في العاشر من هذا الشهر، قدمت لنا مدارت هسبرس مقالا بعنوان “الكنبوري يدعو إلى تدريس آيات الجهاد في مناهج العالم العربي”. مقال ينم عن جرأة كبيرة لمواجهة واقعنا التاريخي واليومي بقدر من الصدق لا يستهان به. فالدكتور الكنبوري مُصيب لما يعترف بأن القرآن يحتوي على آيات تحثنا على الجهاد في سبيل الله، ليس بالإقناع عبر الكلمة الطيبة وبمجاهدة النفس فحسب، بل كذلك باللجوء لحد السيف، كما سجل تاريخنا ذلك على عهد النبي وفي عهد كل خلفاءه، إبتداء بالراشدين منهم وصولا إلى الأتراك الفاتحين لشرق أوروبا بعد قضاءهم على الإمبراطورية البيزنطية. فصراحة الدكتور الكنبوري وجرأته مرحب بهما لما ينصحنا بإدراج ما هو منصوص عليه بالقرآن من جهاد بمقررات مدارسنا دون التنكر لواقع أمرنا إذ لا فائدة من ذلك. فهو يذكرنا أن المسلمين يتوفرون اليوم، كغيرهم من الشعوب، على وسائل إعلام حديثة وعلى تعليم كاف وعلى إذاعات وتلفازات وشاشات متنقلة ومصاحف إلكترونية أو ورقية يجد كل واحد فيها ما يؤكد له أن الجهاد جزء لا يتجزأ من النص المقدس ولبنة أساسية بُنِي عليها مجد تاريخنا الإسلامي. نعم، بفضل الجهاد كانت لنا أمجاد، قبل أن تنتصر علينا أمم وثقافات أوروبية جاورتنا قرونا عدة وخسرت معارك متعددة في مواجهتنا. لقد وضعت أوروبا حدا لتاريخ خلافتنا للأرض، بما فيها أرض كنعان التي سبق وأن استخلفها الله لأبناء عمنا إسحاق المشهور باسم إسرائيل، ثم أرغمتنا أوروبا على تسجيل واقع جغرافي عالمي جديد يتسم بحدود معلومة أصبحنا ندافع عن حرمتها ككل الأممالمتحدة. فبعدما كان سلفنا الفاتح الرابح قد قضى على إمبراطوريات الفرس والروم وعلى ممالك عدة، آسيوية وإفريقية وأوروبية… لم تكفينا لا خبرة أجدادنا الطويلة ولا تقليدها في مواجهة الثقافة الأوروبية لما قررت بدورها أن تصبح توسعية ومتعجرفة مثل عجرفة وتوسعية أجدادنا. لقد انتهى عهد خلافتنا بعدما طور الأوروبيون وعيا جديدا وأرادوا لثقافتهم أن تكون أفضل من كل ثقافات الدنيا ثم تجنبوا عبور أراضينا بعبورهم للبحر المحيط وتركونا نتمادى في ذكريات أمجادنا وفي تناقضاتنا واعتقادنا بأننا خيرأمة أخرجت للناس وأن خلافة الأرض لنا، لا لغيرنا. لا يسع أي عاقل اليوم سوى الإعتراف بأن فتوحات الثقافة الأوروبية وغزواتها تمكنت من التغلغل إلى كل أرجاء الدنيا بعدما مرت باستكشاف (وليس اكتشاف) قارتين على الأقل لم يتسن لا لسلفنا من العرب أو الآمازيغ أو للأتراك العثمانيين أن ينافسوا الأوروبيين على استكشافهما وغزوهما (*) : أمريكاوأستراليا وما بينهما من جزر بالمحيط الهادي مع غض الطرف عن القطب الجنوبي لعالمنا. فإن كان جهادنا في سبيل الله وبإسمه قد نجح نجاحا باهرا قبل أن يخفق وينتهي عهد توسعه بالسيف فإنه لا مفر لنا من الإعتراف بأن غزوات أوروبا باسم تفوق ثقافتها قد فازت بقصبة السبق حيث نجحت إلى حد بعيد. فالغزوات والفتوحات الأوروبية (سموها إستعمارا أو إعمارا إن شئتم) لم تنتهي في الخمسينات من القرن الماضي بل بدأت إذاك بقوة خارقة للعادة حيث انفتحت لها الأفئدة مع إستقلال الدول التي أقبلت بنهم على الأدوية الأوروبية وعلى تقليد مدارسها وطرقها في التعليم والتنقل والتحارب وكذلك التحاور والتشاور بالبرلمانات وبالصحف... ثم بالمواقع الإلكترونية مؤخرا. والدليل على هذا التوسع الباهر هو دخول الشبكة العنكبوتية إلى عقر كل دار من ديار الدنيا. بعد هذا التشخيص الذي لا يتنكر للحقيقة المادية والتاريخية، تبقى المشكلة كامنة بأكملها فيما نراه من إحجام الدكتور الكنبوري عن تقديم وصفة ناجعة للعلاج. فكيف التخلص إذن مما يمكن أن نسميه عقدة العقد أو معضلة المعضلات والمفارقات المؤسسة لفكرنا ولواقع حالنا الإسلامي منذ بداية تاريخه إلى أيامنا هاته ؟ ما السبيل للتخلص من تناقضاتنا ولفتح عقدنا النفسية والفكرية ؟ أعتقد أنه لا مفر لنا من تبني نظرة عصرنا للإنسان لتحل محل نظرة سلفنا المبررة للجهاد في سبيل الله كي يستخلفنا على الأرض. هذا هو ما يمكن تسميته بتصفية الجهاد، بمعنى نسف مقدماته الفكرية وتعريتها. تتلخص النظرة المؤسسة لمجدنا في الإعتقاد أن المسلمين أعلى مرتبة من المشركين. أما النظرة الجديدة التي يلزمنا تبنيها فهي بالضبط عكس منطلقات سلفنا : كلنا بشر وكلنا متساوون بغض النظر عن معتقداتنا وعن قناعاتنا. بات لازما علينا أن نروم الصدق وأن ننبذ الوفاق والإتفاق على النفاق كي نعترف بنقائص أخلاقنا وباختلال تربيتنا الإسلامية. لم نلتزم أبدا وما زلنا لا نلتزم باحترام جيراننا الذين يخالفون عقيدتنا وقناعاتنا ولم يتحل مفكرونا لحد الآن بالجرأة إلى حد الإعتراف بالخلل الوراثي الذي يشوب تفكيرنا الأخلاقي المتفاقم ومعاملاتنا التي لا تحترم المخالف والمنتقد لعقيدتنا ولقناعاتنا ؟ لماذا لا يروم مفكرونا وكتابنا الصدق ليتوصلوا إلى تقديم الحل الرصين الفاتح لعقد فكرهم توخيا للشفاء الذي يليق كذلك بأخواتنا وبإخواننا من المسلمين، سواء صنفوا أنفسهم كوسطيين أو معتدلين أم صنفهم معارضوهم كمتطرفين أو خوارج ؟ لماذا لا نضع قلة أخلاقنا الوراثية على محك المساءلة ؟ إلى أي مدى سنتمادى في هاته النرجسية التي لا تقيم للآخر المختلف عنا والمعارض لعقيدتنا أي قدر ؟ أليس هذا هو التعريف لقلة احترام أنفسنا ولقلة أخلاقنا ؟ لماذا لا نقتدي بجيراننا الأوروبيين في هذا إذ ينتقدون كل يوم استعماريتهم وتوسعيتهم الإمبريالية رغم علمهم أنهم هم الذين قدموا للعالم بأسره علوما ومعارف عن الإنسان وعن والكون وعن الحيوان لم يكن ليحلم بها أجدادنا قبل غزو نابوليون لأراضيهم. من كان من بني آدم الشرقيين والغربيين، فرسا وأتراكا وعربا وآمازيغيين قد اهتم بما ما تعنيه الكتابة المسمارية والهيروغليفية قبل أن يهتم بحل لغزها الأوروبيون المتفتحون على ثقافات الآخر والشغوفون باسكتشاف الدنيا وتاريخها وما عليها دون أن يعتبروا أنفسهم أنهم شعب الله المختار أو خير أمة أخرجت للناس ؟ لماذا لا نعترف بعجرفتنا وبقلة شغفنا بمعرفة من وسمناهم بالجهل والجاهلية ؟ لقد اعتقدنا أن لنا علم السماوات والأرض وما بينهن وتبين لنا أننا لا نفهم لا مسيرة كوكبنا بالفضاء ولا تاريخ أجدادنا شرقا وغربا. أعتقد أنه لا مفر لنا من إعادة النظر في تدريسنا لتاريخ أمجادنا ولأسباب إخفاقنا ليفهم بناتنا وأبناءنا أن العجرفة والتعالي على الآخرين أساس فكرنا وأننا لم نطور بعد نظرة ناقدة لأنفسنا مثلما فعل جيراننا الأوروبيون الذين يتهمون أنفسهم بالإمبريالية والتوسعية ولا يرون أنهم ليسوا لوحدهم المسكونين بهذا الهاجس غير الأخلاقي. ---- (*) أجداد الهنود الحمر القادمون من آسيا هم الذين اكتشفوا أمريكا وبنوا بها حضارات متنوعة قبل أن يستكشفها ويستعمرها الأوروبيون. أما أستراليا فلقد اكتشفها واستقر بها سكان سود أولون قبل أن يستكشفها ويستعمرها الأوروبيون.