بعث الله تعالى الأنبياء و الرسل الكرام لتحقيق مبدأ التوحيد و العبودية له سبحانه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾الأنبياء:25. و إن اتفقوا في هذا القاسم المشترك إلا أنهم يختلفون في طرق تصريف العبادة له سبحانه ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾المائدة:48. ثلاث ديانات سماوية، ثلاث طرق للوصول إلى الله. بما أننا في شهر رمضان، ارتأيت أن أكتب هذه الورقة لبيان أوجه الاختلاف بين الديانات الثلاث في شعيرة الصوم. الصيام عند اليهود تعد شعيرة الصيام من أقدم الشعائر التعبدية لدى اليهود، و قد اتخذ أشكالا و أنواعا في الأداء، و سبب ذلك راجع إلى اجتهاداتهم و ابتداعهم المرتبط بالأحداث التاريخية العدائية في علاقاتهم بأنبيائهم و الأمم التي عاصروها، و التي غلب عليها طابع الحزن و المحن. و الصوم لدى اليهود أنواع: 1 شخصي: و غالبا ما يقع عند تكفير الخطيئة. 2 جماعي: و هو مبتدَع عندهم، و يفعلونه عند حدوث البَلايا و الهزائم التي تعصف بشَعب اليهود. 3 و قد أشار القرآن الكريم إلى ضرب من ضروب الصيام و هو صيام الصمت و الإمساك عن الكلام، في قوله تعالى على لسان مريم:﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾مريم:26. و قد ورد هذا الصيام في نصوص التوراة، فمن ذلك:"شق ثيابه، و جعل مسحا على جسده، و صام و اضطجع بالمسح و مشى بسكوت"(الملوك الأول 27:21). و أيضا:"..لا تخطئوا، تكلموا في قلوبكم على مضاجعكم و اسكتوا"(مزمور 4:4). 4 و في الأسر البابلي، صام اليهود أياما، منها: الرابع من تموز في ذكرى تدمير أورشليم و الهيكل 587 ق.م، و عدلوا عن هذا الصيام بعد إعادة بناء الهيكل. الخامس من آب. السابع من شهر تشرى. الثامن من شهر تبيتو. 5 و قد ورد في التوراة صيام أخر: هو الصيام الأربعيني:"و كان موسى عليه السلام هناك عند الرب أربعين نهارا و أربعين ليلة لم يأكل خبزا، و لم يشرب ماء"(الخروج 34:28). و قد اعتبر اليهود ما ورد عن صيام موسى عليه السلام أربعين يوما، تشريعا يخصه وحده دون غيره من أتباعه.(موسوعة الكتاب المقدس، مجموعة من الباحثين، ص33، ط1993م، الحياة، لبنان). و ترى دائرة المعارف اليهودية أن الصيام الوحيد الذي لم يرد غيره في التشريع الموسوي هو صيام يوم الغفران(يوم كبور)، و مدته هو سبع و عشرون ساعة من قبل مغيب الشمس لليوم الأول إلى ما بعد غياب الشمس لليوم الثاني.(عبد الرزاق رحيم صلال، العبادات في الأديان السماوية، ص103). الصيام عند النصارى يمكن الجزم أن الصيام عند النصارى لم يكن على مثال سابق بشَرْع سماوي موحى به، بل هو تشريع كَنَسي قَسَاوِسي أبدعه الرهبان حسب مقتضيات الزمان و المكان. فالصوم عند النصارى هو عبادة اختيارية يُلْجَأ إليه عند الحاجة أو لتكفير الذنوب و ذلك بصيام ليوم (الصوم الكبير) الذي يسبق يوم عيد الفصح(العبادات في الأديان السماوية، ص182). قسم الدكتور علي الخطيب الصيام عند النصارى إلى ثلاثة أقسام، حسب الطوائف و الفرق النصرانية: 1 الصيام في الكنيسة الكاثوليكية. "ويبدأ عندهم في منتصف الليل إلى نصف النهار، ويلتزم به مَنْ بلغ السابعة من العمر، وينتهي بالستين للرجال، والخمسين للنساء. والصيام اللازم في الكاثوليكية: هو الصيام الكبير، ويمتنعون عن أكل اللحم والألبان والبياض (البيض، والجبن، والحليب، والزبد) يومي الأربعاء والجمعة، لكنهم يلتزمون -اليوم- صيام يوم واحد"(د.علي الخطيب:الصيام من البداية حتى الإسلام،ص:151،ط1،1980م،المكتبة العصريةبيروت). "وقد أعطت الكنيسة الكاثوليكية السلطة لرجال كنيستها بإعفاء من رغب من أتباعها من الواجبات الدينية ومنها الصيام، مما مكنها من فرض أصوام متفاوتة بجانب فرائض أخرى على المتهمين بجرائم متفاوتة، يمارسونها عدة سنوات لا شهورًا وأيامًّا، وهكذا بقي في قانون الكنيسة العالمي (الكاثوليكي) الصيام في جميع أيام الأحد ويوم القديس (مرقس) وأسبوع الفصح وأيام الطلبات (البركات) وجميع أيام السبت والجمعة" (الصيام من البداية حتى الإسلام، ص:152، وأيضًا: أغناطيوس فرزلي: التعليم المسيحي الأرثوذكسي، ص:84، د. ت. مطبعة أناتوليى – الإسكندرية) 2 الصيام في الكنيسة الارتدوكسية الشرقية. تتفق الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية مع نظيرتها الكاثوليكية في الصوم الكبير باعتباره أهم وأعمّ أنواع الصيام ومدته خمسون يومًا أو خمسة وخمسون يومًا ولديهم طريقة فلكية لضبط وقته من عام إلى عام، حيث إن النسيء يحول دون وضع تاريخ ثابت له، وينبغي أن يبدأ بيوم الاثنين. ولها أصوام أخرى أهمها: أ- صوم الأربعين يومًا، ويصومون قبلها أسبوعًا سموه أسبوع الاستعداد وبعده أسبوعًا آخر سموه أسبوع الآلام. ب- صوم الميلاد، ومدته أربعون يومًا من 25 من نوفمبر إلى 6 من يناير. ج- صوم العنصرة (الرسل)؛ وتمارسه الكنيسة منذ عصر الرسل ليس عدد محدد من الأيام، ويترك أمره بيوم "أحد العنصرة". فإذا زادت أيام الصوم، وإذا تأخر انقضت وتنتهي تقريبًا في 11 أيلول. د- صوم العذراء، ومدته خمسون يومًا. ه - صوم نينوى، ومدته ثلاثة أيام، ويعتقدون أن يونس عليه السلام قد بدأ هذا الصيام ببطن الحوت (يونان 1: 17). و- وللكنيسة صيام آخر متفاوت بين اليوم والثلاثة: ويُسمّى صيام البراموت (الاستعداد). (القس شنودة يوحنا: الصوم في كنيستنا القبطية الأرثوذوكسية، ص:25، ط 1963م،مطبعة الإسكندرية). 3 الصيام في الكنيسة البروتستانتية. و تعتبر الكنيسة البروتستانتية مسألة الصوم مسألة شخصية يقرر فيه الصائم لنفسه الصوم، والكيفية، وفق رغبته الشخصية النابعة عن إحساسه الذاتي، فإذا ما صام وأفطر يحلّ له أكل ما يشتهيه من المأكولات، فهو عندهم مستحب وليس بواجب. وتختلف الكنيسة البروتستانتية عن الأرثوذكسية القبطية، بأن الأولى تنكر الصيام والثانية تتمسك به" (الصيام من البداية حتى الإسلام، ص:161-162). 4 صيام الأقباط: إنّ أشدّ أنواع الصيام عند النصارى هو عند القبط: إذ يصومون الأربعاء والجمعة من كل أسبوع إلا ما وقع منها بين الفصح والصعود، ويصومون عشرة أسابيع من كل سنة، وهي: - بعد الأحد الأول من عيد الثالوث. - بعد عيد التجلي. - بعد عيد الصليب في أيلول. - بعد الأحد الثالث عشر من عيد الثالوث. - بعد الواحد والعشرين من عيد الثالوث. - الصوم السابق لعيد الميلاد. - صوم الميلاد. - صوم المر. - صوم الفصح (بطرس البستانى: دائرة المعارف، ج 11، ص:70) فالنصارى في مبحث الصيام اتفقوا في نقطة واحدة و اختلفوا في نقاط عدة: نقطة الاتفاق: الفرق النصرانية لم تستحضر الأناجيل في تشريعاتها للصيام، بل أعطت الأحقية للكنيسة وحدها في ابتداع أنواع المساك. نقاط الاختلاف: لا اتفاق بينهم في توقيت / مدة الصيام. إقرار الكنيسة الكاثوليكية صيام السبت، و حصرت الارتدوكسية الصيام في سبت واحد يقع قبل عيد القيامة. اختلافهم حكم الصيام بين الوجوب و الاختيار. الصيام عند المسلمين إذا كان الصوم عند من سبق يتخذ أشكالا متعددة، و يفتقر للمقاصدية و الغائية ما عدا مقصد تكفير الذنوب ، فإن الصيام عند المسلمين هو عبادة بدنية الأصل فيه الإمساك عن الشهوات و المفطرات و المحرمات لتزكية النفس و تَنْقيتها من الأخلاط الرديئة، و الأخلاق الرذيلة مع تحصيل التقوى، و تمام ذلك و كماله تصريف معاني و مقاصد الصيام على أرض الواقع بصوم البصر و الأذن... و سائر الجوارح، و أن يكون حال المرء في الصيام كحاله في الإفطار. النصوص الاسلامية المؤسسة لمشروعية الصيام لم تفرضه لتحسيس الصائمين بالجوع و العطش..، بل للسمو بأرواحهم و الارتقاء بمشاعرهم و الإعلاء من معاملاتهم تجاه الإنسانية، و تجديد حياتهم و إخراجهم من تَدَيُّن الطقوس و (الكليشِيات) إلى دين الخيرية ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(آل عمران:110) و الرحمة للناس أجمعين ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107). اقتضت حكمة الشارع الحكيم أن يتدرج تشريع الصيام عبر مراحل كما هو حال أغلب التشريعات ، رحمة من الله بعباده و تسييرا عليهم. هذا و يمكن ترتيب مراحل هذا التشريع كالتالي: المرحلة الأولى: لما قدم رسول الله المدينة، جعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، و صام عاشوراء. المرحلة الثانية: لما أنزل الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾البقرة: 184183.كان من شاء صام، و من شاء أفطر و أطعم. المرحلة الثالثة: لما انزل الله تعالى:﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾البقرة:185.نسخ هذا الترخيص عند القدرة على الصيام، فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح. هذه هي الأحوال المتدرجة في فرضية الصيام. أما تأريخ تشريع فريضة الصوم، فقد كان في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة، على الكيفية التي استقر عليها، و قد صامه عليه الصلاة و السلام تسع سنين.