منازل متهالكة ومتناثرة هنا وهناك، وأزقة مقفرة، بقرية دخلت طي النسيان، واستسلمت لقدر التهميش، وخرجت من دائرة الضوء، بعد أن كانت أكثر المناطق إثارة للجدل في المملكة، بعدما هجرها "سكان" من نوع خاص، وصارت "قرية أشباح". "بويا عمر" اسم أشهر من نار على علم في بلاد لازال عدد من ساكنيها يؤمنون بالخرافة.. قرية صغيرة تابعة للعطاوية بإقليم قلعة السراغنة، شهرتها تجاوزت المنطقة لتعم مختلف المناطق، كمكان ميزته "اللامعقول والخروج عن المنطق".. في "بويا عمر" تتحد القرية والولي الصالح. الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا، يوم الخميس، موعد السوق الأسبوعي بمدينة العطاوية. ضجيج هنا وهناك، لم ينجح لا صيام الناس في رمضان، ولا درجة الحرارة المرتفعة في التقليل من حدته. على بعد عشرة كيلومترات تقع قرية بويا عمر، التي تتشكل أغلب بناياتها من دور الصفيح، وفقر ظاهر لا تخطئه العين. قبل أزيد من سنة، نطق وزير الصحة، الحسين الوردي، بجملته الشهيرة داخل قبة البرلمان قائلا: "يا أنا يا بويا عمر"، كتعبير عن إصراره على إخلاء المنازل المحيطة بالضريح من المرضى، الذين كانت تعيش أغلبيتهم الساحقة في جحيم السلاسل والأغلال. هكذا تحولت القرية إلى منطقة شبه خالية، بعدما هجرها "زوارها" من المرضى العقليين والنفسيين وعدد من الذين كانوا يقتاتون من معاناتهم. طوت عائلات هؤلاء المرضى تلك الصفحة إلى الأبد، ذلك أن المرء، وبعد زيارة قصيرة إلى المكان، يدرك ألا شيء هنا يمت لما كان بصلة، وأنه لم يعد يزور المنطقة سوى عدد قليل من ساكنتها، فيما تبرز معالم النكوص في المحيط الأشبه بقفر. شبح الضريح تستحضر عدد من ساكنة بويا عمر، التي قدر أحد رجال السلطة في المنطقة عددها ب 2000 نسمة، ما تبقى من الضريح المهجور بكثير من الحنين، فلا رواج في قريتهم ولا زائرين لها، إلى درجة لا يمكن للغريب أن يتخفى معها أو يتوارى عن الأنظار، فالزائر يشار إليه بالبنان بعد ما اعتبرته وزارة الصحة "تحريرا" للمرضى النفسيين والعقليين الذين "سكنوا المكان". وما إن يحط المرء قدميه في "بويا عمر" حتى يتوجه إليه الناس بنظرات تخفي الكثير من المعاناة، في قلب بادية من بوادي "المغرب العميق"، لم تتمكن لا الدولة ولا الحكومات المتعاقبة في إيجاد حل لمشاكلها، سواء تعلق الأمر بالصحة أو التعليم أو غيرها من المجالات التي لطالما كانت وراء هجرة ساكنة القرى إلى المدن ودور الصفيح.. ظلت وصمة "بلاد المجانين" تضفي عليها هالة من الغموض والتنذر. ارتباط المنطقة بماضي استضافتها للمرضى العقليين جعل أبرز طموحات سكانها لا تخرج عن هذا السياق، إذ يطالبون ببناء مستشفى للأمراض العقلية، يكون بمثابة قبلة لمختلف المختلين عقليا قصد العلاج، في وقت لازال عدد كبير من هؤلاء السكان يقطنون في بيوت طينية آيلة للسقوط. تشير المعطيات التي استقتها هسبريس من خلال زيارة "بويا عمر" إلى أن العدد الإجمالي للأشخاص الذين كانوا يستضيفون المرضى في المنازل المحيطة بالضريح يبلغ 54 مضيفا، رحل 44 منهم، اتخذوا من مسألة استضافة النزلاء "حرفة" جعلوها مصدر عيشهم، في حين اختار العشرة الباقون الاستقرار في القرية، إما لأنهم في الأصل أبناء المنطقة، أو لأنهم تزوجوا هناك. من أبرز معالم التراجع الحاد الذي عرفته القرية، إغلاق عدد من المحلات التجارية في أعقاب عملية "الكرامة"، بالإضافة إلى إقفال عدد من المقاهي التي كانت تعمل في "بويا عمر" مع رواج حركة الوافدين. فبعدما كان عدد هذه المقاهي يصل إلى خمسة، تشتغل كلها على مدار الساعة، مازالت واحدة فقط منها تشتغل، وأرباحها منخفضة للغاية، حسب ما صرح به القائمون عليها لهسبريس. "محنة بويا عمر" لم تقف عند هذا الحد، بل إن الموسم السنوي الذي كان ينظم بالتزامن مع عيد المولد النبوي لم ينظم هذه السنة؛ فهل انحسرت "بركة" الولي بعدما هجره "مريدوه" ممن جارت عليهم الأيام وخانهم توازنهم النفسي والعقلي، ليجدوا أنفسهم "محتجزين" في جنبات ضريحه، بعدما ضاقت بهم منازل عائلاتهم ومستشفيات المملكة؟. تغيرت أمور كثيرة في قرية بويا عمر، على مستوى الرواج الاقتصادي بوجه خاص، إذ لم يتردد عدد من سائقي سيارات الأجرة، الذين التقتهم هسبريس، في التعبير عن استيائهم من الوضع الذي آلت إليه الأمور، خاصة أنهم كانوا يستفيدون من الفترة التي كانت فيها المنطقة محجا ومزارا لعدد من عائلات نزلاء البيوت المحيطة بالضريح. وعلى غرار عدد من أبناء المنطقة الذين كانوا يستقبلون المرضى، يرفض سائقو سيارات الأجرة ذكرهم بالاسم، ونقل تصريحات صحافية عنهم، في حين يقول أحدهم إن هذه المهنة تضررت بشكل كبير بفعل تحول المنطقة إلى "مكان للأشباح"، وإفراغها من القادمين من مناطق أخرى، إذ قلت تحركاتهم، خاصة بين العطاوية وبويا عمر، وأصبح يقتصر الرواج على يوم الخميس فقط، نظرا لتزامنه مع السوق الأسبوع، الذي يعد أكبر الأسواق في المنطقة. يسير الفاعل الجمعوي في المنطقة عبد الغني الحجامي في الاتجاه ذاته بتأكيده أن أضرار إفراغ ضريح بويا عمر تجاوزت من كانت لهم علاقة مباشرة بالنزلاء، إذ تأثر الجميع، من أصحاب المحلات التجارية إلى سائقي سيارات الأجرة وأصحاب المقاهي، وغيرها من الأنشطة الاقتصادية التي انهارت بعد إقرار عملية "الكرامة". وصمة عار ورغم هذه الأضرار، فإن عبد الغني الحجامي لم يتردد في وسم الوضعية السابقة لقرية بويا عمر ب"وصمة العار" في جبين كل ساكنة المنطقة، خاصة مع التعامل القاسي الذي كان يلاقيه عدد من نزلاء الدور المجاورة للضريح، ما أكسب المنطقة سمعة سيئة في المغرب، بوصفها "أكبر مكان للمختلين عقليا". وفيما شكك في الرقم الذي قدم رسميا، والذي حدد عدد النزلاء السابقين في أكثر من 800 بقليل، قدر الحجامي هذا العدد بأكثر من ألف شخص، نظرا لما كانت تعرفه المنطقة من رواج اقتصادي خلال توافد العائلات، كما شدد على أن مجموعة من هؤلاء النزلاء لم يكونوا مرضى، بل ارتبط وجودهم هناك بمشاكل عائلية أو تصفية حسابات، موردا في هذا السياق قصة قاض اختارت زوجته التخلص منه قبل سنوات، من خلال إيداعه "بويا عمر"، بعد دفع أجرة للمضيفين.. وكان كافيا دفع الأجرة لكي يأتوا به من البيت إلى أحد البيوت القريبة من الضريح. صورة وردية ورغم الانتقادات التي توجه لمستشفيات المملكة، واتهامها بالفشل في تدبير النزلاء السابقين لبويا عمر على الخصوص، يرسم عبد الرحمان معروفي، مدير مديرية علم الأوبئة ومحاربة الأمراض، صورة جيدة عن ظروف استضافة المرضى بالمستشفيات المغربية، مؤكدا أن هذه الأخيرة نجحت في استضافة النزلاء السابقين لبويا عمر، والتكفل بهم من الناحية الطبية والاجتماعية. ويؤكد معروفي، في تصريح لهسبريس، أن كل المستشفيات والمصالح المندمجة للطب النفسي بالمغرب ساهمت في استضافة هؤلاء المرضى، وذلك تبعا لمبدأ قرب المركز الاستشفائي من محل سكناهم، فيما يتم إيواء الأشخاص المصابين بأمراض نفسية داخل مصالح وأجنحة مختصة بالطب النفسي، نافيا في الوقت ذاته وجود أي اختلاط مع باقي المرضى. ويكشف المسؤول في وزارة الصحة أنه تم نقل 825 نزيلا إلى مستشفيات الطب النفسي في إطار عملية "الكرامة"، وإلى حدود اليوم تم تسليم 177 منهم لعائلاتهم، بطلب منها، مردفا بأنهم لازالوا يتابعون العلاج تحت المراقبة الصحية. معاناة نزيل سابق الذاكرة القريبة لهذه القرية التي أصبحت منسية لازالت طرية بأحداث ووجوه وحكايات عنوانها المعاناة، ممزوجة ببقايا تفكير أشخاص يرون العلاج في غير الطب الحديث، ولا تطمئن أنفسهم لغير هذا "الولي الصالح"، بعدما أقنعوا أنفسهم بأن الطب "عجز" عن مداواة مرضاهم. تحكي نعيمة، الشابة ذات الأصول الصحراوية، والتي استقر والداها في مدينة آيت ملول، كيف أن العائلة قررت سنة 2010 أن تودع ابنها عبد الصمد إحدى المنازل المجاورة لضريح بويا عمر، بعد أن فشل الطب في إيجاد علاج له، نظرا لمعاناته وفقدانه قدراته العقلية منذ الصغر. عبد الصمد، الذي يقترب من إكمال عقده الرابع، عاش أكثر من خمس سنوات في جحيم دوار بويا عمر، وتروي نعيمة أنه كان دائما يكبل بالسلاسل من قبل مضيفه، بسبب مرضه الذي كان يتفاقم بشكل متزايد، وعدم التحكم في حركاته وردود الفعل التي يمكن أن يقوم بها، في حين أن العائلة كانت تدفع ما بين 600 و1000 درهم "باش تبعد عليها العار لي كان كيديرو ليها عبد الصمد"، على حد تعبيرها، مضيفة أن أفراد عائلتها المكونة من 6 أبناء بين إناث وذكور كانوا يفتقدونه، ويزورونه بين الفينة والأخرى، لكن لم يعد بمقدورهم أن يتحملوا رؤيته في تلك الحالة المزرية داخل بيتهم. تحاول نعيمة، في حديثها لهسبريس، أن تعبر ما أمكن عن حبها لأخيها الأكبر، وتبرر اختيار العائلة بالفشل في إيجاد حل طبي ناجع يخرج عبد الصمد من حالته العويصة وبراثن المرض، فيما استعادت ذكرياتها قبل سنة من الآن، حينما علمت بخبر الاستعدادات التي تقوم بها وزارة الصحة، لتتأكد بعد ذلك باتصال مضيف أخيها المريض الذي يدعى المعطي، والذي أخبر العائلة بضرورة أن تأتي إلى دوار بويا عمر، وهذا ما قامت به بالفعل؛ في حين كانت رحلة استعادة عبد الصمد بغير السهولة التي رسمتها الوزارة آنذاك. عاشت العائلة قبل سنة، تقول الشابة الصحراوية، أياما صعبة، خاصة مع الاكتظاظ الذي عرفته قرية بويا عمر مع توافد العائلات من أجل إخلاء المنازل المحيطة بالضريح، والاختلالات التي شابت عملية "الكرامة"؛ ذلك أنه كان يتوجب على المرضى الخضوع للفحص الطبي قبل تحديد المستشفى الذي سينتقلون إليه، بعد رحلة معاناة التكبيل والأصفاد في بويا عمر. بعد أن قدمت إلى القرية بجانب أخ يصغرها من أجل استعادة عبد الصمد، قضت نعيمة ما يناهز أسبوعا متنقلة بين مدينة العطاوية وقرية بويا عمر، مرجعة هذه الوضعية إلى الطابور الطويل الذي كان يجب اجتيازه قبل الخضوع للفحص الطبي، شأنها في ذلك شأن عدد من العائلات القادمة من مختلف مدن المملكة، ليستقر الحال بعبد الصمد في إحدى المصحات في أكادير، والتي خصصت لاستقبال المرضى المنحدرين من المدن القريبة، عوض الضريح الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لفترة جد طويلة، وأثار الكثير من الجدل قبل أن يتدثر بالهدوء والجمود. يقترب قرص الشمس من المغيب، هدوء في قرية بويا عمر لا يكسره سوى نباح بعض الكلاب المنتشرة في مختلف أرجائها، وبعض السيارات القادمة من العطاوية، وكأن القرية لم تكن أبدا تحيي لياليها بإيقاعات "الحضرة"، وكأن سماءها لم يصلها صراخ المحتجزين في غرف بجانب الضريح، الذي طالما أنارت شموع الزائرين وبخور المريدين محيطه، وبات يكتنفه الظلام.. وحدها رائحة التراب تغمر في المكان.