تعتبر صناعة سروج الخيل في محافظة صفاقسالتونسية من أقدم المهن اليدوية التي تفنن أصحابها في زخرفتها، لكنها بدأت اليوم تختفي مع وفاة روادها وعزوف الجيل الجديد عن تعلم الصنعة. هنا، في سوق "البرادعة" بالمدينة العتيقة، لا تزال ذكريات عقود خلت،عالقة بمخيلة الحاج السبعيني منذر بوغريو، خاصة حين كان السوق يعج بالعشرات من أرباب المهنة الذين شكلوا خلية من النشاط، ويتفننون في صناعة السروج بمختلف ألوانها وأشكالها. بوغريو يعيش اليوم على محض ذكريات تتنقل بين أبواب الدكاكين الصغيرة المغلقة بذات السوق، ترثي حرفة وحرفيين كانوا بالأمس خير ونيس له، توفي أغلبهم مع ما حفظته أناملهم من حرفة جميلة نادرة. وبقي بوغريو وحيداً في السوق يواجه ما تتعرض له هذه المهنة من الاندثار وسط غزو للسلع الأجنبية، خاصة الآسيوية المنتشرة في كل مكان، وما رافقه من عزوف للشباب على تعلم الصنعة، فضلاً عن أن ركوب الخيل والعناية بلوازمها أصبح هواية لقلة من التونسيين، ما عدا الخيول المستعملة في الفرق الفلكلورية وفي المهرجانات الخاصة بالفروسية.. كما يقول الحاج السبعيني. والسرج، ذاك الرحل الذي يوضع على ظهر الخيل ليجلس عليه الراكب، يختلف البلدان المُصنعة له.. فمنها من يهتم به نظراً لاستعماله المتكرر من قبل رعاة البقر، ومنها من يهتم بخفة وزنه ليساعد على سرعة ركض الحصان، وأخرى تركز على ليونته لاستخدامه في السباقات. وهناك أنواع من السروج، أبرزها السرج العربي المغربي والمكسيكي، إلى جانب الإسباني والعربي.. بينما يروي الحاج بوغريو مراحل تصنيع السروج قائلاً إنها تتطلب تفاعل مختلف الحرف فيما بينها، كالنجارة والدباغة والحدادة، والخياطة والتطريز. أولى هذه المراحل تبدأ بالقالب الذي يُصنع من أنواع مختلفة من الأخشاب بحسب الجهات والمناطق، من بينها خشب التوت، ليأخذ شكلاً مميزاً يُرفع فيه القربوس الأمامي الصغير، فيما يأخذ القربوس الكبير شكل المسند الخلفي ليحافظ على توازن الفارس وراحته. وتأتي المرحلة الثانية، التي يغلف فيها القالب بأحد الجلود ومن ثمة غمسه في الماء، وصولاً إلى خياطته بطريقة يدوية وتجليده بخيوط جلدية مشمعة، و بعد تجفيفه يتقلص الجلد ويأخذ شكل القالب مانحاً إياه صلابة إضافية تزيد من تماسكه، وحمايته من التشقق. وتحيط بالقالب قطع تُصنع بأيادي السرّاج، وأخرى يشرف عليها عمال الحدادة أو النجارة، ومن بين هذه القطع يبرز اللجام الذي يتكون من قطع تلف رأس الحصان، فهناك حزام رقيق يمر حول الرقبة، ويمتد بشكل متوازٍ مع وجنتي الحصان ليرتبط بالشكيمة والعنان، وتزيّن جبهة الحصان قطعة مطرزة، ويحتوي اللجام أيضاً على كمامات الأعين لحفظ عيني الخيل من الغبار، وتوجيه نظره إلى الأمام. ويحيط بالقالب أيضا الركاب، وهما دائرتان من حديد صلب تتصلان بحزام وتتدليان من طرفي الحصان، يستعملهما الفارس بوضع قدمه داخل إحداهما والقفز فوق ظهر الحصان أو النزول عنه.. أما الزمام أو الصراعات فتتشكل من حبل مفتول، من خيوط القطن، يستعمل لقيادة و توجيه الحصان.. بينما الفرش الصغير يوضع بين السرج و ظهر الحصان للتخفيف من الاحتكاك بينهما.. ثم الحزام يستخدم لتثبيت القالب فوق ظهر الحصان. ويتراوح سعر السرج بين ألفين و3 آلاف دينار تونسي حسب جودته ومواصفات الطلب، فيما تتطلب صناعته مدة لا تقل عن شهر و نيف بحسب الحاج بوغريو.. أما عبد الوهاب الخراط، رئيس غرفة صناعة الأحذية والسكاجة التقليدية بصفاقس، فيقول: "لابد من تظافر الجهود بين وزارات الإشراف، لإنقاذ هذه الصناعة عبر تدريب الشباب وتأطيره حتى يستطيع توارثها عن أصحابها، بالإضافة إلى ضرورة التخفيف من تكلفة المواد الأولية المستعملة كالخيوط و الجلد". من جهة أخرى قالت المندوبة الجهوية للصناعات التقليدية بصفاقس ، آمال دريرة، إنها تلقت مبادرة من المطلعين، وبعض المعنيين بحرفة صناعة السروج، تقضي بتدريب الشباب على إتقان هذه المهنة"، مشيرة إلى أن هذه المبادرة لاقت استحساناً من كل الأطراف.. كما لفتت دريرة إلى أن هذه المبادرة ستنطلق في أقرب وقت، وستُنظم داخل فندق الحدادين، بالمدينة العتيقة، كما أن الدولة ستتكفل بكل المصاريف لإنجاح هذه الحركة، وإعادة الروح لهذه الصناعة. وعرفت تونس، صناعة سروج الخيل، في القرن الخامس عشر ميلادي، بحسب مؤررخين.. وكانت تتركز أساساً في محافظة تونس الكبرى، وباجة والقيروان.. كما شهدت محافظة صفاقس أوج عطائها في هذه الصناعة خلال خمسينيات القرن الماضي، الذي يعتبره أرباب المهنة "العصر الذهبي" لصناعة السروج.. وساهم في ذلك الطابع الزراعي الطاغي على أغلب الأرياف والمدن المجاورة للمحافظة التي كانت تحتاج إلى كل ما يتعلق بلوازم الحرث والنقل بالوسائل التقليدية آنذاك. وكان سوق "البرادعية" مخصص لصانعي السروج والبرادع لا غير، قبل أن تُقفل أغلب أبوابه، ولم يتبق اليوم من عشرات الحرفيين إلا الحاج السبعيني منذر بوغريو.. كما لم يتبق من زبائن هذه الصناعة إلا عدد من الفلاحين الذين لازالوا يحافظون على استعمال الوسائل التقليدية في التنقل أو في العمل، بالإضافة إلى نوادي الفروسية المنتشرة بأعداد ضئيلة بالمحافظة، مع بعض الطلبات التي ترد من دول الخليج على السروج التونسية. * وكالة أنباء الأناضول