آلة الزمن تستمر في سريانها، ومعها دورة الفصول، فتنحني عقاربها مائلة صوب فصل الصيف، تزهو الشمس بأشعتها الذهبية، لتحمل معها شذرات الحرارة والدفء، فتستحم الرياح في أحضانها، ويولد هواء ناعم يخترق خلايا الأجساد وأديم الأرض ونباتات الحقول ومياه المحيطات وقمم الجبال. إنه فصل الصيف لقد أتى، فتحضر العطلة لتفرض نفسها، ليترك الناس مهنهم وحرفهم وسعيهم إلى القوت والرزق، من أجل قسط من الراحة، والبحث عن أوقات الاستجمام، وخلق لحظات الترفيه عن النفوس، لعلهم ينفضون غبار شهور من الكد والجد والنصب وقهر إيقاع الحياة المعاصرة، فيقصدون رمال الشواطئ، وسفوح الجبال، وفضاء المنتزهات، ومدن الألعاب، وأزقة وشوارع المدن التاريخية العتيقة. تطور وسائل النقل، وقدرة سرعتها على اختصار المسافات واختزال الزمن، جعل عالم السفر متاحا للناس بشكل أكبر، أكثر من أي وقت مضى، فاكتسحت ثقافة السفر بذلك دول المعمور. في خضم هذه العطلة الصيفية أوجد الإنسان مساحة لممارسة فعل القراءة، كفرصة مميزة تتيح له السفر عبر المخيلة إلى مختلف الأمكنة، وعلى طول القارات البعيدة؛ إنها وسيلة فذة لاكتشاف هذا العالم الفسيح، والاقتراب من ثقافات الشعوب والحضارات. الارتماء في أحضان القراءة عادة راقية، إنها عصب الشعوب والمجتمعات، وسبيلها للرقي بالناشئة صوب العلم والتحضر، سيرا نحو أفق المستقبل. العطلة مناسبة إذا للشعوب المتقدمة في سلم الحضارة للاستمتاع بعوالم القراءة، والتسابق لشراء الكتب والروايات والمجلات على اختلاف ألوانها، ومسايرة آخر الإصدارات الثقافية التي نصبو يوما ما لبلوغ مداها. القراءة مسلكنا للإمساك بثراء اللغة، والاستزادة من آفاقها الفسيحة، لتوسيع فكرنا ومخيلتنا، تنويرا للعقول ورفعا للوعي بالذات. نحن والقراءة، علاقة ملتبسة، حيث الكتاب يزداد ابتعادا عنا يوما بعد يوم، لأمة لا تقرأ، وهي حقيقة ماثلة للجميع، تنضاف إليها أزمة أقلامنا التي يصوم مدادها عن الكتابة، لتصبح إصدارات دور نشرنا هزيلة، قد لا تتجاوز إصدارات جامعة واحدة في أوروبا أو أمريكا، وقد تصير عدد هواتفنا النقالة تتخطى أعداد كتبنا المتداولة. ما العمل؟ كيف يمكن لأيدينا أن تألف حمل الكتاب؟ وتستأنس عيوننا برؤية الحروف والكلمات؟ وتستنشق حروفنا رائحة الورق؟ وتستقر المكتبات الصغيرة على جدران بيوتنا؟. نشتاق لأن تتسلل الكتب داخل حقائب سفرنا وترحالنا، المتوجهة صوب الوجهات السياحية المختلفة، لتستقر بين أيدي المصطافين تحت مظلاتهم الشمسية، وبين عيون راكبي وسائل النقل المختلفة. لا ندري في بلادنا متى يصنع كتاب أو رواية الحدث، فيخلق جدلا ثقافيا بين شرائح المجتمع، ونتسابق إلى دور المكتبات، لحجز مكاننا بين الطوابير، ولا نعلم متى يتحرك الإعلام لمواكبة الكتاب والمبدعين، والتعريف بأعمالهم وإصداراتهم. ولا نتصور، ما مصير الجرائد الورقية، المهددة بالزوال، بعد زحف أسطول الثورة الرقمية، وانحباس أفق الغد بالنسبة لوسائل الإعلام التقليدية عبر العالم. حتى المكتبات تضاءلت، وإن وجدت فمعروضاتها لا تخرج عن نطاق الكتب المدرسية، ومتى كنت في حاجة للكتب أو المجلات فأنت ملزم بشد الرحال إلى وسط المدينة، لعلك تجد مكتبة أو كشكا يتيما ليلبي حاجتك ونهمك للقراءة. قراءة كتاب يمكن أن تكون مفتاحا حاسما في تغيير فكر إنسان، ونمط تفكيره وسلوكه؛ فرمزية الكتاب تمتح أبعادها من محورية مكانة الكتب السماوية، وكتب مجاميع الحكمة، للحكماء والفلاسفة عبر العصور، ومدى مساهمتها في إغناء الفكر البشري. يمكن أن نختبئ وراء قهر الفقر، وقصر ذات اليد والحيلة، لإهمال القراءة والابتعاد عن الكتب، لكونها ليست متاحة، لكن ذلك ليس بتبرير كاف، فيكفي لحفنة من النقود أن تسعفك في شراء حزمة من الكتب المستعملة، التي تنتظر فقط من يتلمس أوراقها، ويتصفح عناوينها. القراءة هي الأخرى لم تسلم من الخضوع مكرهة لمنطق نمط الثورة الرقمية، فتحول معها الكتاب إلى مادة متاحة في عوالم النت، إذ تكفي نقرة واحدة لتحميل العشرات منها، والمضي في اختيار عناوينها المختلفة. انتقلت المكتبات إذن إلى الفضاء الافتراضي، وأضحت سوقا واعدة، تأخذ شكل منصات عالمية، تتيح لأي متصفح عبر المعمور الفرصة لإيجاد حاجته من كتب، وليتعرف على أبرز الكتاب والمبدعين. لعلي أقول إن القراءة على صفحات الورق من صنيع الأخشاب استبدلت برقائق من الشاشات الزجاجية والبلاستيكية اللامعة، فصارت عيوننا لصيقة بذبذبات أضوائها الاصطناعية، بدل ضوء أشعة الشمس الطبيعية. بهذا المعنى، فالقراءة عبر هذه الأجهزة الرقمية أفقدت الكتاب روحه وحيزه الوجودي في المكان، الذي طالما صاحب حضورنا بلمس حجمه الورقي، وجاور فضاء معيشنا، عندما كان يأخذ مكانه وترتيبه في المكتب، وكذا في رفوف مكتبات المنازل، ليصير وسيلة لإضفاء تلك الروح الجمالية على المكان، وليغدو رمزا من رموز حضور عبق الثقافة.