تضمن دستور2011 مجموعة من المبادئ التي تصب في هدف إرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه جميع الأفراد بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، كما أقر تمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، مع التنصيص على أن تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين من هذه الحقوق ومنها الحق في ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق. وقد حدد القانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا تطبيقا لأحكام الفصلين 49 و 92 من الدستور، لوائح المناصب التي يتم التعيين فيها بعد المداولة في المجلس الوزاري، وتلك التي يُتداول بشأن التعيين فيها بالمجلس الحكومي، كما جاء المرسوم رقم 2.12.412 بتاريخ 11 اكتوبر 2012 لينظم مسطرة التعيين في هذه الفئة الأخيرة من المناصب العليا، وفي نفس الإطار، صدر المرسوم رقم 2.11.681 المتعلق بكيفيات تعيين رؤساء الأقسام والمصالح بالإدارات العمومية. ومع تصاعد وتيرة تفعيل المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، والانتقادات الموجهة إلى الإدارة العمومية في العديد من الخطب الملكية، وتأكيد الرسالة الملكية الموجهة مؤخرا إلى المشاركين في الملتقى الوطني للوظيفة العمومية العليا على عدم قدرة النموذج التنموي بالمغرب على تحقيق التنمية الشاملة بسبب صعوبات كثيرة من بينها ضعف أداء الإدارة، وبالنظر أيضا إلى كمِّ الاختلالات التي يرصدها المجلس الأعلى للحسابات ومجالسه الجهوية بمناسبة المهام الرقابية التي تقوم بها، فإن اختيار الأشخاص المناسبين لتولي مناصب المسؤولية أصبح موضوعا يطرح نفسه بإلحاح، في ظل الارتباط الوثيق بين أداء المرفق العمومي وطبيعة ومستوى الموارد البشرية العاملة به. من هنا يستمد هذا الموضوع أهميته وراهنيته في سياق تنزيل ورش الجهوية، وحاجة الجماعات الترابية، وعلى رأسها الجهات، إلى الموارد البشرية المؤهلة لتحقيق رهان التنمية، بالإضافة إلى سياق إعداد ميثاق اللاتركيز الإداري وفتح ورش إصلاح الوظيفة العمومية. وهذا المقال هو محاولة لتقديم قراءة نقدية للشروط التي يتم تحديدها في مجموعة من قرارات الترشيح للمناصب العليا المتداول بشأن التعيين بها في مجلس الحكومة، ولمناصب المسؤولية المؤطرة بالمرسوم رقم 2.11.681، مع التركيز على ثلاثة معايير وهي المستوى المعرفي والتجربة المهنية والخصائص الذاتية للمرشحين. جدلية المستوى العلمي والتجربة المهنية يُعرَّف العمل المؤهل l'emploi qualifié بأنه العمل الذي يستلزم التوفر على كفاءات تُكتَسب إمَّا عن طريق التكوين أو بواسطة التجربة المهنية. وإذا كان اشتراط التوفر على شهادة أو دبلوم معين معترف به من طرف الدولة، أمرا ضروريا في مباريات الولوج إلى سلك الوظيفة العمومية، وفق ما يتناسب مع طبيعة المناصب المتبارى بشأنها ودرجات التوظيف المتاحة، فإن الأمر يحتاج إلى وقفة تأمل فيما يتعلق بالشروط التي يتم تحديدها في كثير من قرارات الإعلان عن الترشيح للمناصب العليا ومناصب المسؤولية. أولى الملاحظات التي تستدعي الوقوف عندها بهذا الخصوص تتعلق بتقديم شرط التكوين الأكاديمي على التجربة المهنية في الغالبية العظمى لقرارات الترشيح للمناصب العليا، وتحديد السقف الأدنى للمستوى المعرفي الواجب التوفر عليه من قبل المرشحين لهذه المناصب في شهادة تخول الترتيب في السلم الحادي عشر. وبقراءة للقانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا، يُلاحظ بأنه اشترط من بين معايير التعيين، التوفر على مستوى عال من التعليم والكفاءة اللازمة، دون أن يحدد السقف الأدنى لهذا المستوى العالى من التعليم، بينما أوكل المرسوم رقم 2.12.412 إلى السلطة الحكومية المعنية، تحديد الشروط التي يجب توفرها في المرشحات والمرشحين، لا سيما المستوى العلمي المطلوب والكفاءات والتجربة المهنية، وهو ما يشكل من وجهة نظري تضييقا لما وسعه القانون التنظيمي المذكور فيما يتعلق بشرط المستوى العلمي، وذلك نظرا لما يمكن أن يترتب عنه من إقصاء لشريحة واسعة من الأطر التي تتوفر على شَرْطَيْ الكفاءة والتجربة المهنية وعلى مستوى علمي عال يقل عن المستوى العلمي الذي تحدده الجهة المعلنة عن قرار الترشيح. هناك بطبيعة الحال عدد من المناصب العليا التي يستلزم الترشح إليها التوفر على أعلى المستويات المعرفية نظرا لخصوصياتها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، مناصب رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ومديري المدارس والمعاهد العليا. وباستثناء هذا النوع من المناصب ذات الخصوصية، فإن التحديد الحصري لمستوى الشهادة العليا الواجب التوفر عليها، والذي يشكل غيابها عامل إقصاء لمجموعة من المرشحين، قد يُفَوِّت على الجهة المعلنة عن قرار فتح باب الترشيح، فرصة للاستفادة من أطر متوفرين على الحد الأدنى من التكوين العالي (الإجازة أو ما يعادلها مثلا)، ولكنهم يمتلكون بالمقابل رصيدا مهما من الخبرة بحكم التجربة المهنية التي راكموها. ومن نماذج الإعلانات عن الترشيح للمناصب العليا التي صيغت بطريقة موفقة، تلك التي أعلنت عنها وزارة الخارجية والتعاون الدولي، والتي وازنت بشكل جيد بين شرط المستوى العلمي الذي حُدد على الأقل في شهادة الإجازة أو ما يعادلها، وشرط التجربة المهنية. الأمر نفسه ينطبق على قرار لوزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، حيث اشترط بالنسبة للموظفين المرشحين لمنصب مدير الشؤون القانونية أن يكونوا من الأطر العليا للدولة، وأن يكونوا منتمين لدرجة من الدرجات المرتبة خارج السلم، في حين ألزم المرشحين المنتمين للقطاع الخاص بالتوفر على دبلوم أو شهادة عليا تسمح بالترتيب في السلم الحادي عشر أو ما يعادله. ثاني الملاحظات تتعلق بكون معظم قرارات الترشيح تشترط أن تكون الشهادة العليا المحصل عليها إما مسلمة من طرف الدولة أو مشهودا بمعادلتها للشواهد الوطنية. وإذا كان هذا الشرط منطقيا ومقبولا بالنسبة للمرشحين القادمين من القطاع الخاص، على اعتبار أن نجاحهم في المنصب المتبارى عليه سيمكنهم من ولوج أسلاك الوظيفة العمومية، فإن إلزام الموظفين المرشحين بهذا الشرط يستدعي إعادة النظر لاعتبارين أساسيين، يتعلق الأول بكونهم يتوفرون أصلا على منصب مالي، ويستند الثاني إلى عدم تنصيص القانون التنظيمي رقم 02.12 على أن تكون الشهادة العليا اللازمة للترشيح مسلمة من طرف الدولة أو مشهودا بمعادلتها للشواهد الوطنية. ثالث ملاحظة تتمثل في كون بعض قرارات الإعلان عن الترشيح لمناصب المسؤولية من فئة رئيس قسم أو رئيس مصلحة وضَعت شروطا مرتبطة بالشهادة العليا المطلوبة، تتجاوز ما ينص عليه المرسوم رقم 2.11.681 المتعلق بالترشيح لهذه الفئة من المناصب، وهو ما يستدعي التساؤل حول قانونيتها. وكمثال على ذلك، ما تضمنته قرارات الترشيح التي أعلنت عنها بعض الوكالات الجهوية لتنفيذ المشاريع التابعة للجهات، والتي حددت من بين شروط الترشيح، التوفر على شهادة معترف بها تخول الترتيب في السلم الحادي عشر بالوظيفة العمومية، والحال أن المرسوم المذكور، وضع من بين شروط الترشيح، الحصول، على الأقل، على شهادة أو دبلوم يسمح بولوج درجة متصرف من الدرجة الثالثة أو درجة مماثلة. وهذا الرفع من سقف الشرط المتعلق بالشهادة العلمية فوق ما يحدده النص القانوني، قد ينتج عنه حرمان شريحة مهمة من الموظفين المتوفرين على شهادة الإجازة أو ما يعادلها والمستوفين للمعايير الأخرى المطلوبة، من تقديم ترشيحاتهم لهذه المناصب. ولعل ما يدعم هذه الملاحظة، ما ورد في منشور رئيس الحكومة رقم 2013/07، المتعلق بالتعيين في مناصب المسؤولية بالمؤسسات العمومية، من اعتماد نفس المنهجية التي تم تبنيها بالنسبة للإدارات العمومية بموجب مقتضيات المرسوم رقم 2.12.412 فيما يتعلق بمسطرة التعيين في المناصب العليا التي يتم التداول في شأن التعيين فيها في مجلس الحكومة، وكذا مقتضيات المرسوم رقم 2.11.681 في شأن كيفيات تعيين رؤساء الأقسام والمصالح بالإدارات العمومية، واعتبار كل تعيين قد يتم خارج المسطرة الواردة في المنشور المذكور لاغيا. الخصائص الذاتية، الغائب الأكبر في شروط الترشيح بالإطلاع على مجموعة من قرارات الترشيح للمناصب العليا ومناصب المسؤولية، يلاحظ أنها تركز بشكل كبير على شرط المستوى العلمي le savoir وبدرجة ثانية على شرط التجربة المهنية le savoir-faire، في حين أن قلة قليلة منها فقط تولي اهتماما للخصائص الذاتية le savoir-être. والمقصود بالخصائص الذاتية تلك الميزات الشخصية والخصال الإنسانية والقدرات التواصلية الواجب توفرها في المسؤول لكي تكون لديه المقومات القيادية اللازمة، والتي تعتبر ضرورية، إلى جانب الكفاءة والخبرة، للنجاح في كسب ثقة محيطه الداخلي المتمثل في موظفي الإدارة التي أسندت إليه مهمة تسييرها، والمحيط الخارجي من مرتفقين وفاعلين مؤسساتيين. فمها بلغ المستوى المعرفي للمرشح، وكيفما كان مستوى التجربة المهنية التي يتوفر عليها، فإن هذين المعيارين يظلان غير كافيين لنجاحه في ممارسة المسؤولية ومهام التسيير، إذا كانت تنقصه مقومات القيادة التي يجسدها ما يصطلح عليه في علم الإدارة بالتنظيم غير الرسمي، وهو التنظيم الذي يهتم بالعلاقات الإنسانية والتفاعل الإيجابي بين العاملين خارج إطار القواعد والترتيبات الرسمية التي تحكم المؤسسة. ولا يخفى ما للتنظيم غير الرسمي من دور كبير في مد جسور الثقة والتعاون والانسجام بين أفراد التنظيم، بِجَعْلِهِمْ يشتغلون بمنطق الفريق، مما ينعكس إيجابا على المردودية وحسن الأداء. وبالرجوع إلى المطبوع النموذجي الموحد للسيرة الذاتية للمرشح، الذي يشكل وثيقة أساسية في ملف الترشيح للمناصب العليا ومناصب المسؤولية، يلاحظ غياب الجانب المتعلق بالخصائص الذاتية، حيث يركز هذا المطبوع على الحالة المدنية للمرشح وتكوينه الأكاديمي وتكوينه الإضافي وتجربته وخبراته المهنية واللغات التي يمارسها قراءة وكتابة ونطقا. انطلاقا مما سبق، تتضح الحاجة إلى وقفة تأمل ومراجعة لشروط الترشيح للمناصب العليا المتداول في شأن التعيين بها داخل المجلس الحكومي ومناصب المسؤولية من فئة رؤساء الأقسام والمصالح، في اتجاه إيجاد التوليفة المثلى للموازنة بين المعايير الثلاثة المرتبطة بالمستوى المعرفي والتجربة المهنية والخصائص الذاتية للمرشحين. وإذا كان المهتمون بمجال التوجيه والإدماج المهني يشبِّهون الشهادة العلمية بجواز السفر فإنهم يعتبرون التجربة المهنية بمثابة التأشيرة التي بدونها يتعذر بلوغ الوجهة المرغوب فيها، وفي هذا التشبيه دلالة على أهمية هذين المعيارين، وهو ما يدعو إلى ضرورة التفكير في الصيغ التي تساعد على أن يكَمِّل أحدهما الآخر بهدف تذليل العقبات التي قد تحرم عددا من الموظفين من تقديم ترشيحاتهم لمناصب المسؤولية. ففي بعض الحالات، يلاحظ بأن عددا من الأطر المشهود بكفاءتها داخل الإدارة، وبداعي الحاجة إليها، تجد صعوبة في السماح لها من طرف رؤسائها بالتسجيل في إحدى مؤسسات التعليم العالي من أجل الحصول على شهادة عليا تمكنها من تجاوز حاجز عم التوفر على المستوى المعرفي المطلوب لتقديم ترشيحها لبعض المناصب العليا أو مناصب المسؤولية. في المقابل لا تجد العناصر المفتقدة للكفاءة صعوبة كبيرة في الحصول على موافقة إدارتها من أجل متابعة تعليمها العالي، إما بداعي تشجيعها على الرفع من مستواها، أو بداعي التخلص منها ولو مؤقتا حتى لا يتأثر المحيط العام للإدارة بضعف كفاءتها وتواضع مساهمتها. وهذا الأمر ينطوي على مفارقة كبيرة، مفادها أن الكفاءة والمردودية داخل الإدارة، عوض أن تشكل عامل تحفيز وتشجيع لأصحابها، قد تكون على العكس سببا في حرمانهم من تطوير وضعيتهم المهنية. ومن أمثلة الحلول التي اهتدت إليها بعض النماذج الغربية، ومنها النموذج الفرنسي لإيجاد حل لمشكل الموازنة والتكامل بين المستوى المعرفي والتجربة المهنية، اعتماد آلية "التصديق على مكتسبات التجربة" la validation des acquis de l'expérience، وهي الآلية التي تمَكِّن من الحصول على شهادة علمية معترف بها بعد التصديق على الكفايات المكتسبة من خلال مسار التجربة المهنية. وإذا كان جواز السفر والتأشيرة وثيقتين ضروريتين قبل السفر، فإن معيار الخصائص الذاتية هو الذي يحدد نجاح أو فشل المسافر - بعد وصوله إلى وجهته - في الاندماج في الوسط الجديد وكسب ثقة أفراده، وذلك بقدر ما يتوفر عليه من قدرة على الإنسجام ومؤهلات للتواصل، وهو ما ينطبق تماما على المرشح الذي يقع اختياره لمنصب المسؤولية بعد التحاقه بالإدارة التي أسندت إليه مهمة تسييرها، مما يفسر أهمية هذا المعيار وضرورة إيلائه العناية الي يستحقها في شروط الترشيح إلى جانب المعيارين المرتبطين بالشهادة والتجربة المهنية. من هذا المنطلق، يتعين التفكير في إشراك اختصاصيين في علم النفس وعلم الاجتماع في اللجن المكلفة بإجراء مقابلات مع المرشحين لهذه المناصب، لتقييم الجوانب المتعلقة بخصائصهم الذاتية، بما يساعد على اختيار مسؤولين مناسبين، يتوفرون على التجربة والكفاءة اللازمتين ويتمتعون بمقومات القيادة الإدارية. والأمل معقود أن تسفر الإصلاحات التي تشتغل عليها الوزارة المعنية عن الخروج بقرارات وتدابير تقدم حلولا لهذه الإشكاليات، وتعتمد معايير واضحة وموضوعية لضمان التنافس الشريف على مناصب المسؤولية وفق مبادئ الاستحقاق والشفافية وتكافؤ الفرص، بما يعزز آليات الحكامة الجيدة. ومن شأن هذه الإصلاحات أن تعطي جرعة أمل للكفاءات التي تعج بها الإدارة العمومية وأن تشكل حافزا لها للمزيد من البذل والعطاء، مما سيسهم دون شك في الإرتقاء بأداء الإدارة والرفع من فعاليتها في أداء مهامها المرتبطة بخدمة المواطن وتحقيق التنمية وجلب الاستثمارات المدرة لفرص الشغل. كما أن المضي قدما في إعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وترسيخه كثقافة وممارسة، من شأنه أن يساعد على تغيير النظرة إلى المسؤولية الإدارية واستشعار جسامتها باعتبارها أمانة يتعين أداؤها بحقها، وأن يكون الحافز للترشيح لها هو خدمة المصلحة العامة والارتقاء بالأداء عوض النظر إليها فقط كوسيلة لتحقيق البريستيج الإجتماعي وكفرصة للاستفادة من امتيازات المنصب. *باحث في السياسات العمومية.