ولأن الأفهام البشرية تختلف بين هذا و ذاك، ولأن التأويل هو اللغة الغالبة لقراءة أي نص أو موقف، فقد وجب التوضيح و وضع النقاط فوق وتحت الحروف، وذلك لسؤال مباشر تارة، وتارات أخرى مبطن وهو : لماذا تكره السيد عبد الإله بن كيران و حزب العدالة و التنمية؟ و الحال أنني صدمت ! لأنني كنت و ما زلت أعتقد أنه لا يوجد حب و كراهية في السياسة بقدر ما أن هناك نقد أو تأييد، و أنا الذي كنت أخال أن هناك مساحة واسعة بين النقد و بين الكراهية، و بين العقل و العاطفة! و لكن من الواضح أن فصل العاطفة عن السياسة ما يزال حلما بعيد المآل عند عدد معتبر منا!و هي بخلاصة إشكالية العاطفة السياسية و التسييس بالعاطفة و ليس بالعقل، علما أن السياسية هي تدبير للشأن العام بشكل عقلي و منظم، أما إذا دخلت العاطفة فهنا يفتح الباب على مصراعيه للديماغوجية و الشعبوية و اختلاط الحابل بالنابل، و ثقافة لا أتفق معه و لكن أخاف أن أغضبه، و ثقافة جبر الخواطر و المشاعر، و عليه فلا غرو إذا لم يميز الواحد في هذا الجو المشحون عاطفيا بين النقد و الكراهية! بين الزمن الثوري والزمن الراكد و للتوضيح فقط، فإني لا أعلم الغيب حتى أحكم على تجربة السيد بن كيران و حزبه بالفشل الذريع، بل و لا أدعو له بذلك على الرغم من اختلافي السياسي معهم 180 درجة، لعدد من الأسباب : أولا: أنه لا يوجد رأي مطلق مقدس في السياسة، و الذي قد يؤدي بصاحبه إلى التكفير السياسي. ثانيا: أن ما يهم هو المصلحة العامة. ثالثا: لسنا من الذين يشمتون في مصائب و خسارة الآخرين و لو كان بيننا ما طرق الحداد. ولكن في المقابل و حسب تقديري لمجريات الأمور و معرفتي بالثقافة المخزنية المحنطة غير القابلة للتطور، فإنني أعتبر أنه لو حدث و وصل الحزب لرئاسة الحكومة قبل 20 فبراير 2011 و قبل الربيع العربي لكان من الممكن أن تقل سهام نقدنا، لأن الزمن حينئذ كان زمن الركود و الروتين، حيث لم يكن يسمح فيه بمجال واسع للحركة و التغيير السياسي عموما، و لم نكن نتوقع أكثر من ثقافة الترقاع و "سَلَّكْ بالوَاجِد"!و لكننا الآن نعيش الزمن الثوري بكل المقاييس، زمن طي المساحات و المسافات الزمنية و السياسية والدستورية طيا، وهو ما يفرض أن تكون طموحاتنا في مستوى اللحظة، لا تأسيسا على لحظة سابقة حكمتها حيثيات و ظروف خاصة و استغوال للمخزن. فإذا كان الإصلاح الدستوري مطلبا منذ الزمن العادي فمن باب أولى أن يصبح مطلب جمعية تأسيسية غير معينة أو جمعية منبثقة عن حوار وطني موسع يضم الجميع من دون إقصاء و لا استثناء مطلبا معقولا يناسب المرحلة، لأن قوة المخزن الحقيقية أنه يريد أن يتحكم في اللحظة و الزمن عموما، و منها فهو يجعل من مطالب الشعب الثورية السلمية التي خرج و ثار من أجلها مطالب عادية و كأنه يعيش الزمن العادي و هذا ليس صحيح. و إلا لو لم تكن هناك لحظة 20 فبراير لما تغير الدستور و لما وصل السيد بن كيران نفسه و حزبه إلى رئاسة الحكومة، و هذا جميل لا يجب أن ينساه الحزب و محبوه مهما بلغ حجم الشنآن بينهم و 20 فبراير تحديدا. معضلتنا السياسية أن المخزن هو من يحتكر تشكيل الأبجديات السياسية في عمومياتها. لذلك تجدنا في عمومنا نفكر بعقلية الدراويش و الطيبوبة السياسية و عقلية الريع السياسي لا الحق السياسي؟ و أكاد أقول أننا نفكر بعقلية "اللي مَا ارْضَى بْخُبْزَة ايَرْضَى بْنَِصْهَا" و في المقابل المخزن يستحوذ على الفرن و يترك لنا حق التهافت على الخُبْزَة و نَصْهَا و ارْبَعْهَا و "الكُرْصَة " و اشْدُوقَ و كأننا في عام "البُونْ" ! هذا كان هذا قبل الزمن العادي الراكد، أما الآن فطموحنا هو أن نقتسم "الفران" قسمة مواطنة ديمقراطية، و نترك الخُبْزَة البَايْتَة و َنصْهَا للفِيرَانْ؟ وأزمتنا أننا أصبحنا نعيش تحت سقف واحد و لكن في زمنين مختلفين، 20 فبراير تعيش الزمن الثوري و مصرة على أنه لا يمكن تضييع الفرصة التاريخية وطنيا و إقليميا و دوليا، بينما طرف أو أطراف أخرى تعيش الزمن العادي زمن الخُبْزَة و نَصْهَا! .لذا فلا مشاحة أن يروا وصول حزب العدالة و التنمية و تعيين بن كيران قفزة نوعية و خطوة معتبرة و غيرها من الأحلام أو التطلعات التي نراها مسكنات لا تليق بالمرحلة. أزمة العاطفة في السياسة و إن اختلافنا السياسي إذا ترجم بالمنطق العاطفي فسيقرأ على أنه كراهية عداوة، و هذا غير صحيح. و إلا فأنا شخصيا لا أعادي السيد بنكيران و لا إخوته لأنه رجل يقول ربي الله، أو متوضئ، بل العكس، هذا شيء يفرحنا لأن الأصل في المغربي أنه مسلم متوضئ فخور بدينه و هويته يعمل لدنياه من دون أن ينسى أُخراه، لأن الرقيب الحقيقي هو الله تعالى و ليست مجرد قوانين و نصوص على الورق. و حتى غير المتوضئين و الله يجعل عَمْرُو ما تَنَفَخْ بِالْمَا و لا اسْجَدْ لله سَجْدَة كَاعْ ! المهم أن لا يكون من المفسدين! لأنني أعتبر أن العمل السياسي عملا محكوما بقواعد عقلية و ليس بأحاسيس عاطفية. بل حتى العمل الإسلامي السياسي نفسه ينطلق من العقل لا من العاطفة، و لعل إخوتنا يتذكرون قصة قاتل أخ أمير المؤمنين زيد بن الخطاب حينما جاء مسلما فأعرض عنه سيدنا عمر رضي الله عنه فقال ابن مريم-أظن اسمه ابن مريم- هل بغضك لي يمنعني عطائي؟ فقال سيدنا عمر لا، فأجاب ابن مريم إنما الحب للنساء. أي طالما بغضك أو حبك لا و لن يغير من حقوقي و عطائي فليس إذن ذو قيمة و لندعه للنساء اللواتي تغلب عليهن العاطفة أكثر من العقل، في حكمة إلهية تكاملية مع أخيها الرجل من دون أن يُنتَقَص منها شيء. و على ذكر العاطفة السياسية و إشكالية التفكير السياسي العاطفي، فقد ذهلت صراحة عندما علمت أن أشهر صاحب صيحة في الزمن الثوري العربي، المحامي التونسي ناصر :صاحب بن علي اهرب! قد خسر في الانتخابات التونسية الأخيرة ؟و هذا لعمري قمة في النضج السياسي عند المواطن التونسي الذي غلَّب العقل على العاطفة، فبن علي اهرب هي العاطفة، بينما ناصر المرشح و كفاءته شيء آخر له علاقة مباشر بالعقل ما يعني أن المواطن التونسي في غالبيته مارس السياسة بالعقل لا بالعاطفة. و هي أزمتنا هنا حين لا نميز بين النقد و بين الكراهية! و وآسفاه ثم وافرحتاه للمخزن الذي يكره أن يفكر المواطن بعقله لا بقلبه و مشاعره. و سأضرب مثلا واحدا و حيا فقط على إشكالية التفكير السياسي العاطفي، فمثلا الإسلاميون الذين حصدوا قرابة مليون صوت انتخابي و نيف و في مقابل ذلك لم يستطيعوا أن تكون له صحيفة يومية تترجم هذا الحضور على مستوى الشارع تطبع 100 ألف عدد يومي أو حتى أقل من ذلك علما أن المساء و الصباح كانتا تطبعان يوميا زهاء 130 ألف نسخة لكل جريدة!و بالكاد جريدة التجديد تطبع 8 ألاف نسخة و لا تكاد تتعدى 12 صفحة مضطرة إلى أن تجمع أعداد الجمعة و السبت و الأحد في عدد واحد؟ و التي أصبحت اليوم في مثابة لسان الحزب غير المباشر، بعد أن فشلت تجارب الحزب الإعلامية و انطفأ المصباح الإعلامي غير ما مرة؟ و هو ما يدل على أن فعل إنشاء جريدة يومية للتواصل له علاقة بالعقل و الفكر، بينما حشد الناس و المصوتين هو مجرد لحظة عاطفية سرعان ما تمر و تنهي، و جزاكم الله خيرا على التصويت لنا و الله يرحم الوالدين! حق "مشروع" في وقت غير مشروع إنه من حق حزب العدالة الذي حرم من الفوز و رئاسة الوزراء في الانتخابات السابقة أن يفرح بوصوله إلى منصب الرئاسة، بل و أضيف أنه كان فوزا انتخابيا عن جدارة، و أنها أحزنت حفنة الاستئصاليين المتنفذين كثيرا لأنهم اكتشفوا أن المغاربة سيصوتون لأية جهة تتبنى المشروع الإسلامي و على علاتها! و لكنه من حقنا أيضا أن لا نحرم لحظة التأسيس لتغيير جذري و حقيقي، فالمشكلة أنهم وصلوا في وقت كان فيه الشارع المغربي قد انقسم إلى ثلاث فئات كبيرة: فئة المقاطعين و الذين عدد معتبر منهم من مؤيدي أطروحة 20 فبراير و جزء منهم مقاطع دُورِجِينْ، و طرف ثان ما يزال يؤمن بثقافة الخُبْزَة و نَصْهَا! و تبقى الفئة الغائبة الصامتة هي تلك التي ما تزال تنتظر؟ والحال أننا في مشهد يشبه العمارة الشاهقة المكونة من 95 طابقا يجب النزول منها بأقصى سرعة لأنها آيلة للسقوط، و المشكلة أنه يوجد نوعان من السكان: النوع الأول ساكنته تؤمن بالنزول السريع عبر المصعد الكهربائي بأقصى سرعة، بينما يرى البعض أنه لا داعي للسرعة لأنه يمكن أن ننزل من العمارة عبر السلالم –الدروج-و هنا مكمن الاختلاف في السرعة. فمن له قناعة راسخة بأن القضية فعلا "حَامْضَة" فأكيد أنه سيبادر إلى المصعد و كله قلق، بينما الذي يرى أن الأمور عادية و البناء يمكنه أن ينتظر فلا عليه إذا نزل عبر السلالم و ارتاح في الطريق، أو حتى أجل النزول و تراخى فيه !إن تقديرنا للأمور هو الذي يحدد مواقفنا أو بالأحرى سرعتنا في الحركة و التفاؤل و الاطمئنان. إن وصول الحزب و في هذا اللحظة بالذات هو بمثابة العملية الكاميكازية، و المشكلة الحقيقية ليست مع الشارع و 20 فبراير السليمة الحضارية و لكن مع المخزن نفسه ! فهل سيسمح له بالعمل و الحركة والظهور أم سيستمر أسطول حكومة الظل في الحركة و التأويل الدستوري للفراغات الدستورية التي جاء بها دستور يوليوز؟و لعل المغاربة قد اكتشفوا لأول مرة مصطلح حكومة تصريف أعمال من دون أن يكون لها إطار تنظيمي يحدد صلاحياتها، أين تبدأ و أين تنتهي ؟ فإذا كان الحزب قد مارس المشاركة النقدية في المنتصف الأول من عمر حكومة اليوسفي لينتقل إلى المعارضة بعدها و يفتح نيران مدفعيته على الحكومات المتعاقبة بما فيها الخطبة و الدرس و المنبر و الجريدة ، أفلا يحق لنا أن نمارس النقد و النقد بناء على العقل لا العاطفة؟ و أذكر أنني ما وجهته من نقذ لاذع و ما يزال للاتحاد الاشتراكي يفوق في جملته المصوب إلى إخوتنا في الله. لأنني كنت و ما زلت أعتبر أن الاتحاد الاشتراكي قد جنى جناية كبيرة على المغاربة لا تغتفر و بخروا بها عقودا من النضال بجرة قلم، لا لقيادته حكومة التناوب و حسب، بل لأنه كان مشروع ثقافة سياسية منافسة للثقافة المخزنية من شأنها أن تضعفها و تحد من هيمنتها على الثقافة السياسية العامة و الخطاب السياسي المغربي المعاصر، و لكن الاتحاد دخل متسرعا و رضي بثقافة الخُبْزَة و نَصْهَا ؟و المآل كان حزب الاتحاد الاشتراكي المشتت الذي يحتل بالكاد الرتبة الخامسة بين الأحزاب، و الذي كان عبارة عن رحم ولادة "لطزينة" من الأحزاب السياسية في العقد الأخير و التي بدورها تفرقت شذر مذر! إن المفروض أن يفرح السيد بنكيران و أنصاره و محبوه من نقدنا لأنه سيدخل في إطار رحم الله امرئ أهدى إلى عيوبي أو بالأحرى عيوبي السياسة و عيوب حكومتي، اللهم إذا لم يكن للسيد بن كيران و حكومته الموقرة و حزبه عيوبا فهذه مسألة أخرى؟ والخلاصة أيها السادة الكرام أننا لا نعاديكم أو نكرهكم ولكننا ننتقدكم و بأقلام متوضئة الله غايتنا. والثانية أننا لا ننتقدكم على برنامجكم أو تسييركم للشأن الحكومي لأنكم فعلا تحتاجون إلى فرصة لتنزيلها و هذا شيء مفهوم، و لكن ننتقد مساركم و عدم انحيازكم لمشروع الفَرَّانْ و اكتفائكم بتكريس ثقافة الخُبْزَة و نَصْهَا. ما ضيع أو قل أجل على المغاربة فرصة إصلاح حقيقي و عميق. يعني بالعربية نعتبر أهم وصف للمرحلة الحالية هي :مرحلة الرَّكْبَة العَوْجَة؟ و الله أعلم [email protected]