اعتادت الدولة ، منذ الاستقلال وإلى اليوم ، على التنصل من مسئولياتها السياسية والوطنية في توفير العيش الكريم والتوزيع العادل لثروات الوطن على كل أبناء الشعب . يتذكر جيل السبعينيات كيف جندت الدولة خطباء المساجد والمقررات الدراسية لترويج وتكريس إيديولوجيا الاستغلال في عقول ونفوس الفقراء عبر ربط الفقر بالقضاء الإلهي ، موظفة حينها آيات قرآنية كآلية لتبرير واقع العوز والفاقة الذي أنتجته السياسات المتبعة . كانت الدولة حينها تواجه الإيديولوجية الماركسية والتفسير المادي لوضعية الفقر والتهميش باستغلال الدين والمخزون الروحي لدى عامة الشعب عبر إعطاء بعد اجتماعي لآيات قرآنية تفيد أن الله هو من "يبسط الرزق لمن يشاء " وهو من فضّل بعضنا على بعض في الرزق ... لم يعد اليوم الصراع الإيديولوجي مطروحا بالحدّة التي كان عليها زمن الحرب الباردة ، لكن صناعة الفقر استمرت وتعمقت بعد أن استكانت الدولة إلى أوضاع سياسية توارى فيها النضال الملتصق بالجماهير كقوة محركة للتاريخ لصالح قوى تتقاسم الفساد والريع فيما بينها وتتغذى على الفقر والتهميش . قوى زادها ضعف المعارضة الديمقراطية وتشتتها تغوّلا وتغطرسا . قوى لم يعد لها من همّ سوى مراكمة الأموال والممتلكات عبر نهب الثروات وتفقير الشعب . من هنا بات التفقير إستراتيجية ممنهجة والفقر صناعة عبر آليات الدولة ومؤسساتها . ضمن هذه الإستراتيجية ، شرعنت حكومة حزب العدالة والتنمية التفقير عبر الآليات الديمقراطية ، وجعلته من النتائج الطبيعية للممارسة الديمقراطية . لهذا سنت الحكومة سلسلة قوانين واتخذت حزمة من القرارات بالتحالف مع قوى الفساد التقليدية وتلك المتكالبة على الريع ، ثم شرعنتها بعرضها على البرلمان قصد المصادقة . هكذا تحولت المؤسسات الدستورية المفروض فيها أنها تعبر عن إرادة الشعب ، إلى مؤسسات لصناعة الفقر ومأسسته/دسترته. فلم تعد صناعة الفقر ،إذن ، تحتكرها الدولة التي ظلت في المخيال الجمعي كما في الواقع المعيش نموذج التسلط والظلم ، بل شاركتها فيها قوى سياسية احتالت على الناخبين والمواطنين بشعارات "النزاهة" و"محاربة الفساد" و"التوزيع العادل للثروات" ...كانت الدولة ومؤسساتها عادة بيد الطبقة السائدة لترويج إيديولوجيتها وحماية مصالحها ، فصارت مع حكومة البيجيدي أداة بيد فصيل من الإسلام السياسي يزعم الدفاع عن الفقراء والمهمشين بينما هو في خدمة قوى الفساد والنهب والاستبداد . فباسم تمثيل الشعب وسلطة الشعب يكرس استغلال فئات واسعة من الشعب . وبهذا صارت الآليات الديمقراطية في خدمة ناهبي الثروة . جميعنا يستحضر شعار بنكيران حين تعيينه رئيسا للحكومة "عفا الله عما سلف" كيف نزل بردا وسلاما على المفسدين وضَمِن لهم الحماية القانونية من كل مساءلة أو متابعة .فباسم الشعب وباسم الديمقراطية ، عفا عن بنكيران عن ناهبي ثروات الشعب . وكلما تعطلت آلية المحاسبة ، زاد الفساد اتسع الفقر .فبدلا من أن تنكب حكومة البيجيدي الأولى والثانية على الالتزام بالدستور وتفعيل فصوله خاصة تلك القاضية بربط المسئولية بالمحاسبة ، لجأت إلى اتخاذ إجراءات مجحفة غايتها تحميل المواطنين والموظفين تكلفة الفساد ونهب الثروات والمال العام . ومن تلك الإجراءات التي حتما وسعت دائرة الفقر وعمّقت شروخه :إلغاء صندوق المقاصة دون التدابير المصاحبة التي من شأنها حماية الفئات الفقيرة والمتوسطة من الانعكاسات السلبية لهذا القرار ، وفي مقدمتها ارتفاع الأسعار وتكلفة المعيشة ، وكذا تغيير نظام التقاعد بتمديد السن والزيادة في الاقتطاعات وهما قراران ينعكسان مباشرة على الأوضاع الاجتماعية للشعب المغربي من حيث ارتفاع نسبة البطالة بسبب إلغاء مناصب الشغل وإثقال كاهل الموظفين بالاقتطاعات ، الأمر الذي يحرم هذه الفئة من الادخار ويضعف القدرة الشرائية لشريحة واسعة منها ما يلحقها ، بالتالي ، بالطبقة الفقيرة . هكذا يكون التفقير ممنهجا . إذ في الوقت الذي يتوجب على الحكومة "المنبثقة من صناديق الاقتراع" أن تتصدى لأساليب النهب والتبذير وتعيد توزيع الثروة الوطنية ليستفيد منها كل المواطنين ، فضلت الإجهاز على الحقوق والمكتسبات ، من جهة ، ومن أخرى حماية المفسدين . هكذا تحالفت قوى اجتماعية متباينة الجذور ضد الفئات الاجتماعية الهشة والمتوسطة لمزيد من التفقير والتهميش ، ما يسمح بالاتجار في أوضاعها الاجتماعية والتسول بها لمراكمة المنافع وخدمة المصالح الذاتية أو الحزبية (مأساة الصويرة عرّت أوجه الاتجار في الفقر وفي الدين وفي السياسة).