على خلاف مضامين خطب جلالة الملك بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، والتي تركز بالأساس على البعد التاريخي والملحمي لهذه المناسبة، جاء خطاب الذكرى الخامسة والستين لثورة الملك والشعب داعيا إلى حزمة من الإجراءات والتدابير العملية المستنهضة لهمم الفاعلين العموميين بمختلف أطيافهم، وذلك بغية جعل فئة الشباب في صلب النموذج التنموي للمغرب. فثورة المغرب الممتدة عبر الأجيال لا يمكن أن تنال حظها من التحقق إلا بتمكين هذه الشريحة المجتمعية من حقها في المساهمة الفعلية في مسلسل التنمية؛ فتبويئها مكانتها اللائقة بها هو ما من شأنه أن يضمن الدلالات الوطنية والعميقة لثورة شهدها المغرب منذ ما يزيد عن نصف قرن، رابطة بين ماض بعيد بمستقبل كان الشباب ولازال ثروته الحقيقية عبر التاريخ. ولهذا الربط الزمني ما يؤكده ويترجم دلالاته القوية، فذكرى ثورة الملك والشعب تتزامن في عهد الملك محمد السادس مع ذكرى عيد الشباب، لتعكس حرصا ملكيا وعناية راسخة وممتدة بهذه الفئة التي كانت وراء الانعتاق من ربقة الاستعمار، وهي نفسها من يملك مفاتيح التنمية بالنسبة للمستقبل، وكل تهميش لها في الحياة العامة لا يحرر طاقات البلد، بل ويعرض كل جهوده للضعف والهوان. خطاب ثورة الملك والشعب لهذه السنة شكل أيضا فرصة لتحليل أثر السياسات العمومية التي عرفها المغرب على فئة الشباب، والتي وإن كانت لا تختلف أوضاعها عن أوضاع باقي الشباب العربي والإفريقي، إلا أنها اليوم أصبحت لا تعاني من البطالة والتهميش فحسب، بل تفقد الثقة في المستقبل، وتلجأ إلى الهجرة المكثفة إلى الخارج كحل مُر لتحقيق آمالها الضائعة وسط أوضاع لا تملك التأثير فيها من قريب أو بعيد. وإن كانت التحديات التي تحتاج إلى رفعها هذه الفئة تعاني منها حتى دول تصنف ضمن البلدان المتقدمة، إذ أفرزت عولمة الاقتصاد ظاهرة البطالة والتوزيع غير المتكافئ للخيرات والثروات، غير أن المحددات التي رسمت معالم سياسات عمومية في قطاعات حيوية كالتعليم مثلا خلال مراحل تدبيرية من تاريخ المغرب هي التي أدت إلى هذه النتائج التي يؤدي ثمنها جيل كامل من الشباب. فإذا كان النظام التعليمي والتشغيل أهم المعيقات التي يعاني منها الشباب المغربي، فإن توفير فرص العمل والعيش الكريم لا ينبغي أن يعتبره البعض امتيازا لهذه الفئة، بل هو حق من حقوقها الأساسية التي ينبغي أن تنعم بها دون منة أو فخر من أحد. المتلازمة السلبية القائمة بين انعدام مردودية نظامنا التعليمي الذي لا يُخَرج إلا أفواجا من العاطلين، وهشاشة سوق الشغل الذي لا يستوعب حتى حاملي الشواهد العليا، تجعل أكثر من مليوني شاب ما بين 15 و24 سنة لا يقومون بأي عمل في حياتهم اليومية، ما يحولهم إلى قنبلة موقوتة تهدد السلم الاجتماعي وتدق ناقوس الخطر بالنسبة لمصير أمة لا تضع رأسمالها اللامادي وثروتها الحقيقية في نصاب التقدم والتنمية. وهذا الوضع يسائلنا جميعا عن مردودية البرامج والمخططات التي صرفت عليها ملايير الدراهم دون نتيجة تذكر على مستوى وقعها الاجتماعي. وعليه فالأموال التي ستصرف بموجب قانون المالية لسنة 2019 لا ينبغي أن ننتظر سنوات لرصد وتقييم آثارها، لأن في ذلك حكما على جيل بكامله بالضياع والتهميش، لاسيما أن البحث الذي ننشده على مستوى توفير فرص العمل لهذه الشريحة المجتمعية يتم اليوم في عالم يشهد تحولات مفصلية في المهن العالمية، والتي تتغير بالسرعة نفسها التي تتطور بها عوالم التكنولوجيا والتقدم العلمي. ترتيبا على هذه المعطيات، وبالنظر إلى الطابع الاستعجالي لهذه الأوضاع، فالملاحظ من خلال تحليل مضامين الخطب الملكية أنها تغيرت، إذ انتقلت من مجرد التشخيص النقدي إلى تحديد برامج العمل وبأجندة تنزيل واضحة على مستوى تحديد الأولويات والبرمجة الزمنية لتفعيلها، بل وفي بعض الأحيان بتعيين الجهات المسؤولة وتحديد حتى الإدارات أو المؤسسات التي قصرت في مباشرة اختصاصاتها. وهذا ما نلمسه في خطاب ثورة الملك والشعب الأخير، ففي وقت تبقى أولوية الأولويات بالنسبة لشريحة الشباب هي التشغيل، نجد أن جلالة الملك وضع حزمة من الإجراءات العملية التي يتعين على الحكومة أن تترجمها على أرض الواقع من خلال ربط مسالك التكوين بمحيط ومتطلبات سوق الشغل؛ وذلك حتى لا يقع هدر مزيد من الموارد العمومية في وقت لا نشهد سوى إحداث مناصب شغل متواضعة جدا لا تتناسب والحاجات الحقيقية التي يتطلبها سوق العمل. كما ينبغي إنجاز مراجعة شاملة لمبادرات العمل الموجهة للشباب من خلال عقد لقاء وطني للتشغيل والتكوين سيشكل خارطة طريق وطنية للتشغيل، وكذا العمل على إعادة النظر في مسالك التكوين المهني لمزيد من الانخراط في توفير فرص الشغل، ودعم مبادرات التشغيل الذاتي ووضع آليات جديدة لتيسير التحول من القطاع غير المهيكل إلى القطاع المنظم، وتأهيل الشباب من خلال تكوينهم في اللغات الحية؛ ناهيك عن أداء الإدارات العمومية والجماعات الترابية ما بذمتها لفائدة المقاولات، حتى تتمكن من العمل في ظروف تمكنها بدورها من المساهمة الإيجابية في توفير فرص الشغل للشباب. هذه الإجراءات تتطلب من وزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية أن تراجع مخطط عملها الإستراتيجي بالعمل على منح الأولوية لهذه المقومات الجديدة في مجال التشغيل، وأن تنخرط باقي الإدارات المعنية بالقطاعات ذات الصلة، من تعليم وتكوين مهني وشبيبة، في هذه الدينامية الجديدة ضمن مقاربة اندماجية تنتصر لمنطق الالتقائية والتنسيق والتكامل بدل البقاء حبيسة النظرة الأحادية الضيقة التي تدبر الوسائل المتاحة دون تحقيق النتائج المرجوة. صفوة القول إننا في حاجة أكثر من هذا وذاك إلى إعادة النظر في نموذجنا المجتمعي، وذلك بالشكل الذي نرجع من خلاله إلى القيم التي فقدناها في المجتمع والشباب المغربي، والمتمثلة في الفاعلية وتقديس العمل بدل الارتهان إلى السلبية والعدمية وانتظار السماء التي لن تمطر أبدا ذهبا ولا فضة. كما يتوجب على الطبقة السياسية أن تتجاوز برامج سياسية قوامها رفع شعارات مناصرة للشباب ولدوره في التنمية دون أن يقع إدماجهم في التدبير العمومي وتحميلهم المسؤولية من الناحية الواقعية والفعلية، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لكي تمسك هذه الشريحة زمام الأمور في ما يخص مصيرها والطموح والأمل بغد مشرق؛ فالعالم الذي نعيشه اليوم يتطور بسرعة فائقة، وإذا ظلت النخب السياسية متمسكة بكراسيها رافضة للتشبيب والتغيير سيأتي عليها يوم تدرك فيه أنها كانت، دون غيرها، العائق الأساسي في وجه تنمية بلدها.