بذلت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في السنوات الخمس الأخيرة، جهودا نوعية ومكثفة لمواكبة وتنشيط السياسة الإفريقية للمغرب، الساعية إلى الانفتاح أكثر على دول القارة السمراء، وذلك من خلال الإسهام الفاعل في تجسيد خيار التعاون جنوب-جنوب وتنويع الشراكات الإستراتيجية وتقوية التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف في المجالات ذات الاهتمام المشترك، بما فيها المجال الديني. إن التنويه بالجهود المبذولة لا ينبغي أن يمنع من رصد بعض الاختلالات والمشاكل التي تعتري الإستراتيجية الإقليمية التي تشرف عليها وزارة الأوقاف، لاسيما على مستوى "حكامة" وتدبير عدد من البرامج والآليات المؤسساتية المعتمدة لترجمة هذه الإستراتيجية على الأرض، من قبيل مؤسسة "محمد السادس للعلماء الأفارقة" موضوع هذه الورقة. جاء إنشاء هذه المؤسسة تجسيدا للوشائج التاريخية واستثمارا للموروث الروحي والتاريخي المشترك الذي يجمع المملكة المغربية بعدد من البلدان الإفريقية، والمبني في قسم كبير منه على وحدة المقوم الديني بأبعاده العقدية والمذهبية والروحية. تتوخى المؤسسة، بحسب ديباجة الظهير المحدث لها (رقم 1.15.75)، "حماية العقيدة الإسلامية والوحدة الروحية للشعوب الإفريقية من كل النزاعات والتيارات والأفكار التضليلية التي تمس بقدسية الإسلام وتعاليمه ومقاصده". إن إحداث هذه المؤسسة هي إلى حد كبير امتداد وتجسيد عملي للطموحات والرهانات التي تحكمت في إنشاء "رابطة علماء المغرب والسنغال" سنة 1986، والتي كانت تندرج في إطار إيجاد بدائل لكسر عزلة المغرب قاريا بعد انسحاب المملكة من منظمة الاتحاد الإفريقي سنة 1984. لكن الجانب الرئيس الذي يميز المؤسسة عن الرابطة يكمن في طبيعة الرهانات السياسية والمرامي الجيوستراتيجية الأوسع المراد بلوغها. بالتركيز على جنسية العلماء والعالمات، الذين حضروا مراسم إعلان المؤسسة الجديدة، وكذا خلفياتهم الفكرية والإيديولوجية، يمكن القول إن الرهان المركزي وراء إطلاق هذه المبادرة هو التعبئة وتوحيد الجهود في إطار مؤسساتي رسمي للتعاون العلمي بين علماء المغرب ونظرائهم بباقي الدول الأفريقية، بما يسمح على المديين المتوسط والبعيد، خصوصا مع عودة المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، ببناء جبهة دينية ما فوق-وطنية لرعاية "الأمن الروحي" ومحاربة التطرف، لا تقتصر على دول إفريقيا الغربية فقط، كما كانت تطمح الرابطة، بل تتسع لتشمل دولا من كافة أنحاء القارة، والتي وصل عددها حوالي 30 دولة حضر، السنة الماضية، علماء ممثلون عنها مراسيم تنصيب مجلسها الأعلى أمام الملك. من جهة أخرى، يراهن النظام المغربي عليها لكي تشكل قناة للترويج للنموذج الديني المغربي داخل القارة الإفريقية، وأيضا لإيجاد بنية مؤسساتية تابعة لإمارة المؤمنين تقنن الولاء الروحي لها وتوسع امتداداتها وشبكات النخب الدينية المرتبطة بها بإفريقيا، لاسيما بعد أن تحول المجال الديني في السنوات الأخيرة إلى واجهة أخرى للتنافس الجزائري-المغربي، إذ يذكر أن الجزائر كانت قد أعلنت، في يناير 2013، تأسيس "رابطة علماء وأئمة ودعاة منطقة الساحل"، التي تضم في عضويتها، فضلا عن علماء الجزائر التي تحتضن مقرها الرئيسي، علماء من ليبيا وتشاد والنيجر ومالي وموريتانيا ونيجيريا وبوركينافاسو. واضح إذن حجم الآمال والرهانات الإستراتيجية المعقودة على هذه المؤسسة في إسناد ودعم السياسة الإفريقية للمملكة، لكن هناك ثلاث ملاحظات أساسية تشير ربما إلى صعوبات وعيوب شكلية وجوهرية تهم وتيرة تنزيل فكرة المؤسسة على الأرض، وتفعيل نشاطها، وطبيعة المشارب الفكرية والإيديولوجية للعلماء الممثلين فيها. 1- يأتي إنشاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في ظل مناخ إقليمي مضطرب يطبعه تنامي القلاقل السياسية والأمنية التي تهدد باستمرار استقرار العديد من دول شمال إفريقيا والساحل جنوب الصحراء. وفي وقت كان يفترض أن يشكل هذا السياق الإقليمي حافزا لتسريع تفعيل هذه المؤسسة، يلاحظ تباطؤ وارتباك واضحان في هذا الصدد؛ ذلك أنه كانت قد صدرت أوامر ملكية سنة 2010، نصت بصريح العبارة على ضرورة "الاستعجال" في ترجمة فكرة المؤسسة، لكن ما وقع بعد ذلك هو الدخول في مسار تأسيسي بطيء ومرتبك لم يستكمل إلى حدود الساعة. ففي 1 يونيو 2015 انعقد اجتماع تمهيدي للتعريف بالمشروع بالرباط حضره علماء من عشرين بلدا إفريقيا. وبعد صدور الظهير المؤسس للمؤسسة بتاريخ 24 يونيو سيتم تنظيم مراسم "حفل الإعلان" عن إحداثها الشهر الموالي في رمضان سنة 2015. وسننتظر سنة بأكملها لكي يتم تنظيم "حفل تنصيب" المجلس الأعلى للمؤسسة أمام الملك، بجامع القرويين بفاس، في 14 يونيو 2016، حيث تم تحديد أسماء أعضائه من العلماء المغاربة (20 عضوا) ومن الأفارقة (حوالي مائة شخص). وفق بعض التقديرات، فمصاريف نقل هؤلاء الأعضاء وإقامتهم لأسبوع أو أكثر، بغرض حضور الاستقبال الملكي، التهمت حوالي نصف الميزانية التي رصدت للمؤسسة برسم سنة 2016. ولعل المثير في الأمر هو أن الجمع انفض مباشرة بعد الاستقبال الملكي دون أن يتسنى لأعضاء المجلس الأعلى، وهو الهيئة المقررة لمؤسسة العلماء الأفارقة، عقد أي اجتماع للنقاش وتدارس سبل تفعيل عمل المؤسسة واستكمال هيكلتها وخطة عملها. ويذكر أن وزارة الأوقاف كانت قد أعلنت، في بلاغ صحافي، أن اجتماعين اثنين سيعقدان في شتنبر ونونبر 2015؛ الأول سيخصص للإسراع بتفعيل نشاط المؤسسة ووضع آليات اشتغالها وتبني وثيقة تتضمن "إستراتيجية عمل" المؤسسة في المدى القريب والمتوسط، والآخر سينكب على تسوية الوضعية القانونية للمجالس المحلية ووضع برامج عمل أولية برسم السنة الموالية. إلا أن هذه الخطوات التنظيمية لم تتم إلى حدود كتابة هذه السطور، وهو ما يعني أن المؤسسة لازالت لم تباشر عملها بعد رغم مرور أزيد من سنتين على الإعلان الرسمي عن إحداثها. 2- أُحدثت المؤسسة تحت رئاسة الملك، وأسند منصب الرئيس المنتدب لوزير الأوقاف، ويعين الأمين العام للمؤسسة باقتراح منه. قد يبدو إحداث منصب الرئيس المنتدب مسألة عادية ومفهومة لإبقاء مؤسسة سيادية تحت إشراف الوزير الوصي، لكن هذا التقدير سرعان ما يتوارى للخلف إذا ما استحضرنا على الأقل ثلاث إشكالات واقعية: أولا، تسيير مؤسسة سيادية حيوية، مثل تلك التي نتحدث عنها، يتطلب وقتا وجهدا ومتابعة يومية دؤوبة وتنقلات منتظمة لدول القارة، وهذه المهام يصعب أن يقوم بها وزير غير متفرغ يسهر على تسيير قطاعين عموميين ضخمين مثل الشؤون الإسلامية والأوقاف. أما المعطى الثاني فله علاقة بالشخص التي تم تعينه أمينا عاما للمؤسسة، والذي لا تشفع له لا طبيعة تكوينه ولا خبرته الاستشارية السابقة في تقلد مثل هذا المنصب، إذ يبدو أن دوره الفعلي لا يتجاوز مهام "الكتابة العامة". وكان لافتا، خلال حفل تنصيب المجلس الأعلى للمؤسسة، كيف أن الأمين العام لم يكن ضمن قائمة الأشخاص المدعوين الذين تقدموا للسلام على الملك؛ والظاهر أن انتقاءه لهذا المنصب لم يكن منتظرا وحصل بعدما لم يحظ اسمان آخران، كانا يتقدمانه في اللائحة المقترحة للمنصب، بثقة القصر. ثالثا، تطرح عضوية الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى -بصفته التمثيلية، وهو مؤسسة دستورية مستقلة مرتبطة عضويا بإمارة المؤمنين، كعضو عاد إلى جانب أعضاء آخرين يمثلون مؤسسات دينية أدنى، تحت رئاسة وزير الأوقاف، والذي هو بالمناسبة معين بالصفة عضوا بالمجلس العلمي الأعلى، وبالتبعية للأمين العام لمؤسسة علماء أفريقيا- مفارقة جوهرية وإشكالا حقيقيا يمس بالمكانة التراتبية والاعتبار المعنوي والرمزي لمؤسسة شرعية سيادية تشتغل تحت إمرة الملك أمير المؤمنين. 3- بترك هذا الإشكال جانبا، وإذا تأملنا في لائحة أعضاء المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، هناك تساؤلات عديدة تثار حول نوعية المعايير التي تم اعتمادها في انتقاء الأسماء المعينة، سواء المغاربة منهم أو حتى الأفارقة. فعلى مستوى العلماء الأعضاء المغاربة، وجلهم عينوا بصفتهم التمثيلية كرؤساء للمجالس للعلمية، يرجح أن أغلبيتهم لم تطأ قدماهم القارة الإفريقية، وغير ملمين أصلا بقضاياها –بمن فيهم الأمين العام للمؤسسة-، وليس لهم أي رصيد من العلاقات بنخبها الفكرية أو أعيانها الروحيين؛ هذا فضلا عن أن عددا منهم إما طاعن في السن أو عاجز بدنيا أو على فراش المرض... فكيف سينخرط هؤلاء عمليا في مؤسسة إفريقية طموحة تقتضي بالضرورة جهدا بدنيا وعلاقات ومؤهلات معرفية وكفايات تواصلية ولغوية خاصة؟! أما بالنسبة للأسماء الإفريقية، فهناك تساؤلات عديدة حول الانتماءات الوهابية المعروفة لبعضهم وقوة تمثيليتهم وحجم النفوذ الذي يتمتعون به في بلدانهم، وهو الموضوع قد نعود إليه بتفصيل في مقالة لاحقة. نضيف فقط أن هذا الأمر قد نتفهمه في إطار اعتبارات تاكتيكية وحسابات براغماتية للتعامل مع خريطة دينية تعددية بإفريقيا، تخترقها تيارات مذهبية مختلفة، وتدعمها شبكات جمعوية وإمكانات مادية ضخمة. لكن المسألة، بالمقابل، تطرح شكوكا ومن شأنها تمس بمصداقية وجدّية الخطاب الرسمي حول "الإسلام المغربي" الذي لطالما تباهى، داخليا وخارجيا، بالتصوف السني والمذهب المالكي باعتبارهما قاسمين مشتركين بين المغرب وإفريقيا، وكمكونين مركزيين ل"العلامة الدينية المغربية" التي يجري الترويج لها بكثافة بهدف تحقيق اختراقات نوعية في علاقة المملكة بعدد من الدول الإفريقية من خارج المحور التقليدي "مالي-السنغال". *باحث بمعهد الدراسات الإفريقية، الرباط