السياسة والأمن والإعلام قليلا ما يترك مجالا لقراءة ما يجري بأعين المستقبل". ويرى المتحدث أن مفهوم "الإسلام الأوروبي" يختلف عن مفهوم "الأورو-إسلام"، موردا أن "الأورو-إسلام يطلب من المسلمين الخضوع للنمط الأوروبي بدون نقد ونقاش، وهو بذلك يعبر عن غطرسة الحداثة الأوروبية المتصلبة التي ترى نموذج حياتها هي الأفضل، بينما الإسلام الأوروبي يتجاوز هذه الندية والغطرسة ليعطي للمسلمين مكانا للنقاش والمشاركة والمساهمة". "يعطي مفهوم الإسلام الأوروبي الثقة في الدين بشكل عام من جديد، وفي الدين الإسلامي بشكل خاص، وهو بذلك ينشط الذاكرة الأوروبية من جديد، يتحداها بداية ولكن ليس من أجل التحدي، بل من أجل رد الاعتبار للأقلية التي لا تحترم فقط لأنها متدينة أولا، ولأنها تدين بدين الإسلام ثانيا"، وفق الباحث. وأشار أيضا إلى أن "من أهم ما يعنيه الإسلام الأوروبي، وليس أورو-إسلام، هو قيام فكر ديني حداثي، يراجع التراث ويراجع الحداثة معا، كما يراجع الثنائيات الضدية التي لا يتجاوزها فقه الأقليات وأورو-إسلام، كما ذكرت سابقا وكما وضحه خالد حاجي في مقاله أيضا". واستطرد الدكتور حصحاص بأن "القول بأن الإسلام الأوروبي كمفهوم شيء مستحيل هو الأمر المستحيل، ذلك أن نفي فكرة أن يكون هناك إسلام أوروبي من الناحية النظرية والفكرية، الذي تبرزه المعطيات السوسيولوجية والأنثروبولوجية، يعني نفي ملكة الفكر عن المسلمين الذين ولدوا ودرسوا وعملوا ببلادهم الأوروبية". واعتبر أن "التخوف من أوربة الإسلام عند بعض المسلمين منبعه سياسي أيديولوجي بامتياز، على اعتبار أن الإسلام السياسي، المعتدل والعنيف، وإسلام السفارات بتعبير جوناثان لورانس، ليس في صالحهم جميعا أن ينشأ إسلام أوروبي فكرا وواقعا، لأن ذلك يفقدهما تابعيهم من المسلمين الذين بدونهم تنحصر أفكارهم وتأثيراتهم السياسية". وقل الباحث إن "الفكر الإسلامي الناشئ الذي عبرت عنه بمفهوم الإسلام الأوروبي ليس وليد اللحظة، وليس منقطع النظير، وليس فرعا بدون شجرة، بل شجرته تلك الأشكال المختلفة للتدين التي حملها المهاجرون من مختلف البلدان الإسلامية إلى أوروبا الغربية". وختم الأكاديمي حصحاص ورقته بالقول: "ما يزال الإسلام العربي قادرا على لعب دور المركز الروحي لعدد من أنماط التدين والأسلمة خارج حدوده الجغرافية، لكن بشرط أن يستوعب حركة التاريخ، وينفتح على ما يجري خارج عالمه الخاص، ليعيد فهمه للدين، وذلك بالاغتناء، بدل الاستغناء، عن تجارب العرب المسلمين خارج الديار العربية".