بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا خاتم الأنبياء والمرسلين وبه نستعين، جدير بالذكر بادئ ذي بدء أن أشير إلى أن مدارسة المدحة النبوية يجدد البحث العلمي، إذ أن موضوع المديح النبوي ليس موضوعا تاريخيا، وإنما هو موضوع كما عايشه الأجداد والآباء نعايشه نحن اليوم ليس على صعيد الواقع الاحتفالي فحسب، ولكن على صعيد الفكر وعلى صعيد الإبداع. ذلك أن موضوع المديح النبوي موضوع خصب في التراث المغربي وفي تاريخ الحركات الأدبية في العالم العربي والإسلامي، كتب حوله الكثير، لكن مع ذلك ما زلنا نحن في حاجة إلى دراسات جديدة تعمق الفكر والإبداع، وتعمق النظرة إلى هذا التراث الأدبي وتحيينه في وقتنا هذا. إن موضوع المديح النبوي يتعلق بالشعر أساسا، وعندما نتأمل قصيدة المديح النبوي نجدها تتجلى في أنماط كثيرة متعددة... منها قصيدة التوسل والقصيدة الغرامية والحجازية والنجدية والعشقية والشكرية، وكذلك القصيدة البديعية وغيرها، لأن هذه الأنماط قد تناول الباحثون موضوعها وشكلها وكذا باعتبارها ظاهرة إبداعية نقدية. من بين هذه الأنماط الأكثر إبداعا في تراث المغاربة هي المولديات، فماهي المولديات؟ وماذا تمثل في إبداع الشعر المغربي؟ الموالد والمولديات كلاهما ينتمي إلى إبداع يتعلق بالاحتفال بميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام. فإن كان نثرا سمي بالموالد، وهي ظاهرة دأبت عليها الكثير من الزوايا والفرق الصوفية فألفت نصوصا نثرية جميلة تحتفي بمظاهر ميلاد الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. بالإضافة إلى الرسائل التي كانت تبعث إلى الروضة الشريفة. إن أغلب هذه الموالد لا تزال متفرقة في الخزائن الخاصة والزوايا، والكثير منها مخطوط مما يحتاج إلى جمع تراثه لأنه تراث نفيس..1 إن هذه النصوص غنية في تراثنا الأدبي، علينا أن نقوم أفرادا وهيئات بجمعها وتحقيقها. أما المولديات فهي الشعر الذي قيل بهذه المناسبة الشريفة، وهي تشكل في نظرنا ظاهرة. والظاهرة تعني في دلالتها كثرة الورود والتداول والانتشار، من ثم فالمولديات بتحديد دلالتها الاصطلاحية تعني قصائد الشعر الديني في المغرب في نمط عرف ذيوعا وانتشارا، وبما أنها القصائد الدينية التي تختص بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، قلنا إنها قصائد مدحية تلقى بين يدي السلطان. ومن هذه الدلالة الاصطلاحية، ما يجعلنا نكبر من شأن هذه الظاهرة التي عرفها الشعر المغربي عبر العصور منذ العصر المريني الذي انطلقت منه هذه الظاهرة ونمت وترعرعت في العصر السعدي ثم في العصر العلوي. وإذا كنا نعتبر أن القصيدة المولدية ظاهرة فلكون هذه الظاهرة بما لها من الشمول والذيوع تبرر كونها ظاهرة دينية، وظاهرة اجتماعية، وظاهرة فنية، وظاهرة إبداعية، وظاهرة نقدية. هذه المجالات الخمسة تتطلب التعمق في أبعادها. المولديات ظاهرة دينية باعتبار أنها تدخل في سياق تقدير النبي عليه الصلاة والسلام، وهي نوع من التقرب إلى حضرته بالصلاة عليه وبالتوسل به، باعتبار أن الصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام هي من ركائز العقيدة الإسلامية إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما(( 2. المولديات ظاهرة اجتماعية لما فيها من التكافل وتقديم العون والمساعدة بين المسلمين باعتبار أن مناسبة الاحتفال بعيد المولد النبوي مناسبة تقوم بدور هام في التضامن بين طبقات المجتمع المغربي لإسعاد سائر أفراده. ولعل ما عرفه مرستان سيدي فرج بفاس حيث كان يحتفي بهذه الظاهرة ليس في إطار استشفاء المرضى النفسيين فحسب، ولكن في إطار تقديم المساعدة إلى الكثير من أفراد الشعب. وهذا أمر هام يجب أن نلتفت إلى أبعاده لنكتسب منه في واقعنا نموذجا يحقق هذا التكافل الاجتماعي. المولديات ظاهرة فنية باعتبار أن المديح النبوي بأنماطه ليس مجرد قصائد يكتبها الذي يحس بلوعة الحب النبوي فحسب، ولكن في سياقها العام لدى المبدع والمتلقي حيث تتقد مشاعر المناسبة عبر مجموعة من الوسائل الفنية باعتبارها أداة لتحقيق هذه الظاهرة، ومن ثم كان ارتباط قصيدة المديح النبوي بالسماع يحقق وحده هذا السمو الفني لهذه القصيدة. أما كون المولديات ظاهرة إبداعية فهنا نقف وقفة تتعلق بالإنتاج الكبير لقصيدة المديح النبوي وغزارتها في المغرب، بل نجد غزارتها لدى مختلف الطبقات الاجتماعية سواء من العلماء أي الخاصة أو من الأميين أي العامة الذين أبدعوا في فن الملحون خاصة، وكانوا يتناشدون قصيدة المديح النبوي كما عبر عن ذلك عبد الله كنون في كتابه أدب الفقهاء. ومن هنا كان يحلو لبعض المشارقة وسم الشعر المغربي بالضعف، ولكن عندما نتأمل هذه الظاهرة، نجدها ظاهرة لا تقر بما اعتقده المشارقة بل على العكس تقر بهذا النماء بكل عناصر الجودة التي تحتويها هذه القصيدة. علما أن التراث المغربي في عمومه ما يزال جله دفينا وغميسا لو كشفت نصوصه لأتاح قيمة مضافة لجدة الأدبية المغربية وتعميقها ، مما سيغير نظرة إخواننا المشارقة إلى أدبيتنا المغربية التي وسِموا شعرنا بها. وفي هذا السياق سأتناول ذلك من خلال منظورين: يتعلق المنظور الأول بإمكانيات هذه القصيدة المولدية التي هي ظاهرة بحق في أدبيتنا المغربية، فالشعر المغربي هو شعر أبدعه المغاربة وما يزال دون أن نستثني ما قاله الفقهاء، لأن ذلك يتصل في عمقه بمشاعرنا الدينية. وعندما يتعلق الأمر بشبه مقارنة بين القصيدة المادحة وبين القصيدة المولدية أخلص إلى أن القصيدة المولدية هي قصيدة متجددة في تاريخ الشعر العربي. وقصيدة المديح النبوي بصفة عامة عند كثير من الباحثين لم تظهر إلا في القرن الخامس أو السادس الهجري، لماذا؟ لأن الشعراء لم يبدعوها،باعتبار أن شخصية الرسول كانت لها من المهابة، بحيث يعجز الشاعر أن يتناول هذا الجانب. من ثم كان فطاحل الشعراء يتحرزون في أن يكتبوا مديحا نبويا.هذا إذا أخذنا بالرأي القائل بأن ماكتب في عصر الرسول عليه السلام لا يعد من المديح النبوي باعتبار أن ما قاله كعب مثلا إن هو إلا اعتذار. ولكن عندما نأخذ قصيدة المديح النبوي باعتبارها قصيدة تتعلق بشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام لا نجد في فترة صدر الإسلام ما يحقق هذا التناول بحيث نجد أحد الباحثين في كتابه عن حسان بن ثابت قام بِعَد الأبيات التي مدح فيها حسان الرسول e فوجدها لا تتجاوز أحد عشر بيتا. وفي رأي كثير من الباحثين أن تأسيس قصيدة المديح النبوي كقصيدة لها وزنها وقيمتها الفنية لم يتم في عصر صدر الإسلام. هذه مسألة قد يكثر فيها النقاش، ولكن ما يجدر قوله هو أن قصيدة المديح النبوي لدى المغاربة إذا كانت قصيدة متجددة فما هي معالم هذا التجدد ؟ إن الدكتور عبد الله الطيب في مقالته عن القصيدة المادحة، وهو يتحدث عن المشرق جعل لهذه القصيدة المادحة أطوارا: هناك الطور الأول يعرف بطور التكسب. الطور الثاني طور الرجاز. الطور الثالث طور أبي نواس وينتهي بالمتنبي. ثم يأتي الطور الرابع وهو طور قصيدة المديح النبوي التي مثلها البوصيري رحمه الله. ثم يأتي في الدرجة الخامسة طور البعث والإحياء. هذه الأطوار حددها عبد الله الطيب في مقالته عن القصيدة المادحة التي نشرها مع مقالات أخر في كتاب بنفس العنوان 3. تجعلنا نتساءل عن موقع ما نعتبره من أن قصيدة المولديات هي قصيدة متجددة في تاريخ الشعر العربي. وهذا ما يجعل في نظرنا أن القصيدة المادحة في الطور الأول والثاني والثالث التي حدد ها عبد الله الطيب، بعد ذلك وقع فراغ. هذا الفراغ منشؤه من أن القصيدة المادحة لم تعد تجد ممدوحا قدوة. لقد كان أبو الطيب المتنبي يجد في شخصية سيف الدولة مقومات رجل الدولة الممدوح بما فيه من قرشية وعروبة ومِن .. ومن...ولكن في الشرق العربي بعد المتنبي أصبح الشعراء يبحثون عن مكامن القوة في الممدوح ليكون أهلا للمدح وخاصة عندما تغلب المماليك ثم الأتراك فقد أصبح الشاعر يبحث عن الممدوح القدوة الذي تتمثل فيه الخصال التي أقرتها القصيدة المادحة العربية. إذن في المشرق كان البديل عن القدوة يتجسد في فعل الصوفية ومذاهبها فوقع التحول من الممدوح الذي أصبحت قدوته غائبة، وعبر فعل التصوف وانتشاره كانت قصيدة المديح النبوي باعتبارها قصيدة جديدة ظهرت في المشرق العربي، فكان البوصيري والوتري والصرصري والبرعي وغيرهم ممن سجلوا حضورهم الإبداعي في قصيدة المديح النبوي. بالنسبة للمغرب بدءا من العصر المريني إلى العصرين السعدي والعلوي كان لدينا ممدوح يتمثل بمقومات الشخص الممدوح في انتمائه إلى القرشية والعروبة وإلى الشرف النبوي وإلى كثير من المقومات مما جعله يحتل مركز القدوة. لذلك كانت قصيدة المديح النبوي في نمط المولديات خاصة قد جمعت الأمرين، جمعت بين المديح النبوي وبين حضور الممدوح في مناسبة تحتفي بمولد الرسول عليه السلام. لذلك كانت القصيدة المادحة والقصيدة المولدية - في رأينا - تعد نمطا متجددا، يمكن أن يكون هو الطور الذي لم يذكره عبد الله الطيب عندما كان يتحدث عن أطوار القصيدة المادحة المشرقية. وبالرغم من أن المشارقة عموما كانوا يتجاهلون أو يغفلون الكثير مما يتوفر في تراثنا المغربي من مقومات وأسس أدبية. ومن ذلك طور البعث والإحياء الذي تم على يد البارودي في القرن التاسع عشر كما قرره مؤرخو الأدب الحديث، في حين أن عصر البعث والإحياء يمكن أن نقول أنه تم في المغرب قبل هذا التاريخ بنحو أكثر من قرنين، ففي بداية القرن السابع عشر كان شعر الصحراء المغربية قد أسهم في طور البعث والإحياء، لأننا نجد شعراء مغاربة كتبوا الشعر وهم يتطلعون إلى نمط امرئ القيس وإلى نمط فحول الشعراء العرب، لذلك فهذا الطور طور المولديات يمكن أن نجعله طورا متجددا يحمل كل سمات الإبداع في الشعرية المغربية، من ثم إذا كانت القصيدة المادحة تحتوي على المقدمات النسيبية ثم على الرحلة، وغير ذلك فإننا نجد القصيدة المولدية ببنائها ومعمارها تتطلب هذه العناصر التي هي عناصر الجودة فيها؛ فهناك المقدمة بعناصرها الطللية والنسيبية وهناك مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، والإشادة بمولده وشمائله ودلائله، ثم بعد ذلك يأتي مدح السلطان باعتباره امتدادا لخلافة الرسول عليه السلام وداعيا لمبائه وقيمه، وهذا أمر مهم يجعل من أن المديح في القصيدة المولدية مديح فيه الكثير من معالم القدوة التي يستمدها من الرسول عليه الصلاة والسلام. ثم يأتي العنصرالرابع من هذا البناء هو التوسل والتصلية. ومن ثم تبدو هذه الجدة في القصيدة المولدية التي تجعل منها قصيدة فاعلة في الكثير من تراثنا لما لها من مقومات إبداعية خاصة.هذه المقومات الإبداعية لم تكن فاعلة فقط في كونها إبداعها وإنشادها، ولكن باعتبارها كانت مجال حركة نقدية جديدة باعتبار أن القصيدة المولدية تمثل مجالا للتواصل بين القيم النقدية والمفاهيم التي نجدها مثلا عند ابن الخطيب في مفهوم السحر والشعر أو في قضية الصدق والمبالغة كما أشار إليها أبو علي الحسن اليوسي، وكذلك أبو سالم العياشي، فمن خلال كتاباتهم نستشف المفاهيم النقدية لقصيدة المديح النبوي التي تفعل إبداع القصيدة المولدية سواء تعلق الأمر ببناء القصيدة أو بشروحها باعتبارها لونا من ألوان النقد عند المغاربة. والخلاصة أن القصيدة المولدية هي قصيدة دينية واجتماعية وفنية وإبداعية ونقدية. والتفاعل بينها يحقق الكثير من المجالات والمقومات للشعرية المغربية. فكانت من حيث الواقع تشكل تمثلا لبطولة دينية تسعى إلى التشبث بالشمائل النبوية المحمدية، ودرء الشوائب والنحل الضالة. ومن حيث الفكر تحمل السمات البارزة في سلوك يستمد مقوماته من آراء السلف الصالح، فحرصه على العقيدة الإسلامية والسنة النبوية، وكذلك من حيث وحدة المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية وصوفية الجنيد التي تشكل تلاحما مذهبيا في مذهبيتنا المغربية في ضوء نسق منهجي تحدده إمارة المؤمنين. أما من حيث الإبداع فتكون القصيدة المولدية باعتبارها تعبيرا وجدانيا يجسد الإحساس بالذات إزاء محبة الرسول عليه الصلاة والسلام في سبيل رؤية تتطلع إلى السمو والتقدير والإجلال. *المصادر والمراجع الأدب المغرب من خلال قضاياه وظواهره ، عباس الجراري، الرباط 1979 أبو سالم العياشي الأديب المتصوف ، عبد الله بنصر العلوي ، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،1998 أدب الفقهاء، عبد الله كنون ، دار الكتاب ، بيروت التأليف المولدية لعبد الحي الكتاني مقالات نشرت بمجلة الزيتونة بتونس الجزء 8 سنة 1937 روضة الجنات في مولد خاتم الرسالات ، محمد الباقر الكتاني، الرباط،1975 الشعر السعدي : تفاعل الواقع والفكر والإبداع ، عبد الله بنصر العلوي ، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ، فاس، 2006 في الشعرية العربية، من فضاء الذاكرة إلى أيقون العجيب ، عبد الله بنصر العلوي،فاس ، 2014 في المدحة النبوية وتواصلاتها ، عبد الله بنصر العلوي ، فاس ، يناير 2016 المدائح النبوية في الأدب العربي ، زكي مبارك ، القاهرة ، 1967 . المدائح النبوية ، محمود علي مكي ، مكتبة لبنان ، ط1، 1991 النبوغ المغربي في الأدب العربي ، عبد الله كنون ، ط2 ، بيروت، الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى ،محمد بن تاويت ،الدارالبيضاء ، 1981-1984 1 - وقد جمع العلامة عبد الحي الكتاني أن يجمع هذه الموالد التي قيلت في المشرق والمغرب في كراسات نشرها بمجلة الزيتونة بتونس خلال سنة 1937. كما قام محمد الباقر الكتاني في روضة الجنات في مولد خاتم الرسالات ببليوغرافية شملت خمسين مولدا. 2 - سورة الأحزاب الآية 56 3 - القصيدة المادحة الخرطوم 1973 وقد أورد عبد الله الطيب حديثا مفصلا عن هذه الأطوار بشكل آخر في القسم الثاني من الجزء الرابع من كتابه المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها.