أكثر ما تخشاه السلطوية عبر التاريخ هو أن يكون في البلد حزب سياسي او تحالف أحزاب يجمع بين أمرين: أن يكون قويا من حيث أداته التنظيمية وشبكة علاقاته وشعبيته، وأن يكون مستقلا عنها في كل قراراته. لذلك تسلك كل الطرق لإضعاف الأحزاب المستقلة وتقوية الأحزاب التابعة. وتاريخ المغرب حافل بتجارب "ناجحة" تمكنت من خلالها السلطوية من إضعاف أحزاب وطنية عدة، تحولت بعد ذلك إلى أداة طيعة بين يديها، لكنها فشلت دائما في صناعة أحزاب قوية أو تقوية أحزاب تابعة لها. وتاريخ حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خير نموذج لذلك "النجاح"، والأحزاب الإدارية، وآخرها البام، خير نموذج في ذلك الفشل. والذي تغير في استراتيجيات السلطوية في تعاملها مع المشهد الحزبي اليوم هو تخليها عن أساليب الإضعاف العنيفة عبر البلطجية واعتقال القيادات وفبركة الملفات بالنسبة للأحزاب الوطنية المستقلة والقوية، من جهة، وتزوير صناديق الاقتراعات لصالح أحزابها من جهة ثانية. وتعتمد اليوم أساليب "لينة" أقل عنفا في التعامل معها كهيئات، وأقل انفضاحا على مستوى تدبير الانتخابات. وتدور رحى "الاضعاف اللين" اليوم على حزبين سياسيين يشتركان في صفة الاستقلالية ويجمع بينهما تحالف سياسي عمر سنين عدة، أحدهما قوي يقود الحكومة بشكل استثنائي لولايتين متتاليتين، هو حزب العدالة والتنمية، والثاني أقل قوة منه هو حزب التقدم والاشتراكية. وتستهدف آليات الاضعاف السلطوية كل حزب على حدة، كما تستهدف التحالف القائم بينهما. وتكشف التطورات السياسية المختلفة بعض معالم الاستراتيجية المعتمدة للإضعاف اللين لحزب المصباح، بعد فشل محاولة منعه القسري سنة 2003 على خلفية ما عرف ب"المسؤولية المعنية" عن أحداث الدارالبيضاء الارهابية. ويمكن مقاربة تلك المعالم من خلال رهانات تستغل كأوراق لعبتها وتلعبها السلطوية في لعبة إضعاف البيجيدي، يمكن إجمال أهمها في: ورقة الأستاذ ابن كيران، ورقة الحكومة بقيادة الدكتور العثماني، ورقة الخريطة التنظيمية الداخلية للحزب بعد المؤتمر، ورقة التركيبة البشرية الجديدة للحزب، ورقة حزب التقدم والاشتراكية، ورقة العلاقة مع حركة التوحيد والاصلاح، ورقة الإعلام، ورقة الغاضبون من أعضاء الحزب من كل هذا، ... الخضخضة المُهَيئة: يمكن القول إن صناعة البلوكاج المشهور الذي أطاح بالأستاذ ابن كيران من رئاسة الحكومة، كان في الواقع أكبر من مجرد إجراء لصناعة تحالف حكومي بشروط السلطوية. لأن الحيوي في هم السلطوية ليس تشكيل تحالف حكومي وفق شروط معينة، بل إضعاف خصم عنيد خسرت، مند تأسيسها لحزب البام سنة 2008، كل استثماراتها السياسية من أجل إضعافه، وبلغت خسائرها أوجها في الانتخابات التشريعية الأخيرة حين راهنت بشكل كلي على حزب الجرار ليقود الحكومة. واليوم توفر تداعيات البلوكاج السياسية والنفسية على حزب المصباح فرصة غير مسبوقة لإضعافه. ذلك أن البلوكاج هو العملية التي خضخضت بها السلطوية حزب المصباح، فتراخت عضلاته ومفاصيله، و... وأصبح مهيأ بشكل غير مسبوق لتقبل عمليات الإضعاف بالطرق اللينة. فالبلوكاج كان عبارة عن فرن لتليين حديد البيجيدي ليصبح سهل التطويع والتشكيل بين مطارق مآمرات السلطوية وسندان التفكك النفسي والفكري لقواعده. لذلك فمشكلة حزب المصباح أكبر بكثير من حكومة يقودها وفق شروط لا ترضي كثيرا من أعضائه، لأن تلك الحكومة نفسها ليست من منظور "استراتيجية الاضعاف" سوى "ورقة-مطرقة" من بين عدة أوراق_مطارق تلعبها السلطوية في لعبة إضعاف الحزب. ودور الخضخضة الناتجة عن البلوكاج هو تهييئ شروط تسهيل عمليات الإضعاف اللين التي سنقاربها من خلال الأوراق المشار إليها سابقا. ورقة الأستاذ ابن كيران: تندرج هذه الورقة ضمن الأساليب التقليدية في إضعاف الأحزاب، وكان الرهان في الانقلاب على الأستاذ ابن كيران بطريقة مست كرامته، وصدمته على مستوى الثقة التي راهن عليها، وصدمت الرأي العام معه، هو دفعه إلى قيادة انشقاق كبير داخل الحزب. والأستاذ ابن كيران هو الشخص الوحيد المؤهل لقيادة أي حراك داخل الحزب في اتجاه إضعافه كما كان عنصر قوته. وكان مجرد حضوره في المؤتمر الأخير طوق نجاة حقيق للحزب أنقده من الغرق في فوضى داخلية لن يخرج منها بسلام. وما تزال السلطوية، عبر استفزازات إعلامية، وعبر أساليب متنوعة، تراهن على أن يلعب الأستاذ ابن كيران دورا حيويا في عملية إضعاف الحزب، خاصة وأن قاعدة مهمة من شباب الحزب متعلقة به كقائد وكزعيم. لكن احتمال انزلاق الأستاذ ابن كيران، الذي خبر أساليب السلطوية، إلى تحقيق مرادها عبر ردود فعل غير محسوبة، ضعيفة إن لم تكن منعدمة. واختياره التقليل من التعبير عن آرائه، وعن إعلان انتقاداته، بل وحتى عن مقاطعته للحوار الداخلي، يدخل ضمن وعيه بأساليب السلطوية التي تستثمر كل ما يصدر عنه لإحداث شرخ داخل الحزب، وتكريس صورة الحزب المنقسم لدى الرأي العام. ورقة الحكومة بقيادة الدكتور العثماني: بالإضافة إلى كل الملاحظات الناقدة التي أججت الغضب الثاني داخل الحزب، بعد غضب البلوكاج، فالحكومة ستُعتَمد دائما ضمن مداخل إثارة "الفتن" وتغذية الغضب داخل الحزب. ولا يتعلق الأمر بالضرورة بنجاح أو فشل السياسات العمومية المتبعة، فهي لا تختلف كثيرا عما كان في عهد الأستاذ ابن كيران، وإن كانت تساعد في تحقيق الهدف، بل يتعلق الأمر باستثمار مختلف الأخطاء والتقديرات السياسية لإظهارها في صورة "الحكومة المتحكم فيها". وبقدر ما تكون الأخطاء غير مفهومة وغير منطقية بقدر ما يكون استثمارها ناجحا. وفي هذا الصدد يمكن الاشارة إلى مثلين اثنين، الأول يتعلق بتدبير ملف مقاطعة المنتجات الثلاثة المعروفة، حيث انزلقت الحكومة إلى الدفاع عن شركة سنطرال إلى حد خروج الوزير الداودي في وقفة احتجاجية لعمال الشركة المطرودين، ورَفَع الشعارات وأملى أخرى، وانتهى الأمر بتقديم استقالته بعد ما أثاره تصرفه من ردود فعل سياسية وإعلامية قوية. وأخيرا ملف حذف كتابة الدولة المكلفة بالماء. وهنا يمكن مثلا التوقف عند 3 أمور في قضية إعفاء وزيرة حزب التقدم والاشتراكية، من خلال أسئلة مفصلية، يتعلق الأول بالمنهجية غير الديموقراطية المعتمدة في التعامل مع الحليف السياسي المعني؟ ويتعلق الثاني بتوقيت القرار، والذي تزامن مع عزل وزير الاقتصاد والمالية؟ أما السؤال الثالث الذي يزيد الأمور غموضا، فهو سرعة الاستجابة لطلب حذف كتابة الدولة المعنية، وعدم التجاوب مع طلب الاعفاء الذي تقدم به الوزير الداودي؟ وهذه القضية تسببت في أزمة سياسية داخل التحالف بشكل مجاني، لا يكفي تبريره لا بسوء تدبير ولا حتى بوجود فساد، ذلك أن سوء التدبير والفساد، تعاني منهما مؤسسات أقل شئنا من قطاع وزاري تقوده كاتبة دولة، وبإثباتات من تقارير المجلس الأعلى للحسابات، وبقي المسؤولون المتورطون دون محاسبة. ولا يمكن في نهاية المطاف الحلول مكان حزب الكتاب في التقدير السياسي في مصير حقيبة يتولاها. إن الهدف من إثارة هذين المثالين هو بيان الوضعية التي توجد عليها الحكومة فيهما، والتي يسهل، في غياب تفسيرات منطقية مقنعة، اتهامها بتنفيذ أجندات السلطوية التي تنتهي بإضعاف الحزب. وتتطلب المرحلة وعيا استثنائيا عميقا ودرجة من اليقظة العالية من طرف رئيس الحكومة الأمين العام لحزب المصباح ووزراء الحزب في تدبير الملفات، خاصة ذات العلاقة بالتحالف الحكومي. والوعي العميق بكون نوع من الأخطاء في التقدير السياسي والتدبير الحكومي توظف بشكل فعال في إضعاف الحزب. ورقة "الخريطة" التنظيمية الداخلية للحزب بعد المؤتمر: تقدم الخريطة" التنظيمية الداخلية للحزب بعد المؤتمر مدخلا مغريا للسلطوية لتحقيق هدف إضعاف الحزب، فمن حيث التباين الذي خلفه البلوكاج وعزل الأستاذ ابن كيران على إثره، نجد أنفسنا أمام مشهد تنظيمي يتقاسم فيه ذلك التباين هيئتين تنظيميتين حيويتين، الأمانة العامة للحزب بقيادة الأمين العام (رئيس الحكومة) إلى جانب وزراء الحزب وقيادات أغلبها تتقاسم نفس المواقف والتوجهات التي للأمين العام. مقابل المجلس الوطني الذي يقوده مكتب مشكل من القيادات التي تقف على الطرف النقيض للأمانة العامة للحزب، ويرى فيها الشباب أنهم يمثلونهم، كما يرون في المجلس ملاذ إشفاء غليلهم. و"الطرفان" يختلفان اختلافا كبيرا في تقييم تدبير تشكيل حكومة الدكتور العثماني، بالخصوص، وفي طريقة عملها، بل وحتى في التقدير السياسي لاستمرارها من عدمه. وهنا لابد من الإشارة باقتضاب كبير إلى الوضعية التي كان عليها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في ثمانينات القرن الماضي، حين تنازعته هيئتان، المكتب السياسي من جهة، واللجنة الإدارية الوطنية، من جهة ثانية، وانتهى بانفصال الهيئة الثانية وتشكيل حزب مستقل: "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية -اللجنة الإدارية الوطنية" والذي سمي بعد ذلك ب "حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي". ورغم الفروق السياسية الكبيرة بين حالتي الحزبين، إلا أن الوضعية قد تتيح فرصا لمزيد من إضعاف الحزب باللعب على التناقض بين القيادتين، وليس تقسيمه، خاصة وأن شباب الحزب يطالبون باستمرار بعقد المجلس الوطني لتقييم المرحلة، كما يطالبون اليوم بعقده لتوضيح ما يقع بعد واقعة حذف كتابة الدولة في الماء. وبغض النظر عن مدى الحاجة من عدمها إلى عقد مجلس وطني بدون رهانات سياسية، وبدون ضمانات عدم الانزلاق إلى اتخاد قرارات غاضبة، فالمطلوب من أعضاء المجلس الوطني وقياداته، الحرص على عدم إعطاء أية فرصة يمكن للسلطوية استثمارها في إضعاف الحزب، بتكريس ثنائية تنظيمية متناقضة. ورقة التركيبة البشرية للحزب: عنصر التركيبة البشرية من الأمور التي غالبا ما لا يلتفت إليها في تحليل الظواهر التنظيمية والتفاعلات السياسية والصراعات داخل الأحزاب والنقابات والجمعيات. وهي من الأمور التي ترصدها السلطوية بشكل دقيق، وتعتمدها أحيانا في إضعاف تلك الهيئات والتحكم فيها، إما عبر عمليات إغراقها بأعضاء متحكم فيهم بطرق مختلفة، او المراهنة على الأعضاء الجدد الذين لم يتشربوا بعد مبادئها وقوانينها، ويصعب استيعابهم بقرارات الهيئات وتوجيهات المسؤولين، وذلك بوضعهم، عبر الإعلام وعبر الإشاعات المباشرة، أمام صور مناقضة للتي انتموا على أساسها بحثا عن ردود أفعال غير منضبطة تبث "البلبلة" وسط تلك الهيئات وتغذي الصورة النمطية عن هيئة غير مستقرة وضعيفة (الانسحابات الجماعية، الاحتجاجات غير المنضبطة، استسهال نشر الغسيل الداخلي، واستسهال اتهامات القيادات والهيئات،...). ورغم أنه من الصعب تحديد نوعية الأعضاء الجدد الذين حجوا إلى حزب العدالة والتنمية وفق الصورة السابقة، إلا أن من المهم التأكيد على أن الحزب عرف تحولات كبيرة فيما يخص موارده البشرية، حيث أنه قبل سنوات 2013 و2014، كانت تلك الموارد يغلب عليها العنصر البشري المساهم في إعادة هيكلة الحزب، والذين استوعبوا مشروع الحزب في عمقه التاريخي والهوياتي بشكل جيد، وأغلبهم منحدرون من حركة التوحيد والاصلاح والمتعاطفين معها. لكن بعد ذلك، وفي سياق الحماسة التي خلفها حراك 2011، والتأطير القوي للخطاب السياسي للحزب، وخاصة لأمينه العام الأستاذ ابن كيران، توافد على الحزب أضعاف ما كان فيه من الأعضاء، لتنقلب المعادلة وتصبح أغلبية أعضاء الحزب اليوم من الجيل الجديد. وقد تفسر هذه المعادلة الجديدة الكثير من الانزلاقات التي عرفها الجدل الذي عرفه الحزب مؤخرا، وخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي، وهي مرشحة لتشكيل صعوبات حقيقية أمام الخطاب السياسي للقيادات الجديدة. إن هذا المعطى يفرض على قيادات الحزب إنتاج خطاب يستطيع استيعاب موارده البشرية الجديدة المشبعة بخطابات وانتظارات الفترة التي انتموا فيها، وإطلاق مبادرات نضالية تأطيرية قادرة على تعبئتهم وتقوية ثقتهم في مؤسسات الحزب وقياداته. ورقة حزب التقدم والاشتراكية: ينبغي النظر إلى هذه الورقة من خلال الدلالات السياسية القوية لتحالف حزب الكتاب مع العدالة والتنمية وأدوارها الحيوية وليس من خلال حجم ذلك الحزب. فذلك التحالف في التقدير الذي تهتم به السلطوية شكل بعدا من أبعاد قوة حزب المصباح، وتفكيكه خطوة مهمة في درب إضعافه. وقد تابع الجميع الضربات القوية التي تلقاها ذلك الحزب من السلطوية كضريبة لتحالفه الفعال مع "البجيدي"، ولدفعه إلى الخروج إلى المعارضة، بعدما عرفه انضمامه إلى الحكومة الجديدة من صعوبات. وفي هذا السياق يصعب استيعاب قرار رئيس الحكومة، وأمين عام حزب المصباح، إلغاء حقيبة وزارية لهذا الحزب بطريقة تثير الكثير من الأسئلة: لم تخبر كاتبة الدولة المعنية، ولا أحيط حزبها علما بالأمر، ولا أحيط التحالف الحكومي علما به أيضا، مع العلم أن المنطقي أن يخضع القرار لتشاور قبلي متعدد الأطراف يرضي الجميع، ويأخذ بعين الاعتبار المعالجات الجماعية السابقة لمشكل الوزير مع كاتبة الدولة لديه. وحتى بلغة الربح والخسارة السياسية البسيطة، فتلك الطريقة لا يتوقع أن تكون لها سوى نتيجة واحدة هي اهتزاز التحالف مع حزب الكتاب. إن المطلوب من حزب المصباح هو أن يقوي تحالفه مع ذلك الحزب والعمل على توسيعه ليشمل أحزابا أخرى مثل حزب الاستقلال، لا أن يرتكب أخطاء تهدده والمساهمة في إضعافه. ورقة العلاقة مع حركة التوحيد والاصلاح: لا يمكن استيعاب أهمية هذه الورقة دون استحضار الأدوار الحيوية التي لعبتها الحركة في إعادة هيكلة حزب الدكتور الخطيب مند سنة 1996، وفي رعاية النشأة الجديدة للحزب، وتوفير الموارد البشرية الكافية، واللوجستيك والدعم المالي الضروريين، والدعم الاعلامي اليومي... وقد راهنت السلطوية مند بداية هيكلة الحزب على فك ارتباطه بالحركة، ومورست ضغوط كبيرة وخطيرة على الحركة من أجل ذلك، كان إعلام السلطوية رائدا فيها، تحت شعارات فصل الدعوي عن السياسي تارة، واتهامات بالعلاقة مع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وبالارهاب تارة أخرى، وباستغلال الدين في السياسة على طول خط الحملة على الهيئتين. وللتاريخ، فالحركة التي رعت نشأة الحزب الثانية، هي التي قررت جميع خطوات التمايز بين الهيئتين إلى أن بلغت المستوى الذي هي عليه الآن، وأن الحزب لم يُثَر فيه الموضوع على الاطلاق باستثناء إقدام القيادي السابق، محمد الخالدي، على لعب تلك الورقة بزعم ضرورة إيجاد توازن بين الحركة وقدماء الحزب داخله، ليبرر بذلك تأسيسس جمعية شكل بها حزبه بعد ذلك سنة 2005. ولقد رأينا كيف تسرب خطاب استهداف علاقة الحزب بالحركة وسط بعض أعضاء الحزب مؤخرا على شبكات التواصل الاجتماعي، دون أن يكون هناك مبرر موضوعي لذلك إلا قراءة مواقف لأعضاء الحزب من بعض القضايا مثل "الولاية الثالثة للأستاذ ابن كيران" من خلال انتمائهم للحركة أيضا، رغم أن الأستاذ ابن كيران هو من كبار مؤسسي الحركة والحزب معا، ولم يتردد وهو أمين عام الحزب ورئيس للحكومة من اعتبار الحركة "الأم التي جئنا منها". ولو طرح هؤلاء سؤالا بسيطا على أنفسهم هو لماذا لم تطرح العلاقة بين الهيئتين قط داخل هيئات الحزب وفي قراراته؟ لأدركوا أن الأمر يتعلق بتدبير ذكي جدا يروم حماية تماسك الحزب الداخلي، لأن إثارة تلك العلاقة داخل الحركة لا يشكل أي تهديد لذلك التماسك، بينما إثارتها داخل الحزب قد تؤسس لشرخ خطير بين أعضاء الحركة في الحزب وغيرهم. ومن هذه الزاوية الأخيرة تراهن السلطوية على الدوام على إثارة علاقة الحزب بالحركة، بحثا عن تحقيق هدفين استراتيجيين في مشروع إضعاف الحزب، الأول هو حرمان الحزب من سند مدني لعب أدوارا حيوية في انطلاقته الاستثنائية القوية، والتي فاجأت السلطوية نفسها. والثاني هو العمل على إطلاق ديناميكية الفرز بين أعضاء الحركة وغيرهم داخل الحزب. وتتطلب المرحلة التي يمر بها الحزب اليوم الكثير من اليقظة والحيطة في تعاطي أعضاء الحزب مع موضوع العلاقة بين الهيئتين، والحرص على عدم السقوط في أخطاء قاتلة مثل حديث البعض عن وجود تحكم للحركة في الحزب، ومطالبة الحركة برفع يدها عنه! وهو وضع متخيل لم يكن موجودا حتى في مرحلة رعاية الحركة للحزب. ورقة الإعلام: غني عن الذكر كيف تجند إعلام السلطوية لتشويه صورة الحزب وشيطنته، وللتمكين للفرقة داخله، وللعب دور الواشي وصانع التناقضات، ومروج الكذب والافتراءات، ومقتنص التسريبات التي لعبت دورا حيويا أيضا في إفشال جهود الأستاذ ابن كيران في تشكيل تحالف حكومي قبل البلوكاج... لكن الذي نريد الاشارة إليه هنا أمر آخر "ربحته" السلطوية مع الأسف الشديد. فإذا كانت السلطوية قد عجزت حتى اليوم عن تأزيم العلاقة بين الحزب والحركة، فقد ساهمت بشكل فعال في وأد جريدة التجديد، الدراع الاعلامي للحركة والمساند الاعلامي اليومي للحزب. ففي ظل البلوكاج الذي أطاح بالأستاذ ابن كيران اتخذت ثلاثة مؤسسات كبرى قرار حرمان "التجديد" من الإشهار، بدون سبب ومع وجود تعاقدات معها. وكانت تلك القرارات حاسمة في تسويد المستقبل المالي للجريدة، وتنشيط قرار وقفها. مع العلم أن السلطوية تحاصر على الدوام تلك الجريدة، وتحرمها من كثير من الاشهارات، وتمنع عنها مبيعات الادارات، ومشتريات المكتب الوطني للمطارات الذي بادر بسرعة البرق إلى اعتماد يومية "آخر ساعة" لحزب السلطوية ضمن مقتنياته اليومية من الجرائد، فيما حرمت من ذلك جريدة في عمرها أزيد من عقدين من الزمن! نعم لقد ربحت السلطوية معركة حرمان حزب المصباح من مساند إعلامي له تأثيره السياسي رغم محدودية رواجه التجاري. والذي نخشاه أن تنجح السلطوية أيضا في خنق جميع المنابر الاعلامية التي تتعامل بموضوعية مع أخبار الحزب وقضاياه. إن قيادات الحزب وأعضاؤه ينبغي أن يستحضروا على الدوام الأدوار التي يمكن أن يلعبها الاعلام في إضعاف الحزب، وأن يعملوا على تحسين تعاملهم مع الصحافة والصحافيين. ناهيك عن العمل على تقوية إعلام الحزب وتنويعه. ورقة الأعضاء الغاضبون من كل ما جرى: خلف البلوكاج المعلوم، وتبعاته السياسية التالية، موجة غضب داخل أعضاء الحزب ومتعاطفيه. وهذا أمر طبيعي. لكن الذي يهم في هذا السياق هو تطور الأمر إلى ظهور "توجهين" في أوساط "الغاضبين"، توجه منضبط يمارس النقد ويعارض القيادات والحكومة معا بخطابات منطقية لا تضر الحزب حتى وإن تناقضت مع توجهاته وقياداته الحالية. و"توجه" رافض لقيادة الحزب وللحكومة وناقد لهما "بشكل آلي"، انتهى بعدد غير قليل ضمنه إلى الاستخفاف بقرارات هيئات الحزب بل وإلى اعتباره "مختطفا" أو قد انتهى! وخطورة هذا "التوجه" هي أنه لا ينتج آراء نقدية أو أفكارا مجددة، بل ينتج انطباعات وعواطف مشحونة بنفس رافض تحت شعارات النضال، ويهتم بالأشخاص، واتهام النوايا، ويسخر من كل المبادرات ...! ومع اعتبار وجود مشروع قديم للسلطوية يسعى إلى إضعاف الحزب، فوجود كتلة حرجة من الأعضاء والمتعاطفين "الرافضين" بالشكل الذي أشرنا إليه، يخدم موضوعيا أهداف إضعاف الحزب من خلال استدامة مصدر إشاعة ثقافة اليأس حول مستقبل الحزب. فحالة الغضب تتأجج مع كل قرار لقيادات الحزب او سياسة حكومية جديدة، كما يتم تجديد حالة عدم الرضى وتغذيتها من خلال الأعمال الصحافية المغرضة الي تستهدف الحزب أو الحكومة... مما يجعلنا أمام دائرة احتقان دائم داخل الحزب وفي محيطه، تنشر اليأس، وعدم الثقة، وتقرأ كل خطوات الحزب على أنها خضوع وإذلال، وكل السياسات العمومية على أنها تنازلات وخدمة للمخزن. وهذه الظاهرة تولد عنها انسحاب أعضاء من الحزب، وتمرد متعاطفين، مما شكل هوامش في بيئة الحزب تمارس "الشغب" الدائم على سياسات الحزب والحكومة معا، فالحزب بالنسبة لهذه "الهوامش" قد انتهى ولا شيء يستحق أن يُنضبط له. وتتجاوز الظاهرة كونها تخدم موضوعيا أهداف إضعاف الحزب إلى توفير الفرصة للمراهنة عليها كورقة يمكن "تدبيرها" بطرق غير مباشرة، ولا يستبعد التمكن من استدامة النقاشات داخل مجموعات "مغلقة" في الفايسبوك وفي الواتساب في الاتجاهات التي تخدم إضعاف الحزب، من خلال الطرق المعروفة التي تثقنها السلطويات أينما كانت في العالم، وأيضا من خلال التأثير في إيقاعات النقاشات التي تجري عبر شبكات التواصل الاجتماعي. ورغم أنه في التقدير نكون أمام عدد محدود من الأشخاص قد يكون بالعشرات في أقصى التقديرات، إلا أن فاعليتهم في شبكات التواصل الاجتماعي بالخصوص له تأثير يخدم موضوعيا وبفعالية كبيرة أهداف إضعاف الحزب. خلاصة إن المشترك بين مختلف الأوراق التي تشكل معالم "استراتيجية" إضعاف حزب المصباح، هو أن "نجاحها" في تحقيق مرادها غير ممكن أو شديد الصعوبة دون مساعدة غير واعية من قيادات الحزب وأعضائه في ذلك. فحزب المصباح يمتلك عناصر قوة يمكن تعبئتها ضد أية استراتيجية يمكن للسلطوية أن تعتمدها. وعلى رأس تلك العناصر مؤسسات غير مختلف حول مشروعيتها، وقوانين ومساطر شاملة لمختلف الحياة التنظيمية، وثقافة تنظيمية متينة تحترم وحدة الحزب، وموارد بشرية في عمومها مؤمنة بمشروع الحزب... وهو ما يعني أن استمرار قوة الحزب وتماسكه، رغم كل المؤامرات، مسؤولية قيادات الحزب وأعضائه معا، وأن تجديد وعيهم بهذه الحقيقة أمر حيوي. وهذا يعني أن ما قد يصيب الحزب من وهن وضعف من جراء مشاريع الإضعاف السلطوية تقع مسؤوليته بالدرجة الأولى على قيادات الحزب ثم على أعضائه. إن حزب العدالة والتنمية يحتاج اليوم لمواجهة مشاريع الإضعاف، إلى مبادرة شاملة تنعش النقاش الداخلي السياسي، وتجدد الإيمان بالمشروع المجتمعي للحزب بين أعضائه، وتعزز الثقة في مؤسساته، وتستنهض همم النضال السياسي والثقافي والفكري ضد الفساد والاستبداد، وتستكمل ديموقراطيته الداخلية، وتحين رؤيته السياسية... مبادرة تميز بشكل جلي بين مصلحة الحزب والمصلحة العامة التي يباشرها بقيادة التحالف الحكومي.