تئنُّ تحت وطأة آلام المخاض، ولا سبيل للتوجه صوب أقرب مركز صحي يبعد عن الدوار ب60 كيلومترا؛ فمنذ يومين والثلوج تتساقط بغزارة مُحيطة البيوت بهالة هادئة ومُخيفة من البياض، وأَغلَقَت الطرقات على ضيقها ووُعورة فِجاجِها، في انتظار رحمة تنزل من السماء. أشعة الشمس تتقدم على اسْتِحياء من وراء الجبل، تحُط على وجه شاب وتُرافقه مشيا على الأقدام، قاصدا منطقة تتوفر على شبكة الهاتف الجوال، واقعٌ كلَّفه المسيرَ مدة ناهزت خمس ساعات، قبل أن يستطيع الحديث: "ألو.. الكوبْتير!". الرحلة التي ستقطعها المروحية الطبية انطلاقا من مطار مراكش المنارة في اتجاه دوار "تاوريرت أنسي"، الواقع بالمنطقة الحدودية بين طاطا وورزازات، والبعيد عن هذه الأخيرة بأزيد من 190 كيلومترا، تُعدُّ واحدة من بين 50 تدخلا قامت بها المروحية عام 2016، بمجموع ساعات طيران ناهزت 155 ساعة. 45 دقيقة هي المدة التي ستقطعها المروحية المدنية ورُبّانُها العسكري، لتكون الشابة الحامل داخل مستشفى الأم والطفل التابع للمركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس بمراكش، ومن حسن حظ فاضْما أنَّ طلبَ زَوجِها مساعدة المروحية جاء في وَضَح النهار؛ ذلك أن الطائرات العمودية المدنية غير مسموح لها بالتنقل ليلا بالمغرب. خيوط الظلام "من غير الممكن أن تطير الهليكوبتر في ظروف جوية سيئة، كما يستحيل قيامُها بتدخلات ليلية بسبب غياب تراخيص من لدن المكتب الوطني للمطارات، ولأن الأجهزة الإلكترونية على متن الطائرة لن تُمكنها من التحليق في الظلام"، يوضح البروفسور هشام الشراط، الطبيب المسؤول عن مصلحة المساعدة الطبية الاستعجالية داخل "CHU" مراكش لجريدة هسبريس. وعليه، لا تتحرك المروحية الطبية إلا مع بزوغ الشمس، حتى لو توصلت بإخبارية مساء، فلا يمكن المخاطرة بحياة وسلامة الطاقم المكون من ربان الطائرة والفريق الطبي، إلا أن المحافظة على استقرار الحالة الصحية للمريض تكون أولوية، ويتم توجيه الطاقم الطبي المتواجد في عين المكان للعمل على استقرار الحالة إلى حين وصول المروحية، أو إسداء نصائح للساكنة وأقارب المريض للحيلولة دون تدهور الحالة. كُوة الأمل "استقبالُ المروحية الطبية التابعة لوزارة الصحة بطريقة تحمل الكثير من الامتنان وكلمات الشكر العميق تَصرُّف مشترك للساكنة وإنْ فرَّقتهم المناطق والدواوير، كما يَجمعُهم كذلك الفقر والهشاشة الاجتماعية والاقتصادية والاستقرار في مناطق وعرة ذات تضاريس صعبة"، يقول الرُّبان ابراهيم بلمداني، المنسق رفقة مصالح المستعجلات. تَضيق عيناه وتتركَّز نَظراته قبل أن يستطرد حاكيا لجريدة هسبريس الإلكترونية: "يُحمِّلوننا مطالب لإيصالها إلى المسؤولين، يقولون بالعامية العربية والأمازيغية: بْغينا الطريق والكهرباء والماء"، معلقا بكثير من الأسى: "جملة اخترقت مسامعنا مِرارا وأحْسَسنا بها عقب طيراننا فوق أماكن صعبة وفِجاج خطيرة، "نخبرهم أننا هنا لتقديم المساعدة ونقل المريض، ونعود أدراجنا وفي جُعبتنا مسؤولية تبليغ المسؤولين ما استطعنا إلى ذلك سبيلا"، يقول الربان بلمداني. ألوو.. "SAMU" 141، رقم خدمة غير مُعمَّم على جميع مناطق المغرب؛ ذلك أن مصلحة المساعدة الطبية المستعجلة، المعروفة اختصارا ب "SAMU"، لا تُغطي جميع مناطق المغرب، إلا أن رقم الخط الهاتفي المجاني المخصص لطلب مساعدة المروحية الطبية يستقبل ما بين 30 ألفا و40 ألف مكالمة كاذبة شهريا، تتوزع ما بين من يتصل من باب الاستكشاف والمُزاح والسب والقذف، وفي أحسن الأحوال التزام الصمت المُطبق. وهو الوضع الذي دفع الدكتور هشام الشراط، الطبيب المسؤول عن مصلحة المساعدة الطبية الاستعجالية داخل المركز الاستشفائي الجامعي بمراكش، إلى التحسُّر على عدد الساعات التي تضيع في استقبال مكالمات شاردة، على حساب نداءات إنقاذ مستعجلة، مبرزا أن رقما هاتفيا آخر موزعا على مسؤولين محليين يُمكِّن من التواصل مباشرة مع طبيب المداومة ومده بمعلومات موثوقة ودقيقة من أجل التحرك سريعا. وبما أن خدمة المساعدة الطبية الاستعجالية لا تتواجد إلا داخل نطاق 11 مدينة كبرى بالمغرب، هي الرباط والدار البيضاء ووجدة وطنجة وفاس ومكناس ومراكش وأكادير وآسفي والعيون والداخلة، بمُحصِّلة 4 مروحيات طبية وعشرات سيارات الإسعاف المجهزة، يبقى 141 مشتغلا ضمن المناطق التي توفر الخدمة في انتظار تعميمها على مستوى المدن الصغرى كذلك. عملية إنقاذ لا يستقيم عمل المروحية الطبية ذات المليون يورو، والتي تعود مِلكيتها إلى شركة "هيليكونيا" المغرب، في حين تستغلها وزارة الصحة بموجِب عقد كراء بِمبلغ 5 ملايين درهم سنويا، فضلا عن مبلغ إضافي يجعلها رهن إشارة الوزارة 24 ساعة على 24 ساعة، دون طاقم طبي تبدأ أولى مهامه انطلاقا من مكان سُكنى المريض في المناطق النائية، عبر تقديم الإسعافات الأولية تمهيدا لنقله صوب المستشفى. يحرص الفريق المُكون من طبيب مستعجلات ومُمَرضيْن اثنين على محاولة تشخيص ما يعاني منه المريض قبل أن تتوجه المروحية صوب إحدى المستشفيات الخمسة التابعة للمركز الجامعي بمراكش، قادما إليه على متن سيارة إسعاف تابعة للمساعدة الطبية الاستعجالية، فلا يزال "CHU" مراكش دون مهبط مروحيات، ليلجأ ربان المروحية إلى جنبات الملعب الكبير لمراكش باعتباره أقرب نقطة للمستشفى الجامعي. إلا أن المسؤولين عن المصلحة يؤكدون أن العام الجاري سيشهد انطلاقة أشغال بناء مهبط للطائرات العمودية معزز بمبنى جديد على مستوى المركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس؛ حيث ستتمكن المروحية الطبية، التي تغطي مساحة قطرها 250 كيلومترا مركزها مراكش، من الهبوط على بعد خطوات قليلة من المستشفى عام 2020. طاقم طبي.. ولكن لا يجد طبيب المستعجلات المشتغل في مصلحة المساعدة الطبية المستعجلة عماد سوسو كلمات لوصف ما أسماه "الفرح الكبير الذي يَعْتري المواطنين عند استِشعارهم بقدوم المروحية الطبية وهبوطها بين بيوتهم البسيطة؛ ذلك أنهم يخرجون جميعا لاستقبال فريق الإنقاذ، ولمشاهدة هذه الآلة العجيبة التي يلمحونها عن قرب لأول مرة في حياتهم". "ولأن المروحية الطبية لا تستطيع الطيران ليلا، يحدث أن نصل قُبيل غروب الشمس ونقضي ليلتنا إلى جانب المريض نَرْعاه ونهتم به إلى أن يَمُدَّ الفجر خُيوطه الأولى، وخلال هذه المدة يزورنا كل ذي عِلة طالبا التشخيص ووصف الدواء وهو ما نقوم به فعلا، وتكفينا: الله يرحم الوالدين التي تصدر من قلوب الساكنة قبل أن تنطقها ألسنتهم"، يقول الطبيب سوسو. ولا ينفي طبيب المستعجلات الخدمات القيمة التي تقدمها مصلحة المساعدة الطبية الاستعجالية بالمركز الاستشفائي الجامعي بمراكش، سواء منها الأرضية أو الجوية، وهي الخدمة التي تَفتَقر إلى تكوين مستمر تحظى به الطواقم الطبية المشتغلة على متنها، نقطة شاطره فيها البروفسور الشراط الرأي مؤكدا أن "التدريبات شرط مهم لضمان استِمرارية الخدمة وتطويرها". "الاستمرارية في تأدية هذا العمل الذي تحيط به المخاطر تتطلب كذلك توفير تحفيزات وتعويضات مادية وتقدير معنوي للتَّضحيات المقدمة"، وفق الطبيب سوسو، مُعرِّجا على "نقيصة غياب التأمين على حياة وسلامة الطاقم الطبي، والفراغ الكبير على المستوى القانوني المؤطر لعمل SAMU علاقة بالمريض والأطر الطبية". مروحية ومهام المروحية الطبية التابعة لشركة "هيليكونيا" المغرب، الفاعل الوحيد في مجال الخدمات المقدمة عبر الطائرة العمودية بالمملكة، والتي كانت شراكة بينها وبين وزارة الصحة نتاج انطلاقة أول خدمة للمستعجلات الطبية الجوية بالمغرب عام 2013، استجابة لحاجيات المساعدة الطبية الاستعجالية في المناطق التي يصعب الولوج إليها، لا تقتصر مهامها على نقل المرضى للاستشفاء، بل تتعداها إلى نقل شحنات من الأدوية إلى جانب فرق طبية في اتجاه مناطق نائية من المغرب العميق، فضلا عن نقل أعضاء بشرية مخصصة للزرع والأبحاث الطبية من مستشفى إلى آخر. أسطول شركة "هيليكونيا" يبلغ 14 مروحية، غير مسخرة فقط للخدمات الطبية، بل تقوم بعضها بتقديم خدمات سياحية لفائدة أثرياء العالم وكبار السياسيين والفنانين العالميين ممن يزورون المغرب ويرغبون في استكشاف جباله وصحرائه، فضلا عن أخرى مخصصة للتنقيب عن الغاز والبترول، وأخرى تشارك في "الرالِيَّات" الدولية، وفق كريم القدوري، مدير العمليات بشركة "هيليكونيا". وتتوفر الشركة، الوحيدة من نوعها بالمغرب والتي تأسست عام 2008، على 12 ربانا، ليس فقط قيادة الطائرة العمودية ما يجمعهم، بل هناك نقاط أخرى مشتركة بينهم؛ فلا بديل لربان ذي تكوين عسكري قضى سنوات طويلة من عمره داخل صفوف القوات المسلحة الملكية أو الدرك الملكي، عقب تقاعده، من العمل كمدني بهذه الطائرات. اختيار الربابنة العسكريين ليس خيارا، لكن غياب مراكز التكوين في هذا المجال بالمغرب جعل من المستحيل توافر طيارين أكفاء يتوفرون على تجربة 2000 إلى 3000 ساعة طيران بالطائرة العمودية؛ ذلك أن ربابنة "هيليكونيا" المعتمدين يتوفرون حاليا على 5000 ساعة طيران في المتوسط. مشاهير وعقبات إلا أن هذا النجاح الذي تعيش على وقعه "هيليكونيا" المغرب كاد أن ينسفه قرار مفاجئ، قبل سنة من الآن، يقضي بمنع هبوط المروحيات المدنية بعيدا عن مطارات المملكة لدواع أمنية، ما حذا بمدير العمليات داخل الشركة إلى التأكيد على أن كبرى المشاكل التي تتخبط فيها الشركة هي الحصول على التصريحات الأمنية التي تتطلب وقتا طويلا لا يتحمله الزبناء من الشخصيات الكبيرة، كملكة بلجيكا ولاعبي فريق ريال مدريد. "القرار خلف خسارة كبرى تجاوزت 500 مليون سنتيم في ظرف سنة، ما كان يهدد باختفاء الشركة من الأراضي المغربية، فالسلطات تسمح بنزول المروحيات من مطار إلى مطار، ما يفقد المروحية إمكانية أن تحط في المكان الذي يراد الذهاب إليه ويشكل مضيعة للوقت"، يختم كريم القدوري كلامه. خدمات في عام 2016، سجلت مصالح المساعدة الطبية الاستعجالية بالمغرب 168 تدخلا لجلب مرضى من مناطق معزولة ونائية بكل أنحاء المملكة، بمجموع ساعات طيران بلغت 527 ساعة، كان نصيب المروحية الطبية التابعة للمركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس بمراكش 50 تدخلا استغرقت 154 ساعة و45 دقيقة، إحداها جلبت الشابة فاظما التي وضعت مولودا ذكرا يتمتع بصحة جيدة، قبل أن تحلق الطائرة مجددا مُصدرة صوتا هادرا يعلن توجُّهها، من جديد، صوب دواوير قصية بمناطق نائية وفقيرة ومهمشة.