الخوض في هذه المغامرة "الرهان التربوي الرشدي" ينطلق في هذه المحاولة من أمرين اثنين: أولهما يكمن في كون فيلسوف قرطبة، أبو الوليد بن رشد، يقدم لنا بعضا من متونه في شكل شروحات وتلخيصات همت كتابات أرسطو التي ترجمها عن أصلها اليوناني من جهة، ومن جهة أخرى لجوء بن رشد في كتاباته الأصيلة، ك"فصل المقال" تحديدا، إلى لغة تميل للنزعة التربوية منها إلى التنظيرية المجردة، هذا وإن كانت العلاقة بين المطلبين متشابك عنده ومتناغم، وذلك من خلال تمييز طرق تصديق الناس للقول الديني الذي يحدد عنده في ثلاث: الخطابي والجدلي والبرهاني. ناهيك عن كون الرجل جادل بعض الفلاسفة قبله ممن زندقوا الفلسفة والفلاسفة وأسقطوهم في الكفر والمحظور، حيث سيرد عليهم بأصول الحوار وقواعد التفكر الفلسفي، وهذا هو السبب الثاني الذي نختار فيه مغامرة تناول بن رشد في زمن كثرت فيه الفتاوى وتسيبت، واستفحل فيه التكفير والتخويف واستقوى. لست هنا مدعيا كوني مختصا في فكر فيلسوف قرطبة، ولست كذلك. ولا نية لي في التعسف عليه حينما أربطه بالتربية، لأن الرجل حقا قدم، منذ بدأ مشروعه الفكري وأسسه، نصوصا وكتبا تخص العلاقة التي طالما أثارت خصومات واتهامات هنا وهناك تهم الفلسفة والدين، الحكمة والشريعة، ناهيك عن كونه لخص وشرح وترجم الحكمة من لغتها الأصلية اليونانية، هذا دون أن ننسى كونه قدم وشارك في المشروع التربوي التعليمي الذي وضعه عبد المومن بن علي عندما استدعاه سنة 548 ه " ليستعين به على ترتيب المدارس التي أنشأها بمراكش وكان عمره آنذاك سبعا وعشرون سنة" (محمد عابد الجابري: ابن رشد، سيرة وفكر ص 43)، وقبل ذلك أسرع الخليفة ذاته (عبد المومن) إلى تشكيل لجنة للتخطيط لنظام التعليم ووضع برامجه، فكان من بين أعضاء هذه اللجنة فيلسوفنا بن رشد. كل المؤرخين يجمعون على أن عبد المومن المؤسس الفعلي للدولة الموحدية كان شغوفا ومنشغلا بالتعليم، فهو كان متمكنا من النحو والأدب والفقه وأصوله، متشبعا بمذهب بن تومرت الداعي إلى ترك التقليد والرجوع إلى الأصول: الكتاب والسنة. من هنا سيبدأ فيلسوف قرطبة مشروعه الفكري ضمن هذا النسق الأيديولوجي والعقائدي والثقافي بعملية تدريس وشرح وتلخيص وترجمة كتاب أفلاطون في السياسة الذي سماه "جوامع سياسة أفلاطون" الذي رسم من خلاله معالم لتربية الأطفال والصبيان من خلال اقتراح وسائل لحماية أخلاق الناشئة وتربية أذواقها، والتحذير من إسماع الصبيان الحكايات الخرافية حيث يؤكد في هذا الصدد " ونحذر، كما يقول أفلاطون، من أن نعود نفوسهم على سماع الأقاصيص السافلة أكثر مما نحذر من إصابة أجسامهم بالثلج". يدعو فيلسوفنا كذلك إلى حماية الناشئة من سماع رديء الشعر سيما ذلك الذي يتضمن الأشعار السيئة والشريرة حيث يبسط الأمر في ذلك فيقول: " فاعلم أن أشعار العرب مليئة بهذه الأمور الشريرة، وضرره كبير على النشء في الصبا". لقد كان فيلسوفنا أحد الركائز الفكرية للدولة الموحدية، بل إن نشأته الثقافية والتربوية والتعليمية والاجتماعية كانت تؤهله لذلك، حيث كان جده وأبوه فقيهان قاضيان على التوالي بقرطبة كتبا في الفقه والتفسير القرآني، بل إن جده كانت له مكانة كبرى في عهد الدولة المرابطية يقوم بأدوار ديبلوماسية وتفاوضية في عهد علي بن تاشفين، وعندما بلغ بن رشد أوج عطائه كان أبوه قاضيا بقرطبة، وأصبح الرجل طبيبا خاصا للخليفة الموحدي وأحد الموجهين الأساسيين للسياسة الثقافية للدولة. لقد كان لقاء بن رشد بالخليفة يعقوب المنصور يوسف بن عبد المومن عن طريق أستاذه ابن طفيل صاحب "حي بن يقضان" عندما كان الخليفة وليا للعهد بإشبيلية، وهذا اللقاء، كما يجمع كل المترجمين والمؤرخين، يعتبر الانطلاق الفعلي لإبداعات وكتابات فيلسوفنا، وهذا لا يعني كونه لم يبدأ انشغالاته الفكرية التي أعجب بها الخليفة وتبناها قبل هذا اللقاء.. فمن كل هذا وغيره يهمنا أن نتساءل: لماذا بن رشد؟ ولماذا علاقته بالتربية والتعليم؟ ولماذا يجب ان نستحضر اليوم والآن بن رشد في زمن العنف المادي والفكري والثقافي، بل وفي زمن تنامي الخرافات والغيبيات وعقلية الفناء والمتاهة والانغلاق ورفض الآخر، بل ورفض الآخر لنا، والتكفير وسيادة الفكر الشمولي وخوف المثقفين؟ هل الرجوع إلى بن رشد معناه الرجوع إلى السلف الجامد، أم معناه الرجوع إلى فكره ومنهجه وطرق اجتهاده وجرأته؟ هل الرجوع إليه هو رجوع إلى ماض متنور فينا، أم إلى ماض مجهض ومنكوب مهزوم بنا؟ كيف السبيل إلى إدخال "عقلانية" بن رشد إلى مؤسساتنا التربوية حيث يمكن أن تنهل منه بعض إشراقاته وتوجيهاته ونصائحه وقيمه؟ المعالم االتربوية الرشدية ورهاناتها: لا يسمح لنا المقام بالخوض في كل المعالم والرهانات التربوية التي انشغل بها فيلسوفنا، لكن يهمنا ان نتوقف عند معلمين ودرسين اثنين من خلالهما نتوقف على رهانهما وغاياتهما: الأول يتعلق بدرس القراءة الصحيحة للكتب الفلسفية عند أفلاطون وأرسطو، بينما الثاني فيخص درس ورهان المصالحة بين الدين والفلسفة. لنبدأ بالرهان الأول ونقول إن مشروع ترجمة الكتب الفلسفية اليونانية لأفلاطون وأرسطو لم يكن رهان بن رشد وحده، بل رهان أمة ودولة بحالها هي الدولة الموحدية. لقد كلف فيلسوفنا بترجمة كتب الفيلسوفين اليونانيين من لغتها الأصلية لما أصاب الفكرين من تحريف وتضليل وتشويه من طرف المنتسبين لها من جهة، والفكر الديني المتشدد آنذاك من جهة ثانية، والذي كان ينعت كل مشتغل به بالتكفير والزندقة. لقد كان هذا المشروع رهان الدولة التي كانت تحمل أيديولوجيا واضحة تتعلق بالرجوع إلى الأصول في كل شيء، بدل الارتكاز على الفروع. لقد تم الرجوع إلى الفلسفة اليونانية في أصولها اللغوية والثقافية ونظامها المعرفي الإبستيمي عبر ترجمة كتب أفلاطون وأرسطو. ومن بين الكتب التي ترجمها بن رشد وقام بشرحها وتلخيصها (وهنا البعد الديداكتيكي التعلمي والبيداغوجي) نجد كتاب "أفلاطون" السالف الذكر "جوامع سياسة أفلاطون" والذي هو عبارة عن ترجمة وتلخيص لكتاب "الجمهورية"، ثم كتاب "الأخلاق إلى نقوماخوس" لأرسطو الذي يتطرق لنوعين من الفضائل: النظرية والعملية. فهذا الكتاب الأخير سيحدد من خلاله بعد ترجمته وشرحه وتلخيصه، الغايات البيداغوجية التي يمكن ان تستلهم منه. ومن بين أهم الغايات التي خرج بها من هذا الكتاب نجده يركز من جهة على أهمية الترجمة التي تعني الانفتاح على فكر الآخر وتجديد للوعي الذاتي، ومن جهة ثانية على بلوغ كمال المدينة/ الدولة الذي هو من اختصاص العلم المدني، ومن جهة ثالثة على الكمالات الإنسانية في الفضائل النظرية العقلية، والفضائل العملية الأخلاقية، وطبيعة العلاقة بينهما، أي علاقة العلم بالعمل وأيهما يكتسي الأولوية، معتبرا ومقررا بأولوية العلم على العمل شرط أن تكون الأخلاق مصاحبة للعلم والعمل، وهنا يكمن دور المثقف في المساهمة الناجعة والعملية في رسم معالم السياسة التربوية والفكرية للنظام التعليمي والثقافي للمجتمع والدولة معا. لقد كانت كتابات فيلسوفنا التي همت الترجمة والتلخيصات والشروحات مهمومة بالبعد البيداغوجي لأنها أولا ساهمت في تقريبها من وإلى الجمهور بتنقيتها من الزلات والأقاويل المشبوهة والمغلوطة. وثانيا لأنها رفعت القلق عن عباراتها (عبارة أرسطو تحديدا)، كما قال عنها آنذاك الخليفة عبد المومن مؤسس الدولة الموحدية. وثالثا رفعت التضييق على الفلسفة من طرف بعض الفقهاء وعلماء الكلام ممن أفتوا في تحريم تدريس المنطق والفلسفة. ورابعا ساهمت في بناء مشروع فكري يتلاءم والرغبة في قراءة الفكر الفلسفي في أصوله وشروطه، وتجنيبه السقوط في متاهات الفروع والهوامش والتأول المغرض والتشويه المتقصد . لم يكن ذلك بغريب على فيلسوفنا الغزير الإنتاج الفكري الذي عرف النضج وهو في عنفوان شبابه عن سن السابعة والعشرين من عمره أن يؤسس منطلقه المعرفي بنظرة لا تخلو من قيمة بيداغوجية وتربوية بتحقيق الشروط العلمية القائمة على الإبداعية والاجتهاد، ولعل كتب شبابه تشهد له بذلك، وهي عبارة عن كتب مدرسية ناضجة بشروحات بسيطة وواضحة تراهن على حرية الفكر ورفض الانغلاق. ومن أهم هذه الكتب التي أعطى لها صفة الضرورة نجد " الضروري في النحو" و"الضروري في أصول الفقه" اللذين كتبهما بلغة الفقيه والفيلسوف والنحوي، ثم كتاب "الضروري في المنطق" وهو عبارة عن مختصر في المنطق، فكتاب "المدخل إلى المنطق".. والتي تدخل كلها (وغيرها كثير)في إطار المشروع التعليمي الذي كلف بتنزيله في مراكش من طرف الخليفة مؤسسة الدولة الموحدية. أما الرهان الثاني فارتبط بشكل وثيق بعلاقة الدين بالفلسفة التي لا أريد في هذا الصدد أن أستعرض تفاصيل ما قدمه وأسهب فيه بقدر ما أريد ان أتوقف عند البعد المنهجي التربوي في تناوله لهذه العلاقة التي أثارت الكثير من اللبس لدى سابقيه من الفلاسفة أمثال الكندي والفرابي وبن سينا والغزالي. لقد قدم فيلسوف قرطبة وصفة مبدعة ومجتهدة في تقريب النظر بين الشريعة والحكمة لا على أساس التلفيق والتوفيق التعسفي، ولا على أساس الخلط وتذويب الأول في الثاني، وجعل الأول مثيلا للثاني ومقياسا له أو العكس، بل على أساس الفصل والوصل، لأنه سيرفض دعوى هذه المطابقة، معتبرا " أن النظر في كتب القدماء واجب شرعي (فتوى شرعية الفلسفة) " لأنا معشر المسلمين – يقول بن رشد – نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له" ف "الحكمة هي صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة"، لذلك فهو يقطع " أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي"، من هنا دعوته إلى الفصل المنهجي والبيداغوجي بينهما باستقلال كل خطاب بطرائقه وآلياته التأويلية، معتبرا أن غاية الشرع ومقصوده تتحدد في تعليم العلم الحق والعمل الحق. فالعلم الحق ينحصر في معرفة الله تعالى ومعرفة الموجودات على حقيقتها، ومعرفة السعادة والشقاء الأخروي. بينما العمل الحق فيفيد السعادة ويتجنب الشقاء. من هنا سيعتبر أن طرق التعليم اثنان: التصور والتصديق. الأول يعني تصور الشيء نفسه وأمثاله، بينما الثاني فيكون على ثلاث: تصديق بالخطابة يخص الفقهاء والعامة، وتصديق بالجدل يخص المتكلمين والخاصة، وتصديق بالبرهان ويخص الصفوة. يقول بهذا الصدد في كتابه "فصل المقال": " الناس في الشريعة على ثلاثة أصناف، صنف ليس من أهل التأويل وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب (العامة)، وصنف هو من أهل التأويل الجدلي بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة، وصنف هم من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة". من هنا نجد ان اختلاف الناس في التصديق جعل الشرع طرقا ثلاثة في التعليم يلائم طبع الناس واستعداداتهم الذهنية وقدراتهم الفكرية. أخيرا، هل لنا ان نقول بأننا أمام فيلسوف لا يقدم عرضه الفكري إلا على محمل تعلمي ومنهجي وبيداغوجي؟ هل لنا أن نختلف مع فكر ينزع نحو المقاربة التربوية والتعليمية والمنهجية لإدراك أصول الشريعة واللغة والفلسفة والمنطق؟ هل نجد درسا فكريا في الثقافة العربية الإسلامية يقدم تصوره ومفاهيمه ومقولاته دون أن يلجأ للتأصيل وقبله التأسيس والانفتاح؟ لماذا لا تنتبه منظومتنا التربوية لهذا الدرس / الخطاب الذي لا يزال يجيب على ذواتنا بالقدر الذي يجيب ويتجاوب مع ذات الغير؟ .. المراجع: · محمد عابد الجابري: نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، الطبعة 6، 1993 بيروت. · محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة 10، مارس 2009 بيروت. · محمد عابد الجابري: سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، أكتوبر 1998 بيروت. · ابن رشد أبو الوليد: تهافت التهافت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998 بيروت. · ابن رشد أبو الوليد: فصل المقال، مركز دراسات الوحدة العربية، 1997 بيروت. *أستاذ الفلسفة وزان