إصلاح التاريخ أولا: ليس هناك تاريخ مطلق خال من التعثرات والأخطاء، وليست هناك أمة متعالية عن التاريخ والمجال، أو مفصولة عن مكوناتها الاجتماعية والثقافية والهوياتية ومقوماتها الاقتصادي وخصائصها الحضارية، بكل تأكيد هذا ما ينسحب في اعتقادي على المغرب كدولة وكمجتمع، لأنه لم تكن العلاقة دائما مبنية على الثقة والاطمئنان المطلق، بل كانت هناك فترات حرجة ومراحل متوترة، اختلطت فيها الأوراق، وتداخلت الأسباب والمسببات، وتعددت الروايات مثلما حصل بالنسبة لأحداث مختلفة عبر محطات تاريخية متباينة في منطقة الريف، وتحديدا إقليمالحسيمة، وهي أحداث استغلت لتهميش المنطقة، وتطويقها بكل أشكال اللامبالاة والإهمال. ورغم تباين التفسيرات والقراءات والتباس الرؤى والمواقف حيال شتى المنعطفات المفصلية في تاريخ المنطقة وتاريخ المغرب المعاصر عموما، فإنه كان من المكن الشروع مبكرا في تضميد الجراح وتطهير الذاكرة التاريخية والوطنية والمحلية من لحظات سوداء ومشاهد مأساوية، كما كان بمقدور الدولة أن تتخلص من اللعنة الوهمية للريف المرتبطة بالتمرد على السلطة المركزية، ومن شبح عبد الكريم الخطابي الثائر الذي يزعج وإن كان رفاتا يرقد في مقبرة الشهداء بالقاهرة، والذي استخدم بشكل سلبي كسلاح لقمع الإنسان والمجال، علما أن الريف لم يشكل في يوم من الأيام حالة جغرافية شاذة، ولا أعلن تمردا بالمعنى الانفصالي للكلمة، ولا خطرت ببال أبنائه وبناته فكرة طعن الوحدة الوطنية من الخلف، رغم أن بعض الأحداث العابرة والمعزولة يمكن أن تؤول وتوضع في سياق مخالف لمفهوم ومبدأ استقرار النظام السياسي. حماية وبناء الثقة ضرورة حتمية: هذا المدخل أردت من خلاله إيصال فكرة أساسية، مفادها أن كثيرا من التعليلات والتفسيرات التي أعطيت لمختلف الأحداث التي عاشتها منطقة الريف والحسيمة تحديدا، ولمشروع وشخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي، تحكمت فيها دوافع وخلفيات وقراءات متباينة الأهداف والمقاصد. أما الآن وقد قرر المغرب الانخراط في عدد من الأوراش لترميم تاريخه وتنقيته من الطفيليات الضارة وعناصر التشويش، وتخليص ذاكرته من المناطق الرمادية وآثار الأحداث المؤلمة، فإنه ليس من حقنا نعود إلى الوراء، أو إشاعة بعض الصور النمطية التي تنطوي على جرعة عالية من الشك والاحتراز، وعدم الثقة في الإنسان الريفي. إن الريف هو جزء لا يتجزأ من المغرب، وهو مصدر إثراء تاريخي وجغرافي وثقافي واجتماعي واقتصادي لبلدنا. وذاكرة الريف، وإن مازالت تعاني من صور قاتمة ومرعبة نتيجة عوامل تاريخية وثقافية ومجالية، فإنها قادرة على طي صفحات عدم الثقة تجاه عدد من المؤسسات والفاعلين، وفي المقابل الاندماج في مصالحة عميقة وشاملة ومفصلية بأجندة محددة وجدولة زمنية واضحة، ومدعومة بمخطط تنموي استعجالي بأهداف وأولويات متفق عليها بين مختلف المتدخلين. ونظرا لدقة المرحلة وخصوصية تاريخ وجغرافية المنطقة، يستحسن أن تسهر على تنفيذ أهداف ومشاريع هذا المخطط، بما في ذلك مشروع الحسيمة منارة المتوسط، لجنة مشهود لها بالنزاهة والكفاءة والاستقامة، والبعد عن أي حسابات سياسوية، وتكون تابعة مباشرة إلى المؤسسة الملكية. وأعتقد أن الالتزام بهذا الاختيار الوطني والحضاري من طرف الدولة والحكومة وممثلي السكان والفاعلين السياسيين ومختلف الوسطاء والنشطاء هو المدخل الفعلي والجدي لبناء ثقة دائمة بين كل الأطراف، وهو الخطوة العملية والبراغماتية على طريق إرساء دعائم الدولة الديمقراطية والعقلانية والمواطنة، التي تتفاعل وتتواصل مع مواطنيها في شتى مناطق المغرب وتتعامل معهم بدون خلفيات. خيار الانفراج والإفراج: غير أن المفتاح الأساسي لأي مصالحة تنقذ ما بذل على امتداد عشرين سنة من حكم جلالة الملك محمد السادس لبناء الثقة مع منطقة الريف، والانتصار على جزء محتقن ومتشنج من تاريخ المنطقة، وتحصين المكتسبات النفسية والنفيسة التي تحققت، يمر عبر إصلاح شامل لتاريخ المنطقة، وعبر استئصال مختلف الأورام التي حالت دون حدوث تحول نوعي وملموس في العقل والمجال، وعبر اعتماد خيار الانفراج والإفراج، لأنهما يرتبطان ارتباطا عضويا، ومتلازمين ولا يمكن الفصل بينهما. فلا يمكن أن يتحقق الانفراج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي إلا بالإفراج عما تبقى من معتقلي الحركة الاحتجاجية بالريف، لتبديد مشاعر الإحباط والانقباض والاحتباس الاجتماعي والنفسي. تأسيسا على ذلك أدعو جميع الأطراف والمؤسسات إلى بذل كل المساعي والجهود لتجنيب البلاد مزيدا من الجراح والأزمات. بدون شك هناك أزمة ثقة في المؤسسات، ملامحها متفشية بصورة واضحة، في ما يتداوله رواد شبكات التواصل الاجتماعي، في مختلف المدن والمناطق المغربية. من موقعي ككاتب وكإعلامي واكب مراحل دقيقة وحاسمة من تاريخ المغرب المعاصر، وكان شاهدا على عدد من الأحداث والمحطات، بما فيها تغطية الزيارة الأولى التي قام بها جلالة الملك محمد السادس إلى الحسيمة ومناطق أخرى بالريف عام 1999، أتفهم هيبة الدولة ورموزها وأتفهم دلالة الخطوط الحمراء. لكن عقل الدولة المواطنة والعقلانية عادة ما يكون مرنا وبراغماتيا وإستراتيجيا، لذلك لا يجب أن يصرف رجال الدولة النظر عن احتجاجات عدواها تتسع من يوم لآخر "قطاعية ومناطقية"، وقد يصعب احتواؤها والسيطرة على تداعياتها النفسية أولا. هل استعمال القوة هو الحل؟ هل إنتاج المآسي والجراح والعودة إلى سنوات الرصاص والترهيب هو البديل؟ إن الذين يملكون حاسة التقاط حادة لا يمكن إلا أن يدبروا المرحلة بما تقتضيه من حكمة ورزانة ونباهة ووطنية صادقة، وكل المغاربة بمن في ذلك عائلات ما تبقى من معتقلي حراك الريف، يرغبون في إيجاد مخرج يضمد الجراح ويعيد الثقة والطمأنينة للمنطقة والبلاد كافة. وعلى العقلاء والحكماء في شتى مرافق الدولة ألا يفهموا التفاعل الإيجابي مع منطقة لها خصوصية تاريخية بأنه تنازل ومساس بهيبة الدولة. مرة أخرى أخاطب في كل المسؤولين العقل والعاطفة والذاكرة، خاصة ونحن في سياق وطني يستلزم الوحدة والتماسك والقدرة على التجاوز وثقافة التسامح، لأقول لهم إن المغرب في الوقت الراهن في حاجة إلى أجواء الانفراج والإفراج، علما أنني من موقعي كإعلامي وككاتب سعيت دائما إلى الخير والمصلحة العامة في هذا الوطن، ودافعت عن الأمن والاستقرار، وليست لدي أي أطماع أو مصالح أو حسابات مع أي كان، والمغاربة يعرفون جيدا مواقفي وأفكاري وقناعاتي وسيرتي والقيم التي أدافع عنها. ضرورة التأهيل الشامل لمختلف المكونات الترابية لإقليمالحسيمة: كان من المكن تحويل مأساة المواطن محسن فكري إلى طاقة خلاقة لإطلاق دينامية تنموية ومدنية مواطنة وتكريس قيم التضامن والوحدة في إطار مغرب يتسع للجميع، بعيدا عن أي توظيفات من شأنها أن تفضي إلى انزلا قات نحن في غنى عنها. بدون شك مأساة الراحل محسن فكري شكلت في العمق مظهرا من المظاهر التي كان تختزل أوضاعا اجتماعية واقتصادية صعبة تطوق مدينة الحسيمةوإقليمها، كما مثلت الشرارة التي أشعلت غضبا تراكم عبر عقود، وهذا ما يطرح الضرورة الملحة لاعتماد المخطط الاستعجالي للتأهيل الشامل الذي أشرت إليه سلفا، خاصة في قطاعات الصحة والتعليم والشغل والبنيات التحتية، بما في ذلك الانكباب على معالجة الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها قطاع الصيد البحري بالمنطقة، والذي يشكل العمود الفقري لاقتصاد الإقليم، ومطلوب من الدولة والجهاز التنفيذي وممثلي السكان في المؤسسات المنتخبة التصدي بكل جدية ومسؤولية للإشكالات الحقيقية التي تواجه إقليمالحسيمة، وعدم اختصار وقصر المشاريع التنموية على بلدية الحسيمةالمدينة، بل لا بد من الأخذ بعين الاعتبار بكل المكونات الترابية للإقليم بدون استثناء، لضمان إيقاع تنموي متوازن، ولتعميم الاستفادة من المشاريع التنموية التي تم الالتزام بتنفيذ عدد منها، والتي تم الإعلان عنها في وقت سابق؛ وذلك حتى يلمس السكان انعكاساتها الإيجابية على حياتهم، وخاصة الشباب. كما يتعين على من يهمهم الأمر رد الاعتبار للقطاع السياحي، مع تبني إستراتيجية محددة الأهداف ومضبوطة الإمكانيات، لتفادي الارتجال والتصورات غير الواضحة، كما حدث مع مشروع كلايريس الذي لم ير النور رغم أكثر من عقد من الزمن، فكان المتضرر رقم واحد هم السكان الذين لم يروا شيئا ملموسا، اللهم تفكيك المخيم الصيفي الذي كانوا يسدون به بعض حاجياتهم. ورغم التقدم المهم الذي تحقق في إصلاح الطريق الرابطة بين ترجيست وكلايريس، فإن بلورة مشاريع قادرة على التشغيل تعد مسألة مركزية وحيوية. كما يجب أن يحظى الإقليم بعدد من المشاريع التي تضمن حركة سياحية على مدار السنة؛ إضافة إلى تمكينه من شبكة طرقية حديثة وقوية لإخراجه من العزلة وتقوية النقل الجوي الذي يجب أن يربط الإقليم بعدد من الوجهات والجهات، والعمل على ضمان النقل البحري على مدار السنة بين ميناء الحسيمة وعدد من الموانئ المتوسطية، وضرورة تنشيط المنطقة الصناعية، مع توفير عروض تحفيزية واعتماد سياسية ضريبة خاصة بالإقليم لتشجيع المستثمرين على إنجاز مشاريع من شأنها أن تساهم في امتصاص البطالة. كما أن إحداث عمالة في ترجيست ينبغي أن تأخذه الحكومة على محمل الجد، فقد أصبحت الآن مطلبا حيويا لعدد من الجماعات والدوائر، لأسباب اجتماعية وإنسانية، ولتقريب الخدمات من المواطنين، وإعادة الاعتبار لهذه الجماعات التي ظلت عرضة لتهميش مضاعف. ورغم الخصاص الذي مازالت تشكو منه عده قطاعات، فإن ساكنة المنطقة تسجل بكل افتخار، ما عرفه إقليمالحسيمة، منذ السنوات الأولى لحكم جلالة الملك محمد السادس من مشاريع مهيكلة، في مختلف المجالات، وتأهيلا شاملا استفادت منه مختلف المكونات الترابية للإقليم، ومس القطاعات الأساسية كالتعليم والصحة والنقل والسياحة والفلاحة والصيد البحري والبنيات التحتية. كما أن المشاريع المبرمجة، ضمن مخطط "الحسيمة منارة المتوسط"، تعتبر بدون شك استمرارا لهذه الدينامية التأهيلية والتنموية، التي تم إطلاقها في الإقليم لتحقيق تطلعات الساكنة إلى حياة كريمة مستقرة وآمنة. غير أن المشاريع المعلنة والمبرمجة، رغم أن غالبيتها عرف طريقه نحو الإنجاز، لم تصل بعد إلى مرحلة الجهوزية الكاملة لتنعكس بشكل ملموس على الحياة اليومية للسكان، خاصة في خلق فرص الشغل، ما تولد عنه ارتباك وتوتر، بسبب تداعيات الاحتجاجات الاجتماعية التي امتدت لشهور، وما أعقبها من أجواء احتقان مقلقة ويأس وانسداد للآفاق، تجعل المنطقة في أمس الحاجة إلى التفاتة ملكية، لتحويل ما عرفه الإقليم من مظاهر احتقان مقلقة للجميع ساكنة ومؤسسات إلى فصل جديد من توطيد وتعزيز الثقة والوفاء..فصل ينضاف إلى مسلسل المصالحات التاريخية، التي طبعت حكم جلالة الملك محمد السادس، وضمدت جراحا، وسكّنت آلاما عانت منها أجيال كثيرة على امتداد الترابي الوطني. علما أن جلالة الملك، وبالصراحة والصدق اللذين يسمان سياسته، ويطبعان الجيل الجديد من خطبه، سبق أن قال انطلاقا من الحسيمة: "إنه رغم ما بذلته الدولة، للنهوض بهذه المنطقة، فإنه يتعين مضاعفة الجهود، لفك العزلة عنها، والاستثمار الأمثل لما تزخر به من مؤهلات". في الحاجة إلى التفاتة ملكية لطي ملف معتقلي الحسيمة: إن جلالة الملك، باعتباره الساهر على ضمان احترام تطبيق الدستور، وحسن سير المؤسسات، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، والساهر أيضا على ترتيب الأولويات الوطنية، وتحديد الأهداف الإستراتيجية للدولة، يدرك جيدا أن إقليمالحسيمة، بكل مكوناته الترابية، شكل ومازال قلعة حصينة للتفاعل الخلاق والنادر بين مؤسسة ملكية مواطنة، تشكل العمود الفقري لاستقرار وقوة المغرب وتطوره الديمقراطي، وبين ساكنة موحدة ومتمسكة بالثوابت، ومتشبعة بروح الانتماء الوطني البناء، ومفتخرة بمغربيتها وبمغربها الذي قدمت من أجله تضحيات جسام على مر التاريخ. إن الفترات المتقطعة من الاحتقان، والصدامات والصراعات التي ميزت التاريخ السياسي للمغرب، على امتداد عقود، لم تجدِ نفعا، وهذا ما دفع جلالة الملك إلى صياغة المفهوم الجديد للسلطة، الذي تبناه منذ اللحظات الأولى لحكمه. ينضاف إلى هذا انخراط المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس في مجموعة من الأوراش والمشاريع الإصلاحية، بعضها اتسم بطابع الثورية، كتجربة العدالة الانتقالية، التي برهن من خلالها جلالة الملك عن حس إنساني عميق، وعن جرأة سياسية وأخلاقية أصيلة، وغير مسبوقة في العالمين العربي والإسلامي. إن ما حدث في الحسيمة لا يجب أن يتحول إلى ألم دائم وجرح مفتوح وعقدة بنيوية تستغل في اتجاهات مختلفة، لأن كل المؤشرات تؤكد أن ساكنة المنطقة تتجه بكل إيمان وإصرار إلى مستقبل إيجابي واعد بالنماء والبناء والعطاء والوئام والتماسك والانسجام، ونفس الساكنة، وخاصة عائلات المعتقلين، التي أدرك جيدا معاناتها وآلامها، تتوجه في هذه الظرفية إلى جلالة الملك بنداء كله ثقة ووفاء باعتباره في موقع الأب لكل المغاربة. وأخذا بعين الاعتبار الظروف التي أفرزتها موجة الاحتجاجات التي عرفها الإقليم، وانعكاساتها على الدينامية التنموية، وإنتاجها سلسة من المعاناة لعدد من العائلات، وتكريسا لخيار مصالحة وتصالح المنطقة مع تاريخها وذاكرتها، وترسيخا لأجواء الثقة الشاملة والأمن والاستقرار، تتطلع ساكنة الإقليم، وفي مقدمتها أسر ما تبقى من المعتقلين وفئات عريضة من المجتمع المغربي والفاعلين على اختلاف مرجعياتهم ومجالات أنشطتهم ومستويات تدخلهم، إلى التفاتة من طرف جلالة الملك محمد السادس المتشبع بالقيم الإنسانية والمؤمن بالتسامح والصفح الجميل، لطي هذا الملف وتحويله على جزء من الماضي، خاصة في هذه المرحلة التي تدعونا جميعا إلى التجند والتعبئة الشاملة، لمواجهة مختلف التحديات التنموية ووضع بلادنا على سكة التقدم والتطور المتواصلين، وتحصين الاختيار الديمقراطي الذي لا رجعة فيه، وحماية المكتسبات التي تحققت على امتداد عقدين من حكم جلالة الملك، وتسويق المغرب كنموذج للاستقرار والاعتدال والتسامح والحرية والانفتاح والحوار. إن إقليمالحسيمة، الذي اعتاد جلالة الملك على قضاء جزء من عطلته الصيفية في ربوعه، تنتظره ساكنته دائما بنفس المشاعر، وبنفس منسوب الفرح والغبطة والامتنان؛ فكلما حل بها تعبر هذه الساكنة بعفويتها الخاصة، كما عودته منذ جلوسه على العرش، عن حرارة استقبالها وتمسكها بشخصه، ووفائها له وللمؤسسة الملكية والثوابت الوطنية الجامعة والموحدة. *صحافي وكاتب