تحمل الثورات العربية في طياتها شيئا جديدا تماما وغير مسبوق في الخبرة التاريخية العربية على الأقل. وبالنظر لجدتها ونتائجها فهي مرحلة جديدة في تاريخ هذه الأمة كذلك. ولعل عناصر هذه الجِدة تبرز على ثلاث مستويات، المستوى الأول: طبيعتها السلمية، بحيث خرجت الملايين في مصر وتونس خاصة، دون عنف. ولولا عنف الدولة ووسائل قمعها لما سقط الشهداء الذين سقطوا. ويكاد الواقع نفسه ينطبق على المسيرات التي خرجت في الأردن والبحرين واليمن والمغرب والعراق، باستثناء ليبيا. والمستوى الثاني: أنها خرجت في منطقة من العالم اعتقد البعض تحت تأثيرات معرفية استشراقية أنها عصية على الفهم وجامدة عن كل تحول، مما أنتج الاستهانة بشعوبها. والمستوى الثالث: أنها تقدم مداخل جديدة للتيارات والحركات الإصلاحية والتغييرية للعمل بآليات سلمية ولكن فعالة، سواء لمن اختار التغيير من داخل النظام أو لمن اختار التغيير من خارجه. 1- ثورات سلمية لعل قضية الحرية إزاء الاستبداد كانت هدف كل ثورة، وكما تقول "حنة أرندت" إن "هدف الثورة كان ولم يزل هو الحرية". لكن الجديد بالنسبة للثورات العربية هو طبيعتها السلمية، على خلاف الإطار النظري التي يوفره لنا المؤلف الضخم "في الثورة" ل"أرندت". الذي تعتبر فيه أن الثورة غير مفصولة عن الحرب، بل بينهما "علاقة تبادلية على مرّ التاريخ". ففي الخبرة الأوربية "كانت (الثورة) إما مسبوقة أو مصحوبة بحرب، كالثورة الأمريكية، وإما أنها أدت إلى حروب دفاعية وعدوانية، كالثورة الفرنسية". ولذا فإن "الثورات والحروب لا يمكن تصورهما خارج ميدان العنف". بل إن العنف يعد من القواسم المشتركة بين الحرب والثورة. وكلا من النظرية الحربية والنظرية الثورية لا تبحث إلا في تسويغ العنف، لأن هذا التسويغ يؤلف حدها السياسي". هذا التصور المعرفي للثورة، يدفع أرندت إلى تبريره بالعودة إلى "مشكلة البداية" على حدّ قولها، أي بداية البشرية وقتل قابيل لأخيه هابيل. وهي بداية متصلة عندها بالعنف كذلك. وهكذا لما كان "العنف هو البداية، فما من بداية يمكن إحداثها من دون استخدام العنف". هذا التصور الدموي للثورات كما عاشتها الحضارة الغربية، نقيضه تماما هو ما وقع في الوطن العربي. وأفترض أن هذا التناقض يترجم الخلاف العميق بين منظومة القيم المرجعية الحاكمة لكليهما. فالحضارة الغربية منذ الثورة الأمريكية والفرنسية إلى اليوم تمت إعادة بناء جوهرها على أساس مادي تطبيعي ذي منظومة قيم تعاقدية. في حين ظلت تحتفظ الحضارة العربية الإسلامية بجوهرها التوحيدي ذي منظومة قيم تراحمية، رغم عملية التفكيك والتشويه التي تعرضت لها ولا تزال. وإذا كانت الثورة تقترن بالعنف عند "أرندت" لأن بداية البشرية كانت بداية عنيفة. وإذا كانت الحرب والثورة لا يمكن تصورهما خارج ميدان العنف، فكذلك السياسة لا يمكن تصورها خارج ميدان الصراع، وفي الحقيقة كلا من العنف والصراع وجهان لعملة واحدة، ولهذا كانت الحضارة الغربية الأشد عنفا، إن لم تكن مع نفسها، فمع غيرها. وبالمقابل، تقدم الثورتين التونسية والمصرية نموذجا جديدا. هو نموذج الثورات السلمية التي لم يعرفها التاريخ من قبل. كما تؤكد "أرندت" نفسها ذلك. وعندما أقول إنها جديدة وفريدة في طبيعتها، فإني أستبعد صورا أخرى تقدمها الخبرة العربية قديما وحديثا، ومنها أولا: "الخروج المسلح" كما عالجها الفقه السياسي الإسلامي، والتي تعني "حمل السلاح" أو الثورة المسلحة ضد الحاكم الشرعي. في حين أن الثورات قيد الدراسة ضد حاكم مستبد لا شرعية له، وسلمية تماما لا تحمل لا سيفا ولا بندقية. كما أستبعد ثانيا: "الانقلابات العسكرية" التي شهدتها المنطقة خلال سنوات الخمسينيات خاصة، لأن الجيش من قام بها وليس الشعوب، ولذلك تكررت أكثر من مرة حتى في البلد الواحد، مثال سوريا والعراق. وهي ثالثا: تختلف جوهريا عن "ثورات التحرير" ضد الاستعمار الأجنبي كالثورتين الفلسطينية والجزائرية. كما تختلف، رابعا، عن ثورات أوربا الشرقية التي كان دور الشعوب فيها في المرتبة الثانية بعد نظام غورباتشوف الذي قاد التحول وأشرف عليه، مدعوما من الدول الغربية خاصة أمريكا، باستثناء حالة رومانيا التي كان المستبد تشاوسيسكو على رأسها يتمتع بحب أمريكا وإنجلترا له. 2- شروط الثورة ولئن كانت الحرية هي هدف الثورة، فإن السبب الرئيسي في اشتعالها، في الخبرة الغربية، هو الفقر. وهي خلاصة "أرندت" في مؤلفها السابق الذكر. فالمسألة الاجتماعية هي التي أشعلت الثورة في أمريكا ثم أوربا. تحققت عبر عملية إدراك ذهني مركبة، حصلت عندما بدأ التشكيك العقلي في أن الفقر صناعة وليس قدرا، وبعد أن حصل الاقتناع أيضا بأن الأرض مشبعة بالوفرة، وليست قاحلة بالنذرة. وتحصيل الوعي بالفقر كان الشرط الجوهري الذي يفسر اشتعال الثورة الأمريكية. هذه القارة التي "أصبحت مأوى وملجأ وموقع اجتماع الفقراء". لكن لا يبدو أن الفقر هو السبب الرئيسي للثورات العربية، وإنما "التسلط" أو"السلطوية" كما جسّدها نظام حكم بن علي في تونس، ونظام حسني مبارك في مصر، وباقي الأنظمة القائمة بتفاوت فيما بينها. والسلطوية لا تعني القهر البوليسي فقط، إنها أوسع من ذلك، إنها نموذج سيء للحكم، تشتغل عبر آليات التحكم والإقصاء والتزييف. التحكم في ثلاثية "السلطة والثروة والقيم"، وإقصاء أي منافس سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو إعلاميا. وتزييف الوعي والذوق والسلوك عبر توظيف الإعلام والدين والتعليم والفن. والتسلط بهذا المعنى لا يسعى إلى الكبت المادي فقط، بل إلى تزييف الإرادة. ومن أجل ذلك يتم تزييف الواقع العيني نفسه عبر السعي لتزييف القيم الجماعية والفردية العليا. أي تزييف الحرية والديمقراطية والتنمية والعدالة، وعملية التزييف هذه تخلق التناقض بين القيم الجماعية والقيم الفردية، وهما في الحضارة العربية متآلفتان وليستا منفصلتين كما في الحضارة الغربية. وكلما تعمق التناقض القيمي بين المستويين ووصل حدا معينا إلا وانفجر المجتمع. بغض النظر عن صيغة الانفجار كيف تتم هل عبر حرب أم ثورة أم انقلاب، ولذلك كانت صناعة العدو الخارجي مسألة إستراتيجية في الذهنية الأمريكية إلى اليوم. وعليه، لا أحد يفترض أن الفقر كان السبب الرئيسي في الثورة التونسية أو المصرية. لأن تونس تعتبر أفضل حالا على جميع المستويات من بقية الدول العربية غير الخليجية، والمتغير الأقوى في هذا الصدد هو البحرين الغنية، ولكن الثائرة أيضا. ولعل المتفق عليه لحد الآن أن الذي قاد الثورة في تونس ومصر هي الطبقة الوسطى التي تقطن المدن، وليس العمال والفلاحين في الأرياف. والبوعزيزي الذي أشعل شرارة الثورة فعل ذلك لأنه تعرض للظلم والإهانة، بحيث مَسّه النظام التسلطي في كرامته أولا وليس في رزقه فقط. وصفعة الشرطي صورة تكتنز قدرا كبيرا من الدلالات السيميائية والرمزية لتوليد المعاني. أقصد معاني التسلط والقهر المادي والرمزي. وتلك الصورة هي التي هزت التونسيين فخرجوا لأنهم اقتنعوا أن تونس بقيمها وتاريخها وعمقها الحضاري أكبر من بن علي وحاشيته. 3- مجتمعات حية إن من خصائص هذه الثورات السلمية قيادة الشعوب لها. وهذا كاف للدلالة على أن الشعوب العربية حيّة وليست ميّتة، وأنها تملك الإرادة لصناعة التاريخ وليست خارجه. وهذا المعطى المادي الملموس اليوم يطرح تحدّيا حقيقيا على العلوم الاجتماعية التي جاءتنا على ظهر دبابة ولا زالت قائمة تنخر من الداخل. وبغض النظر عن الاختلافات الفرعية بين الشعوب العربية، اجتهدت هذه العلوم في تفسير ما اتُفق على أنه "شعوب خارج التاريخ". عصيّة على الديمقراطية وعلى الحداثة. وبقصد أو دونه سقطت تلك العلوم في دعم الاستبداد والسلطوية. وفي الجامعات العربية ظلت أطروحات مثل "الانقسامية" و"الجمود" و"الشيخ والمريد" "والأبوية" و"البتريمونيالية"، تمارس سطوة على الباحثين العرب، وهي أطروحات همّها الوحيد هو أن تفسر العوائق الذهنية والثقافية والأنتربولوجية، بل والدينية، لتخلفنا وجهلنا بمعنى التحضر والحداثة. لكن، ويا لسخرية القدر، تأكد اليوم أن تلك الأطروحات هي الجهل بعينه، لأنها كانت تفسر الواقع المتخيل لا الواقع الحي، فأنشأت مجتمعات من عندياتها هي، مثل الاستشراق تماما، وليست تلك الموجودة منذ آلاف السنين، ولها من المدركات الجماعية ما كانت به أمة قائمة الذات والبنيان. وهي اليوم تعلم الدروس لكل الإنسانية، كما فعلت من قبل. ولعل من النتائج الكارثية لذلك، أن حركات التغيير والإصلاح بدورها أهملت دور الشعوب وأهميتها في التغيير السياسي السلمي. وخلال العقود الخمسة الماضية، ركزت استراتيجيات التغيير المعلنة على الإصلاح المتدرج من داخل المؤسسات. فالليبراليون اقتنعوا أن الرهان على الخارج/الغرب يبقى المدخل الوحيد لولوج الحداثة، عبر إعادة تفكيك ثقافة وقيم هذه المجتمعات الجامدة، وإعادة بنائها بما ينسجم وروح الحداثة. أما الإسلاميون فقد اقتنع تيار واسع منهم بأن دور الشعوب مهم ولكن محدود، وأن الأنظمة القائمة قوية بما يكفي لحماية نفسها، وأن الغرب لن يتخلى عنها. وقد قدمت التجربة الجزائرية في سنة 1991 ما يكفي لتأكيد عناصر هذه الأطروحة، خاصة وأن تجربة العصيان المدني التي دعت لها الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم تنجح. وهكذا روّجت أطروحة الإصلاح التدريجي لنفسها بشكل واسع منذ بداية الثمانينات، وكادت أن تصبح الخيار الوحيد الممكن. لكن هل يمكن التشكيك اليوم في أن الشعوب العربية قادرة على إحداث التغيير؟، وأن أطروحة الإصلاح التدريجي قد سقطت كما سقطت أطروحة التغيير المسلح الذي تتبناها "القاعدة"؟. لقد قدمت الثورات العربية نموذجا جديدا في التغيير السياسي الشامل. نموذج ركائزه أربعة هي نفسها خصائص هذه الثورات المتميزة ب: طبيعتها السلمية أولا، وبقيادة الشعوب لها ثانيا، وبأهدافها السامية المتمثلة في استعادة قيم الحرية والكرامة والديمقراطية ثالثا، وبتحديد دقيق للخصم الذي خرجت ضده واختزلته في شعارها الدال والعميق:"الشعب يريد إسقاط النظام". *باحث في العلوم السياسية