رحل إلى دار البقاء، صباح يوم السبت 19 غشت 2017، وزير الأوقاف السابق مولاي عبد الكبير العلوي المدغري، عن سن تناهز 75 سنة؛ وذلك بعد مسيرة سياسة حافلة، لعل أبرز ما ميزها تقلده مسؤولية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية خلال فترة تاريخية مفصلية من تاريخ المغرب المعاصر (1984-2002). تمكن الرجل من الحفاظ على منصبه الوزاري خلال تلك الفترة الطويلة، والإصرار على الإبقاء عليه، رغم الضغوط الكبيرة التي مورست من طرق قوى سياسية عديدة لإعفائه من المنصب، تدفع إلى الافتراض بأن حاجة النظام إليه كانت ملحة خلال الفترة المذكورة وربما تستدعي تنزيل إستراتيجية محددة في تدبير الشأن الديني. نجح العلوي المدغري في بناء وتشكيل أصولية دولتية، تشتغل على محاور وأبعاد متعددة، قدمت أجوبه مركبة وحاسمة..انتقلت معه وزارة الأوقاف من وضع هامشي، إذ كانت تلقب في الستينيات والسبعينيات "وزارة مراقبة الأهلة"، كتعبير يعكس تواضع أدوارها التقليدية، إلى "وزارة سيادة"، إذ شرع النظام في الاعتماد عليها للقيام بأدوار سياسية وإيديولوجية حساسة وخطيرة، ابتداء من منتصف الثمانينيات. ويمكن تلخيص هذه الأدوار في القيام بمهام المراقبة والضبط والمواجهة الوساطة والاستيعاب والاحتواء تجاه عدد من الفاعلين في الحقليين الديني والسياسي. لعب العلوي المدغري دورا محوريا في إعداد الطريق والتمهيد للإدماج السياسي للإسلاميين المغاربة داخل الحقل السياسي والحزبي؛ نجح في ذلك مع جماعة بنكيران ورفاقه وواكب مشاركتهم السياسية، عن بعد، سواء عندما اشتدت عليهم الضربات تحت الحزام بعيد تفجيرات 16 ماي 2003، أو عندما بدأت تلوح في الأفق مؤشرات بداية استعداد النظام للحظة تشكيل "حكومة ملتحية". والمثير أكثر هو أن الرجل كان قاب قوسين من إحداث اختراق نوعي في العلاقة مع جماعة العدل والإحسان نفسها في بداية التسعينيات، لولا سياسة وضع العصا من طرف الرجل القوي في عهد الحسن الثاني، وزير الداخلية السابق إدريس البصري. فضلا عن ذلك، اجتهدت وزارة الأوقاف في عهد العلوي المدغري في لعب الدور الاحتوائي نفسه وإن بصيغ مختلفة، حيث عمل على بلورة أطروحات وإطلاق مبادرات كانت تتوخى تحديدا محاولة امتصاص واستيعاب مطالب بعض الحركات الحداثية، النسائية على الخصوص. لكنه في الواقع لم ينجح في هذا المسعى، إذ تطورت المواجهة في عهده إلى صدام مباشرة ومواجهة قوية بين مؤسسات الإسلام الرسمي وبدعم من جل الحركات الإسلامية من جهة، والجمعيات النسائية والأحزاب اليسارية التي دعمت الخطة الوطنية للإدماج المرأة في التنمية في عهد حكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي، من جهة أخرى. وفي كل الأحوال، فالتحركات التي كان يقف وراءها وزير الأوقاف السابق ساهمت فعليا وبشكل حاسم في المسار "التصحيحي" الذي اتخذته قضية المرأة مع تشكيل اللجنة الملكية الاستشارية -برئاسة الراحل امحمد بوستة- التي انبثقت عنها مدونة الأسرة الجديدة. ظلمه اليسار كثيرا بإلباسه شبهة تسريب الوهابية للمملكة، وهي تهمة تحولت مع مرور الوقت إلى مقولة نمطية وشكلية، لازال كثير من الصحافيين وحتى بعض الباحثين الأكاديميين يرددونها دون أن يتحملوا عناء تمحيصها وإبداء نوع من "الشك المنهجي" في أساسها. فلا يوجد -في حدود علمنا- أي دليل أو حجة مادية تؤكد أو تدعم صحتها. ونرجح أن إشاعة مثل هذه التهمة ارتبط بحسابات سياسية تاكتيكية لها علاقة بحاجة حكومة التناوب لتغذية خطابها حول "جيوب المقاومة" الذي بدأت تتحدث به في سياق تبرير العقبات والإخفاقات التي واجهتها في تنزيل برنامجها الحكومي على الأرض. ما يدعم هذه الطرح هو أن واحدا من أهم الشخصيات اليسارية الذي أشتهر بسجاله ونقده اللاذع ضد الوزير السابق، على صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي، سيعود بعد سنوات ليؤكد، في مقابلة خاصة، على أن العلوي المدغري، بحكم ما راكم من خبرة وتجربة غنية وطويلة في المنصب الرسمي الذي شغله في فترة مفصلية من تاريخ المغرب، يمكن أن يكون "ربحا كبيرا للبلاد وللأفق الوطني"، لاسيما إذا بذل مجهودا من جهته "للتصالح مع القوى الديمقراطية وتصحيح علاقته بها". كان لي شرف إجراء عدة مقابلات خاصة معه سنة 2008، وذلك على هامش إعدادي لأطروحتي جامعية حول السياسة الدينية بالمغرب خلال الفترة التي شغل فيها المسؤولية الحكومية. الخلاصة الرئيسية التي خرجت بها من كل تلك المقابلات هي أن الرجل له أسلوب في التفكير وخطاب سياسي ومواقف معينة تقبل بطبيعتها المسائلة والجدل، لكن الذي لا شك فيه هو أن الرجل يظل قامة علمية ورجل دولة من الطراز النادر. الرجل له ما له وعليه وما عليه، لكن ما هو مؤكد هو أن النظام المغربي لازال في حاجة ماسة إلى نخب دولة تفكر وتشتغل بأفق سياسي مرن وتوافقي، أفق يستحضر "مصلحة الدولة" لكنه يؤمن أيضا بأهمية العمل على بناء دولة حديثة ووطن مفتوح ومتنوع يتسع لجميع أبنائه مهما اختلفت مشاربهم الإيديولوجية ورؤاهم المجتمعية. وهذا البروفيل النوعي جسده بامتياز العلوي المدغري، ما أكسبه احترام الكثير من خصومه، فضلا عن حلفائه. رحم الله الفقيد وإنا لله وإنا إليه راجعون.. *أستاذ باحث بمعهد الدراسات الإفريقية، جامعة محمد الخامس الرباط