في كل سنة ونحن نستعد للاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف تبدأ اعتراضات بعض السادة الذين لا يرون جواز هذا الاحتفال، وخلاصة أدلتهم أنه لم يكن في عهد النبي ﷺ، ولا في عهد سلفنا الصالح، الذين يعتبرون أفضل من اتبع سنته وساروا على هديه، وما إلى ذلك مما ينقل بعضهم عن بعض، ويرونه حججا قاطعة، وبراهين ساطعة. لهذا أردت أن أدلي ببعض ما حضرني في هذا الباب، راجيا المولى عز وجل أن يهديني سواء السبيل، وأن يجري الحكمة على قلبي وقلمي ولساني، فأقول وبالله التوفيق: للمسلمين عيدان دينيان فيهما صلاة مخصوصة وشعائر مخصوصة شرعها رسول الله ﷺ، أما غيرهما وإن أطلقنا عليه لفظ "عيد" فمن أجل العَوْدِ والتكرار في مستقبل الأيام، لا لأنه فيه عبادة مخصوصة، وشعيرة مخصوصة، شرعها الناس لأنفسهم من دون الله، وإنما هي اجتماع الناس للأكل والشرب والإنشاد، مما هو من عادات الناس في الأفراح، وليس من المبتدعات في الدين. قال النبي ﷺ لأبي بكر عن الجاريتين اللتين تغنيان: (دعهما يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدا، وإن عيدنا هذا اليوم) وهو في الصحيحين، وهذا اللفظ ظاهره الحصر في عيد واحد، وليس كذلك كما هو معلوم. وفي رواية أخرى (دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد). وجاء في صحيح البخاري أن أبا عبيد مولى أزهر قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان، فكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: (يا أيها الناس، إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له)، وهنا يراد بهما الجمعة والعيد. وجاء في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: أي آية؟ قال: [اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا]، قال عمر: (قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي ﷺ، وهو قائم بعرفة يوم جمعة)، والكل يعلم أنهما عيدان عند المسلمين، كما يعرف الجميع، فقد جاء في رواية المعجم الأوسط للطبراني (إِنِّي لَأَعْرِفُ فِي أَيِّ يَوْمٍ أُنْزِلَتْ: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]، يَوْمَ جُمُعَةٍ، يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهُمَا لَنَا عِيدَانِ). من هنا تستخلص أن الشارع لم يطلق لفظ "العيد" على يومي الفطر والأضحى فقط، بل زاد فأطلقها على الجمعة، ويوم عرفة؛ لهذا لا ينبغي التشدد إذا استعمل أحدنا لفظ العيد على غير العيدين، كذكرى المولد النبوي، فذلك ليس فيه محظور شرعي من حيث اللفظُ، لعدم تخصيص ذلك اليوم بعبادة خاصة كما في العيدين، وإنما هو الاستعمال اللغوي ليوم ذي بال، كما قال الله تعالى: [قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ] [الْمَائِدَة:114]. عرّف ابن حجر البدعة تعريفا سديدا فقال: "كل ما أحدث وليس له أصل في الدين"، وخرّج استحباب الاحتفال بذكرى المولد النبوي تخريجا على صيام يوم عاشوراء فرحا بتنجية الله تعالى لنبيه موسى؛ وهذا متسق مع حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فهو يدل بمفهومه على أنه من أحدث في أمرنا هذا ما هو منه –أي مستمد منه بالنص أو بالاستنباط -فليس بِرَدٍّ. لفظ "كل" في حديث (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)، وإن كان لفظا من ألفاظ العموم إلا أن هذا العموم مخصوص بالبدعة التي ليس لها أصل في الدين، وإلا فلا يسمى بدعة، وهذا ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم ابتدعوا أمورا حسنة في حياة النبي ﷺ وبعد مماته. أما في حياته فالصلاة بتكرار سورة الإخلاص، والزيادة في ألفاظ الرفع من الركوع، وتعليم معاذ كيفية إتمام الصلاة كما في المسند، وصلاة ركعتين قبل الإعدام كما فعل خبيب بن عدي، ودعاء الرجل الذي قال: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم). فقال رسول الله ﷺ: (أتدرون بما دعا؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى)، وغيرها كثير. يقول القائل: هذا وقع في عهده ﷺ، ويدخل في السنة التقريرية، فالنبي ﷺ أقرهم على ذلك، قلنا: الجواب على ما قلتم من شقين: الأول: أنه أقرهم على ما اتسق مع الأصول ودخل في العموميات، وأنكر ما خالف وعارض الأصول: أنكر على بعض الصحابة عزمهم على فعل ما لا يرضاه كالصوم الدائم، والقيام الدائم، والتبتل الدائم، وأنكر على أبي إسرائيل وقوفه تحت الشمس، وأنكر على عثمان بن مظعون تبتله، ونهى عن صيام الوصال؛ وذلك لأن كل ما ذكرنا يتنافى مع سنته الشريفة والفطرة السليمة والعادات القويمة. الثاني: أن الصحابة قد ابتدعوا أمورا بعد موته لا لشيء سوى لأنهم لم يفهموا أن البدعة هي كل محدثة كيف ما كانت، ولو كانت محمودة، فقد أحدث أبو بكر رضي الله عنه جمع القرآن الكريم في مصحف، ورفع عدد من الصحابة أصواتهم بالتكبير في أيام عيد الأضحى، وقنت عمر في الصبح بقوله: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونؤمن بك ونثني عليك الخير، ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي، ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق"، كما عند ابن أبي شيبة وعبد الرزاق. وقنت بذلك ابن مسعود وأبي بن كعب، وزاد عمر في التلبية فقال: "لبيك مرغوبا أو مرهوبا، لبيك ذا النعماء، والفضل الحسن"، عند ابن أبي شيبة. وابنه عبد الله كان يقول: "لبيك والرغباء إليك والعمل، لبيك وسعديك"، والحديث في مسلم وأحمد. وأنس كان يقول: "لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا". وزيادة عثمان للأذان الأول في الجمعة، وكان يقول رضي الله عنه عند قد قامت الصلاة: "مرحبا بالقائلين عدلا، وبالصلاة مرحبا وأهلا"، كما في ابن أبي شيبة. وزاد ابن عمر في التشهد: "وبركاته" و"وحده لا شريك له". وابتدع الصحابة تلاوة سورة العصر عند الافتراق، كما عند الطبراني. وخص ابن مسعود يوم الخميس للموعظة، كما في البخاري. وأبو الدرداء سن تلاوة القرآن في جماعة... فهل نطلق على هؤلاء الصحابة أنهم مبتدعة، أم نتعلم منهم. روى مسلم عن جرير بن عبد الله عن النبي ﷺ قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)، وهذا الحديث دلالته واضحة على ما نحن بصدده، ولا يمكن أن نحصر عبارة "السنة الحسنة" في أمور المنفعة العامة كما يدعي البعض، من أجل سبب الورود الذي لا يفيد التخصيص لا من قريب ولا من بعيد. وحديث معاذ الذي في المسند وأبي داود وغيرهما يفيد بأن السنة الحسنة في هذا الحديث هنا يراد بها كل محدثة حسنة من غير تخصيص في مجال، جاء فيه: قال ابن أبي ليلى: "قال: وكانوا يأتون الصلاة، وقد سبقهم ببعضها النبي ﷺ قال: فكان الرجل يشير إلى الرجل إذا جاء كم صلى؟ فيقول: واحدة أو اثنتين فيصليها، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها، ثم قضيت ما سبقني. قال: فجاء وقد سبقه النبي ﷺ ببعضها قال: فثبت معه، فلما قضى رسول الله ﷺ صلاته قام فقضى فقال رسول الله ﷺ: (إنه قد سنَّ لكم معاذ فهكذا فاصنعوا)، وإن كان ابن أبي ليلى لم يدرك معاذا فيكون منقطعا، إلا أنه روي عند ابن أبي شيبة وابن خزيمة من طريق عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد عن معاذ. فلنلاحظ قول النبي ﷺ: "إنه قد سنَّ لكم" هو أمر متعلق بالصلاة؛ أي بالعبادة لا بالمنفعة العامة، وجاء فيما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله ﷺفذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: (أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك). وقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين). فانظر إلى قوله ﷺ: (قد أصبت السنة)، فالرجل لم يحفظ السنة من النبي ﷺ وإنما اجتهد فأصابها؛ ولهذا يكون قول النبي ﷺ (من سن في الإسلام سنة حسنة) يفيد العموم من جهة السانّ ومن جهة المسنون في كلما فيه خير ومصلحة عامة لم تعارض الأصول والكليات، ولا يستثنى منها إلا ما ألغاه الشارع، وما لم يوافق الأصول أو لم يكن مستمدا منها. قال النووي رحمه الله في شرحه على مسلم: "وفي هذا الحديث تخصيص قوله ﷺ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة وقد سبق بيان هذا في كتاب صلاة الجمعة وذكرنا هناك أن البدع خمسة أقسام واجبة". ما نهانا عنه النبي هو المحرم، أما ما سكت عنه النبي فيعرض على الأدلة حتى يثبت له حكم شرعي إن بالوجوب كجمع القرآن، أو بالاستحباب كالأذان الأول للجمعة، أو الإباحة كالصلاة بالإخلاص أو غيرها، أو الكراهة كصيام الوصال، أو التحريم كالاختصاء، وهذا قول أبي العباس النفراوي في الفواكه النفراوي في الفواكه الدواني، والعز بن عبد السلام في قواعده، والقرافي في فروقه، والنووي في شرح مسلم وغيرهم. من عمّق نظره في أمر البدعة سيجدها أنها لا تكون إلا في العقائد والعبادات المحضة، فالمبتدعة في وقت سلفنا الصالح كانوا إما يقولون بخلق القرآن أو بالقدر أو بالجبر أو الاكتفاء بالإيمان القلبي كالجهمية، أو الاكتفاء بالقول باللسان كالكرامية وهكذا. فكل من سألته عن الفِرَق المبتدعة، ذكر لك هذه الفرق وغيرها؛ وما عدا ذلك، يعتبر ذكرهم للفظ البدعة حول بعض المسائل من باب الوصف بحدوث ذلك الشيء الذي لم يكن من قبل، لا من باب الحكم الشرعي. تكرار البعض أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي من ابتداع الفاطميين، هو حكاية عن جهة واحدة من الدول الإسلامية. أما في المغرب، فقد وضع أبو العباس العزفي أحمد بن القاضي اللخمي كتاب "الدر المنظم في مولد النبي المعظم" عندما وجد المسلمين يعظمون أعياد النصارى النيروز والمهرجان في سبتة ويحتفلون معهم، فخاف من انجرار المسلمين إلى المسيحية، فبدأ يطوف على الكتاتيب ويوضح أمر هذا الاحتفال للأطفال، حتى جاء ابنه أبو قاسم العزَفي وأصبح واليا على سبتة واستمر في الاحتفال بالمولد. يحكي ابن عذاري في "البيان المغرب" عنه: "ومن مآثره العظام، قيامه بمولد النبي عليه السلام من هذا العام، فيطعم فيه أهل بلده ألوان الطعام، ويؤثر أولادهم ليلة يوم المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان إليهم والإنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت يمشون في الأزقة يصلون على النبي عليه السلام، وفي طول اليوم المذكور يسمِّع المسمعون لجميع أهل البلد مدح النبي عليه السلام، بالفرح والسرور والإطعام للخاص والعام، جار ذلك على الدوام في كل عام من الأعوام". وعندما جاء السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني، جعل ذكرى المولد النبوي عيدا رسمي. القول بأن الاحتفال ينبغي أن يكون كل يوم بالصلاة عليه واتباع سنته، هذا كلام لا يقنع حتى القائلين به؛ لأن القائلين بالجواز منهم من لا يفتر عن القيام والصيام، ومنهم من يلتزم ما استطاع باتباع السنة في حياته الخاصة، فلا ينبغي أن يظن المسلم بنفسه خيرا، ويظن بالناس غير ذلك. يمكنكم ملاحظة تعريف الإمام الشاطبي بقوله في الاعتصام عن البدعة بأنها: "طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَة، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ". لاحظوا كلمة "يقصد" أنها ترجع إلى النية القلبية، وهذا لا يعلمه الا الله، فلا يجوز التنقيب عن النوايا، ثم إن الاحتفال ليس طريقة مخترعة في الدين إنما هو الفرح والإعلان به ولم يدّع أحد أنها عبادة. ولحظ قوله "تظاهي" كلمات تحتاج إلى تأمل، وليس في إجازتنا للاحتفال بذكراه ﷺ قصدٌ لما ذكر الشاطبي على الإطلاق. قول المخالف بأن قول عمر "نعمة البدعة هذه" هو من باب البدعة اللغوية لا غير، أريدَ به التهرب من إلزاماتها بجواز الابتداع الحسن، ونحن نقول: إننا بقولنا عيد المولد النبوي، نقصد ب "العيد" معناه اللغوي كذلك، لأننا يقينا لا نحدث صلاة مخصوصة أو شعيرة مخصوصة كما في العيدين الشرعيين، وإنما الفرح والسرور وتذكير الناس بالسيرة النبوية. ركزت على فعل الصحابة رضوان الله عليهم وما أحدثوه في عهد النبي ﷺ وبعده، لأنه هو التطبيق العملي لمعنى الأحاديث التي تتحدث عن المحدثات، فما داموا لم يفهموا أن حديث "كل محدثة بدعة" يفيد الاستغراق لجميع الأفراد، وذلك بإحداثهم لعدد من الأشياء التي استحسنوها، يكونون بذلك قد علّمونا الفهم الصحيح لحديث (كل محدثة بدعة) بأن المحدثة المردودة هنا هي ما كانت مذمومة؛ أي ما ليس لها أصل في الدين، وإلا فلا. قال القرطبي في تفسيره: "كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أو لا، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وخص رسوله عليه، فهي في حيز المدح"، انتهى. وقال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحِكم في تعريفه للبدعة: "ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعا". قال ابن حجر في الفتح:" المراد بقوله كل بدعة ضلالة ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام". أرجو إعادة النظر في تعريف البدعة، وإعادة النظر فيما يقِفُ به المانعون في وجه عادات الناس وأعرافهم التي لا تتعارض مع الشرع الحنيف، ثم إنه مهما يكن قولكم صحيحا فإنه في بعض المجتمعات التي اعتادت ذلك، يؤدي قولهم إلى الفتنة والفرقة والخلاف، وهذا يقتضي أن الإبقاء على وحدتهم وهي فرض، خير من الخروج إليهم برأي وإن كان صوابا يخلق بلبلة بين صفوفهم، وإنما ننهى عن المنكرات التي قد تقع في احتفالاتهم واجتماعاتهم. يقول بعض الناس إن اليوم الذي ولد فيه رسول الله، هو اليوم الذي توفي فيه فلماذا تحتفلون فيه دون صومه أو إظهار الحزن فيه، قلنا لأن الله أمرنا بالفرح عموما بهذا الدين وبسيدنا محمد على وجه الخصوص، فقال تعالى [قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا]، ونهانا عن إقامة المآتم والمنائح؛ ففرحنا بميلاد سيد البشر الذي بعثه الله إلينا لهدايتنا وإخراجنا من الظلمات إلى النور، كشكرٍ على أعظم نعمة أنعم الله بها علينا، والشكر يكون بالقول والفعل، وتركنا ما نهانا عنه تعالى من البكاء والنياحة. كل بلد له علماؤه، ومحققو مناطاته، فلا ينبغى تناقل الفتاوى في هذا الباب بين الأمصار. نحن في الغرب أبناؤنا يخرجون في أعياد النصارى ويحتفلون معهم، ألا نعوضهم بذكرى المولد النبوي ونستغل هذه الفرصة للتعريف بسيرة سيد البشر وسنته ورسالته وأخلاقه. قول الخطباء على المنبر "وارْضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي" كان تثبيتا من الخلفاء عقب خروج الدولة العبيدية لتثبيت عقيدة العوام في الشيخين أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم وأرضاهم جميعا، فاستمر الناس عليها وذلك منذ القرن الرابع الهجري. قول الخطباء على المنابر: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"، جاء ذلك في عهد عمر بن عبد العزيز التابعي الجليل عندما كانوا يسبون عليا على المنابر، فسن هذه السنة وأمر بالعدل في الأقوال، وعد سب علِيٍ بن أبي طالب من الفحشاء والمنكر والبغي. لا ننسَ أن النبي ﷺ كان يفرح بيوم مولده كل يوم اثنين، فكان يصومه، وعندما سئل عنه ﷺ، قال: (ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت -أو أنزل عليّ فيه). فميلاده ليس كميلاد يوم أحدنا، إنه ميلاد الهدى ودين الحق. روى البخاري عن عروة قال: "وثُوَيْبَةُ مولاة أبي لهب: كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي ﷺ، فلما مات أبو لهب أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ (أي بشر حال)، قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ). قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "ذكر السهيلي أنّ العباس قال: لما مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول، في شرّ حال، فقال: ما لقيت بعدكم راحة، إلاّ أنّ العذاب يخفّف عني كل يوم اثنين، قال: وذلك أنّ النبيّ ولد يوم الاثنين، وكانت ثويبة بشرت (أبا لهب) بمولده فأعتقها، وأشار إلى النّقرة التي تحت إبهامه وفي ذلك إشارة إلى حقارة ما سقي من الماء". وإن كان عروة لم يلق ثويبة، وهذا منام لا حجة شرعية فيه، إلا أن التخفيف عنه استفدناه بما هو متفق عليه من التخفيف على أبي طالب لنصرته النبي ﷺ، وأبي لهب لعتقه لثويبة. نعلم أن هذا الأثر ليس فيه حجة، ولكننا نستفيد منه -مع حديث صومه عليه الصلاة والسلام ليوم الاثنين -شيئا مهِمَّا، وهو أن يوم ميلاد النبي ﷺ ليس كيوم ولادة أحد من الناس، فيكون إظهار محبته طول السنة باتباعه والصلاة وعليه وتوقيره وحفظ مقامه بطاعته، ثم تتويج ذلك بإظهار الفرحة والسرور في اليوم الذي يوافق يوم ميلاده ﷺ= غاية في الشكر والحمد والمدح والاقرار والاعتراف. إذن هذه المحدثات التي أحدثها أهل العلم ولم تكن في عهد سلفنا الصالح، لم تكن لغير غاية أو مقصد، أو اتباعا للهوى والشهوات، فإن العلماء والخلفاء اجتهدوا باعتبار وقائع ونوازل كانت تحتاج إلى اجتهاد ملائم، حفظا لدينهم وأمنهم واستقرارهم، فإن علمنا أن أبناءنا يُختطفون منا يوما بعد يوم، ألا نستغل هذه الفرصة وكل فرصة لتعريفهم بالنبي ﷺ الذي اشتغلوا عنه وعن سنته وهجروا طاعته؟ *باحث في الفكر الإسلامي