2/2 تطرقنا في الجزء الأول من الموضوع إلى المطلب الديموقراطي والحقوقي للتواصل السياسي، وخلصنا فيه إلى أن هناك ارتباطا وثيقا بين الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة والمصالح الاستراتيجية من جهة، والديموقراطية وحقوق الانسان وما تنطوي عليه من التزامات وواجبات على نظام الحكم والأحزاب ومختلف الهيئات وجميع المؤسسات من جهة أخرى. وأما في هذا الجزء فسنتناول مطلبا ثانيا لا يقل أهمية عن الأول ولا ينفصل عنه عضويا ودلاليا بأي حال من الأحوال. 2. المطلب الأخلاقي للتواصل السياسي مختلف الجماهير ويعمل على تغيير السلوك وصناعة الرأي العام. كما يمكن لوسائل الاعلام، بهذه الوظيفة الاستثنائية، أن تبني وتساهم في الاصلاح يمكنها أن تدمر وتخلق الفوضى في المجتمع؛ لذا فإن الطبيعة التواصلية للفاعل السياسي تفرض عليه تحمل المسؤولية والالتزام بالأخلاق والقيم الاجتماعية. فما هي المطالب الأخلاقية الخاصة لممارس التواصل السياسي؟ الواجبات الأخلاقية لممارس التواصل السياسي هي بدايةً ملاصقة لأساس الحياة الديموقراطية بنفسها؛ تتأسس على احترام كرامة الانسان وحقوقه الأساسية، والإيمان بالتداول الحر للمعلومات وللحوار وحرية التعبير، واحترام حق كل شخص في أن يُكوّن له حكمه الخاص، وأن يتصرف بالطريقة التي ترضيه. وأما مصداقية الممارس فترتبط بتحليه بالأمانة والنزاهة وصدق الخطاب، وتعزيز المصلحة العامة. ولأن طبيعة عمله مرتبطة بالجمهور وصراع المصالح فمن واجبه التعامل مع وسائل الاعلام المختلفة بالإنصاف والشفافية؛ كلها واجبات تؤكد على الحياة الديموقراطية والحفاظ عليها. إذن، كثيرة هي النقاط التي تشكل القواعد الأخلاقية للتواصل السياسي دون أن تكون خاصة به: قول الحقيقة؛ مقاومة إغراءات المناورات؛ فهم إشكالية السر والشفافية؛ احترام السمعة؛ الثقة المتبادلة 2. 1. قول الحقيقة تناول الفلاسفة عبر التاريخ مفهوم الحقيقة؛ كل ما ينتهي إليه القارئ من التناول الفلسفي هو أن علاقتنا بالحقيقة تبقى دائما معقدة وصعبة وغامضة. لكن الحقيقة تبقى مقياسا معياريا لعلاقات الناس والتواصل فيما بينهم، ووجودها ضروري وإلا لما وجد شيء اسمه الكذب. الرهان المزدوج الأخلاقي والابستيمولوجي لمخاطبة الجماهير بالحقيقة هو "الثقة" في الزعيم السياسي والمتواصل السياسي عموما ب"صدقية" خطابه الذي سبقه امتحان فاكتسب القوة ب"مصداقية" وعوده أو مواقفه. إذن، إن بناء الثقة، كنقطة مركزية في كل مسار التواصل السياسي، يكون بأفعال تعكس الخطاب وقائمة على جودته. ندخل هنا إلى عمق المشكل وهو الخاصية المضللة للغة والأفعال وإمكانياتها اللانهائية للتلاعب أو الكذب. وأما الكذب فلا نهاية لأشكاله نذكر منها على الأقل: كذبة الإخفاء، وكذبة الاختراع، وكذبة الأنانية التي تستهدف حماية الذات أو كذبة الإيثار التي تستهدف حماية الآخر والدعاية له بأي ثمن. من نماذج الكذب في السياسة الدعاية التي تعتمد ترويج معلومات خاطئة أو متحيزة على نحو مخادع ومسيئ للعقل وفطرة الناس والجماهير المستهدفة بالدرجة الأولى؛ فيكون التحدي الأخلاقي الأول لممارس التواصل السياسي من موقع المسؤولية هو مدى قدرته على مواجهة هذا النموذج، عند نشر المعلومة وتبليغها، وتبني الإقناع والشرح وقول الحقيقة بكل شفافية، كإجراء ديموقراطي طبيعي، بدل التدليس والمناورة التي تعمل على تعديل الادراكات والفهم للأشياء. التحدي الأخلاقي الثاني، ليس فقط لممارس التواصل السياسي وإنما لجميع المسؤولين في المجموعات والأحزاب والمنظمات، هو تقدير كرامة الجماهير واحترام ذكائهم باعتماد الطريقة الديموقراطية عند اتخاذ القرارات والاجراءات للتأثير والوصول إلى السلطة. 2. 2. مقاومة إغراءات المناورة ما الفرق بين دينامية التواصل الأساسية كاستراتيجية في التأثير والمناورة كاستراتيجية للتواصل المشكوك في نواياه وفي أدواته؟ تقوم المناورة على توسيع المشترك في المعنى لغرض التلاعب ببنائها المتعدد، وتستعمل أيضا بمعنى ممارسة التأثير باستعمال سياقات الوضعية؛ هناك اتجاه يستعملها في العلاقات العامة كأداة تقليدية على المبدأ الميكيافيلي "الغاية تبرر الوسيلة" أي لا أخلاق ولا مبادئ يحكم المناورة واتجاه منطقي يستعملها بشرط الحفاظ على المبادئ وعند الحاجة الضرورية والقصوى التي يتفهمها الآخر ويقدرها عند اكتشافها. ومن المناورات المنطقية والمقبولة أخلاقيا الخطة القائمة على الخداع والمراوغة لإِفساد ما يدبره العدو أو المعارض قبل أو خلال المعركة. وأما المناورة الميكيافيلية فهي التي تستعمل بإطلاق لتحقيق مآرب شخصية ويتعدى استعمالها إلى من تجب الثقة فيه وإلى من لم تكُن معه القطيعة التي تستوجب اللجوء إِلَى المناورة. تسمى المناورة في الفقه الإسلامي التورية والتعريض وهو خلاف التصريح وهو ضرب من التغرير والخداع؛ والضابط الأخلاقي للمرخص فيه للحاجة أو المصلحة الشرعية هو أن تطلق لفظا هو ظاهر في معنى وتريد به معنى آخر خلاف ظاهره ويتناوله ذلك اللفظ، لتجنب حالات الحرج التي قد يقع الانسان فيها كأن يُسأل عن أمر وهو لا يريد إخباره بالواقع من جهة ولا يريد أن يكذب عليه من جهة أخرى. قسمها الفقها إلى محمود ومذموم؛ فالمحمود ما كان لتحصيل الحق أو دفع الظلم؛ والضابط، حسب ابن تيمية كما نقله عنه تلميذه ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين، هو "أن كل ما وجب بيانه، فالتعريض فيه حرام؛ لأنه كتمان وتدليس" (3/269)، ويستثنى ابن تيمية من ذلك إذا كان من أجل دفع الظلم: "احتج العلماء على جواز التعريض للمظلوم وهو أن يعني بكلامه ما يحتمله اللفظ وإن لم يفهمه المخاطب" (مجموع الفتاوى: 28/ 223). ومن الأمثلة التي تذكر في التعريض المحمود قصة إبراهيم عليه السلام مع المشركين عنما حطم آلهتهم وترك كبيرها لم يكسر [قالوا: آنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم، إن كانوا ينطقون]؛ فهو لم يكْذب إذ شرط فعل الكسر بالنطق وهو معنى خفي في التركيب لم يدركه المشركون؛ مثال أخر قصة سعيد بن جبير الذي قبضه الحجاج ليقله بسبب خروجه مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته على بني أمية، فسأله: ما تقول (عني)؟ قال ابن جبير: قاسط عادل. فقال الحاضرون ما أحسن ما قال! ظنوا أنه وصف الحجاج بالقسط والعدل؛ لكن الحجاج ببديهته أدرك المغزى من حيلة ابن جبير فقال: يا جهلة! سماني مشركاً ظالماً، ثم تلا الآية [وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا] والآية [ثم الذين كفروا بربهم يعدلون]. ومثال ثالث هو في المناورة الفعلية كالتي تستعمل في الحروب والسياقات السياسية؛ قال ابن القَيِّم: "والمعاريض كما تكون بالقول تكون بالفعل، وتكون بالقول والفعل معًا؛ مثال ذلك أن يُظْهِر المُحارب أنه يريد وجها من الوجوه ويسافر إليه ليحسب العدو أنه لا يريده، ثم يكرُّ عليه وهو آمنٌ من قصده، أو يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته، ثم يعطف عليه، وهذا من خداعات الحرب" (نفسه: 3/ 276). ومثلها في السياسات كثير ومتعدد. وأما المناورة المذمومة فمن الأمثلة المشهورة قصة بني إسرائيل في القرآن الكريم لما حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت، يأتون إلى النهر ويحفرون حفرا، بينها وبين النهر قناةٌ صغيرة تدخل منها بكثرة، فيأخذونها يوم الأحد مدعين كذبا أنهم لم يصطادوها يوم السبت؛ بينما هم اصطادوها يوم حفروا لها الحفر؛ فالمناورة هنا هي أنهم تحيلوا بشيء مباح وهو الحفر لتحليل ما حرم الله عليهم وهو الصيد يوم السبت. مثال آخر، قال صلى الله عليه وسلم "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها وجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه" (صحيح البخاري) أي يقولون إنما نأكل فاكهة ولحما حلالا. مثال آخر عند المسلمين كالذي له مال بلغ النصاب ففرقه على أولاده لكي لا يدفع الزكاة، فجاء في الحديث "ولا يُجمَع بين متفرق ولا يُفرَّق بين مجتمِع خشية الصدقة" (صحيح البخاري في باب الزكاة)؛ أورد البخاري في صحيحه أمثلة كثيرة في "كتاب الحيل" ردا على المسلمين الذين يتساهلون في الحيل المذمومة. والضابط للمناورة المذمومة عند الفقهاء هو "أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان المقصد مباحاً، فلا بد أن تكون الوسيلة إليه مباحة أيضاً". تكمن أهمية المناورة، إذن، في إخفاء الأهداف المرسومة بطريقة مراوغة أو مخادعة بإطلاق أقوال أو القيام بأعمال يقصد بها معاني أو غايات غير المعاني أو الغايات الظاهرة. السياسي أكثر إغراء في التواصل لاستعمال المناورة للانتصار على المعارض أو المنافس وتغريه للتلاعب بالعواطف والميولات لاستغفال الأخرين وخلق المعنى أو توجيهه أو التأثير على عقل المجني عليه وحمله على تصديق أكاذيبه وأفعاله المضللة. وهنا يجب التأكيد أخلاقيا أنه إذا كان مقبولا استعمال المناورة مع المعارض والعدو فإنه ليس منطقيا ولا مفيدا استعمالها إلى درجة التدليس وإخفاء الحقيقة في التواصل مع الجماهير الداخليين والشركاء؛ وذلك لأن السامع أو الملاحظ إن لم يدرك التورية حتى انكشفت الحقيقة، وهي لا بد أن تنكشف مهما طال الزمن، فسيصبح المناور غير مستبرئ لعرضه وشرفه؛ وبالتالي سيفقد مصداقيته وسيزعزع الثقة التي على أساسها بنيت العلاقة بينه وبين جماهيره، وسينظر دائما إلى الأقوال والأفعال بالريبة والشك. 2. 3. السر والشفافية تستند جودة التواصل السياسي إلى مبدأ من مبادئ الحكامة هو مبدأ الشفافية التي هي رهان مصداقية ممارس السياسة كمسؤول على تنظيم أو على دولة؛ وهي الانفتاح على جماهيره والمشاركين له في الأمر وتقديم معلومات مناسبة وكاملة لهم، والتزام الصراحة في التفسيرات الضرورية؛ كل ذلك ضروري للمحافظة على التعاقد الذي يجمعهم وعلى حقوقهم وضروري لتمكينهم من اتخاذ القرارات السليمة والمواقف المناسبة بالإيجاب أو السلب في علاقاتهم بشركائهم والمتفاعلين معهم. يتطلب منه هذا المبدأ أن يتجنب دائما وضع نفسه في مواقف تؤثر على حياده، أو تجعله يقع تحت تأثير الغير بما يفقده شخصيته ومصداقيته. لكن هذه الشفافية تحكمها ضوابط أخلاقية أخرى أهمها الاحتفاظ بالأسرار التي ليست الجماهير بالحاجة إليها ويضر الكشف عنها، عندما يعلمها الأعداء والمتربصون، بالمصلحة العامة وأمن ومصالح الآخرين. 2. 4. احترام سمعة الآخرين يحتل الحق في السمعة مكانة مهمة في سلسلة من الحقوق الديموقراطية. فلنتذكر أن السمعة مكون اجتماعي أساسي؛ فهي تعود إلى حق الأشخاص والجمهور والمنظمات والأحزاب في الحياة والحق في الحماية من الحملات التشهيرية سواء بالكذب أو بالاختراع أو بالخروج عن السياق أو بتمسيخ أحوالهم أو استعمال غير مناسب لصورهم، الخ. يقتضي احترام سمعتهم أن تكون المعلومات الموجهة إليهم حقيقية بشرط عدم الإضرار بهم وأن لا تؤدي إلى الاعتداء عليهم. 2. 5. الثقة المتبادلة الثقة هي الأساس في كل العلاقات البينية وفي العائلة وفي الدولة وفي الأحزاب والجمعيات وفي المؤسسات الكبيرة والصغيرة وفي العلاقات الدولية وفي الاتفاقيات وفي جميع المعاملات. الثقة قيمة متفق عليها؛ لكنها مفهوم غامض، لكثرة تداوله، ومعقد ومتعدد الأبعاد كذلك. من المنظور الأخلاقي والابستيمولوجي يغطي مفهوم الثقة في حياتنا العلائقية جوانب عديدة انفعالية ومعرفية وأخلاقية. وفي منظور نظريات الصراع الاجتماعي مفهوم الثقة هو مفهوم متقلب حسب المصالح؛ ورغم أنها تبدو مسلَّمة إلا أنها دائما مشكوك فيها، وأحيانا تكون عمياء، وقد تكون مشروطة، وأحيانا مختارة إما تعطى وإما ترفض. والمقصود بالثقة في واقع التواصل السياسي هو المقولات في الاتجاه المعاكس: يكذب ويخفي الحقيقة ويغالط ويناور ويخيب الانتظارات الموكلة إليه؛ أي إن الثقة في الحقيقة لا تأتي أبدا وحدها؛ فهي تعتمد على عدد من الجوانب السيمولوجية ك"الإيمان" و"الإخلاص" و"المصداقية". استنادا إلى هذه الجوانب العديدة يمكن تفسير ظاهرة الثقة والتحقق منها. تتعلق الثقة في النهاية بالنسبة لممارس السياسة والشأن العام بصفة عامة بقيم ضمان الشفافية وتلبية مطالب الجمهور وإرساء الكفاءات والاقناع وقوة التفكير؛ وتتعلق بالتصرف تجاه الآخر الذي نضع فيه ثقتنا ويضع فينا ثقته. بهذا المعنى تتولد الثقة من خلال شبكة العلاقات التفاعلية مع الجماهير والشركاء وعموم المواطنين أو المجتمع المحلي. والثقة السياسة على مستوى الدول هي اطمئنان الرأي العام إلى عمل الحكومة أو النظام السائد باتساق مع انتظاراتهم وتوقعاتهم؛ ويترتب عليها ارتفاع مستوى الوعي للتعاون والتكامل والاستقرار والتوافق حول القيم والأولويات، والامتثال للقوانين والمشاركة في التصويت والدفاع عن الاختيارات. وفي المقابل يفقد المواطنون الثقة في المؤسسات السياسية عندما تفشل الحكومة في تحقيق احتياجاتهم أو عندما يسيرها قادة لا يحضون بصدقية الخطاب والمواقف؛ هذا المستوى من عدم الثقة يعبَّر عنه في الدول النامية باللامبالاة ومقاطعة الانتخابات؛ والمستوى الثاني هو المستوى المنذر باحتجاجات عارمة ورفع شعار "الكرامة أولا" عندما تتأزم العلاقة تكون النخبة السياسية المهيمنة في حالة انفصال عن المواطنين إلى حد القطيعة بادعائها الاصطفاء السياسي ونفي الآخر أو الانقلاب عليه خصوصا إذا نال إعجاب الرأي العام من مؤيدين ومعارضين لسياسته؛ وهذا المستوى هو حالة عدد من الدول "النامية" التي استبدت بها إنظمتها، وسيعيشها المغرب عاجلا أو آجلا بناء على تقييم الرأي العام لما جرى بعد إعفاء رئيس الحكومة المعين بنكيران تقييما سلبيا وبعد تعزيز نفوذ شخصيات الأجهزة الأمنية والتكنوقراط في الحكومة الجديدة وإعلائها على الشخصيات المدنية؛ وبالتالي تفقد هذه الحكومة المشروعية السياسية بناء على قلق الرأي العام بشأن مسار الانتقال الديموقراطي. خلاصة ظهرت الحاجة الملحة إلى السؤال الأخلاقي في التواصل السياسي بفعل الفساد السياسي والسيطرة التقنية والبيروقراطية في المؤسسات السياسية على حساب العوامل الانسانية. وبالفعل، من الصعب إنكار أن العقلية التكنوقراطية خطيرة على المجتمع لأنها تنظر إلى المواطن كشيء وتجعل الروابط الاجتماعية وممارسة تدبيرها عبارة عن مجموعة من المساطر باسم الاستراتيجية، وإذا اهتمت بالبعد الأخلاقي تحيله إلى المستوى الثانوي؛ لذلك ظهرت الحاجة إلى الكفاءة الأخلاقية في الممارسة السياسية إلى جانب الكفاءة التقنية والبيروقراطية. إنها كفاءة قائمة، بالأساس، على حقوق الانسان واحترام كرامة الأفراد والجماعات والجماهير. * دكتوراه في العلاقات العامة