ودعوة إلى هدنة مقابل التزامات محددة لوزارة العدل شهدت محاكم المملكة في الآونة الأخيرة حركة احتجاجات غير مسبوقة. إذ عرفت هذه السنة تطابقا في المواقف بين النقابات الثلاث في القطاع، على الرغم من أنه غير متوافق حوله لعدم رغبة إحدى الأطراف النقابية في التنسيق. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن هذا الوضع غير المسبوق –والمطلوب أيضا- لعبت فيه الجامعة الوطنية لقطاع العدل (العضو في الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب) دورا كبيرا. حيث كان تأسيسها إيذانا ببداية إيقاع جديد، فرض على الأطراف النقابية الأخرى إعادة النظر في منهجية تعاطيها مع مطالب أطر وموظفي العدل وفي طريقة تدبيرها للملف المطلبي عموما. وقد لمس الجميع هذا التغيير بشكل كبير سنة 2009؛ حيث تقوت الجامعة الوطنية بانضمام عدد مهم من المناضلين إليها، وانخراط مدن ومحاكم في صفوفها. وإذا أردنا أن نؤرخ للتحول المفصلي بالقطاع فإننا نقول بأن الإضراب الإنذاري ل 4 نونبر 2009 هو الذي لا نزال نجني ثماره إلى اليوم، فهو: أولا: جعل الوزارة تنتبه إلى وجود حساسية أخرى بالقطاع. وهي حساسية ما كانت لتظهر لولا الفشل الذريع لحساسيات أخرى، منها من لا يزال مزهوا بنتائجه في اللجان الثنائية "المركزية" وباكتساحه لودادية الموظفين المعتبرة في حكم "الموؤودة". وانتباه وزارة العدل هذا ليس حبا في الوافد الجديد –الذي استطاع أن يحصل على 12 في المائة من مقاعد اللجان الثنائية حتى قبل مرور سنة على ولادته، ورغم استهداف لوائحه في عدد من الدوائر القضائية- ولكن وجوده الميداني فرض عليها ذلك. ثانيا: ألزم الإطارات النقابية بتمحيص خياراتها، وجعلها أقرب لانشغالات موظفي القطاع. فنظرة بسيطة لصيرورة الاحتجاجات بالقطاع تظهر بأن الإدارة المركزية كانت تملك خيوط فرملة أية خطوة نضالية، ولذلك كثيرا ما شهدنا تعليق عدد من الإضرابات المقررة، كما كنا لا نفهم أن يبقى مكتب وطني في سباته العميق ليخرج بعد شهور ببلاغ يتيم يشرح فيه الوضعية المزرية، لكن دون امتلاك استرتيجية نضالية واضحة. كما لا نفهم اختيار مواقيت تقرير الإضرابات والتي كانت بكل تأكيد تخدم أجندات أخرى غير المطلب الأول لموظفي القطاع وهو النظام الأساسي لهيئة كتابة الضبط. كل هذا يقع ويحدث والسند بأيدينا، وهو الخطاب الملكي في افتتاح السنة القضائية بأكادير في 29 يناير 2003، أي سنة تأسيس نقابة الفدرالية بالقطاع. وعلى ذكر النظام الأساسي، فيؤسف له أن يشارك هذا الإطار النقابي في إعداده –وقد أقر بذلك في عدة بلاغات له- على الرغم من أن هذا القانون أجهز على مكتسبات كانت قائمة. وقد كنا ننادي وقتها بعدم الاستعجال بإقراره حتى يتضمن الحد الأدنى من مطالب موظفي القطاع، لكنه أبى من سيدناه علينا آنذاك إلا أن يكون مع إرادة الوزارة، الأمر الذي سوغ أن توصف تلك النقابة وقتها بنقابة الوزير، وخصوصا في عهد السيد عبد الواحد الراضي الكاتب الوطني لحزب الاتحاد الاشتراكي، الذي تعتبر الفدرالية ذرعه النقابي، بعد تأسيسها سنة 2002 إثر الانشقاق الذي عرفه الحزب وانفلات الكنفدرالية من بين يديه. ثالثا: وهي أهم من كل ما سبق. حيث بدأ موظفو القطاع يطرحون الأسئلة ويناقشون القرارات النقابية ويتداولونها فيما بينهم، وهو ما سمح بانتشار الوعي النقابي، ولم يعد ممكنا معه تقبل العبثية في الخيارات والفوضى في الاختيارات؛ وهو أكبر مكسب ربحه القطاع. ومما أفرزه ذلك هو مساءلة النقابات وخصوصا النقابة التي تعتبر نفسها أكثر تمثيلية (وأكثر تمثيلية حسب ما هو جاري به العمل هو أن تحصل النقابة على أكثر 6 في المائة فما فوق من عدد الناخبين في اللجان الثنائية)، إذ تعرضت لانتقادات كثيرة وصلت حد الشك في مصداقيتها، كما طالها سيف الانسحابات في هذه الدائرة القضائية وتلك. وقد تقوى ذلك أكثر بعد نشوتها بعقد اتفاق مع وزارة العدل بعيد تنصيب الوزير الجديد الأستاذ محمد الطيب الناصري. وهو اتفاق تشاءم به الفدراليون قبل غيرهم، والواقع أثبت أنه فارغ من أية مكاسب إلا أن تكون مكاسب ومغانم متفق على إخفائها، لكن المؤكد هو التعثر الجديد للملف المطلبي. وكم كان مستغربا أن تتبنى النقابة المقصودة طروحات الوزارة وأصبحت تدافع عن مواقفها بدون خجل، إلى درجة وصل بها الحماس نشر تطمينات بكون النظام الأساسي يوجد لدى الديوان الملكي!! ولم يذخروا جهدا لتبرير ذلك حتى إنهم ادعوا في جموعات عامة أن لديهم دليلا كتابيا على ذلك، ولم تمر إلا شهور قليلة حتى انبروا ليصبوا جام غضبهم على وزارة المالية بدعوى أنها قامت بتغليط موظفي كتابة الضبط، والحال أنهم هم من غُلطوا واستُبْلِدُوا. قراءة في موقف التصعيد: من المعلوم أن تعليق فدرالية العدل لبرنامجها النضالي إثر الاتفاق المشؤوم المذكور كلفها غاليا، سواء من الناحية التنظيمية أو من الناحية الإشعاعية. فتوقفها المفاجئ واللامبرر جعل الأسئلة تتناسل من هنا وهناك، ووصل الأمر إلى وضع مسؤوليها تحت المجهر. فبدأنا نسمع عن الإيواء المجاني لمسؤولها بالمركب الاجتماعي للرباط منذ سنوات، كما بدأ يتداول استفادته أيضا من منحة سنوية قدرها 10 ملايين سنتيم نظير إدارته لودادية موظفي العدل!! هذه الأخيرة التي تتلقى منحا من الوزارة الوصية، كما نال مناضلوها هم أيضا نصيبهم، من خلال حصولهم على ما يقارب نصف مناصب المسؤولية بمصالح المحاكم الشاغرة، وكان أبرزهم مسؤول بودادية الموظفين، هذا الأخير الذي ظفر بمنصب المسؤولية على الرغم من عدم استيفائه للشروط المطلوبة، حيث اشترطت المذكرة الوزارية المعلنة عن تلك المناصب أنها مفتوحة في وجه المرتبين في السلم 11 أو السلم 10 الذين قضوا عشر سنوات من الخدمة الفعلية بهذه الصفة. والحال أن هذا النقابي المحظوظ لم يكمل سنته الخامسة بعد في السلم العاشر. وهذه شكوك لم تعلن النقابة موقفها منها لحد الآن، على الرغم من انتشارها في المحاكم انتشار النار في الهشيم، وساهمت في تثبيط العزائم لدى الكثير، بل منهم من ربط بينها وبين التعليق المفاجئ للإضراب في القطاع. وإذا كانت فدرالية العدل قد مستها شظايا كل ما ذكر وسبب في إضعافها، فقد اختارت العودة إلى الساحة باعتبار ذلك هو الكفيل بلملمة جراحها، وفعلا سابقت الزمن وأعلنت إضرابا مبكرا في شتنبر الماضي، وكان استباقيا بكل المقاييس، والهدف منه هو إعادة الاعتبار لنفسها ومحاولة سحب البساط من نقابتي الكنفدرالية والاتحاد الوطني، هاتين النقابتين اللتين أكملتا الموسم الماضي بإضرابات موحدة ولم يوقفها إلا العطلة القضائية. ومما يلاحظ أن هذه العودة المتأخرة للفدرالية كانت جامحة، إلا أنها سرعان ما خفتت من جديد بدعوى تدخل بعض الجهات وتوج بتوجيه اعتذار للشعب المغربي في سابقة خطيرة تستبطن الإيمان بتجريم الإضراب عن العمل، لتتأجج مرة أخرى بعد إقرار الزيادة في تعويضات الحساب الخاص، كل ذلك في ظرف وجيز، مما ينبئ عن تخبط وارتجالية غير معهودة، يصلح معها أن توصف بما رجمت به النقابتين الأخريين من أنها دكاكين نقابية، خاصة ونحن نعلم أنها كانت تطبل لمكاسب فارغة ووعود كاذبة، بينما لم تستطع هذه المرة قبول أحد أهم المكتسبات وهي مضاعفة هذه التعويضات بما يقارب الأربع مرات، والأدهى من ذلك والخطير هو أنها تريد إعدامها من خلال دعوتها في بلاغ رسمي أخير إلى تحويل هذه التعويضات إلى النظام الأساسي، والحال أن مطالب موظفي القطاع كانت دائما وأبدا هي فصل الزيادة في الأجرة عن الزيادة في تعويضات الحساب الخاص، إذ هما مطلبين وليسا مطلب واحد، والزيادة في أحدهما لا يلغي الزيادة في الآخر. أليس لدينا وزير رشيد؟ ليس خفيا على أحد أن مستندنا في مطالبنا هي الخطابات الملكية بالدرجة الأولى، حيث كان خطاب 29 يناير 2003 واضحا حين دعا جلالة الملك إلى "وضع نظام أساسي محفز لكتاب الضبط، تحصينا لهم من كل الإغراءات والانحرافات، المخلة بشرف القضاء ونزاهة رسالته". وهو مقصد ملكي التفت حوله الوزارة الوصية للأسف، وأعدت قانونا أساسيا خاليا من أي تحفيز، ولا ينتظر منه أي تحصين. كما كان خطاب صاحب الجلالة في 20 غشت 2009 والداعي إلى "إخراج القانون الأساسي لكتاب الضبط" تلميحا آخر يفهم منه إعادة النظر في النظام الأساسي بما يحقق المطلوب منه، وهذه دعوة صريحة بضرورة تضمينه مقومات التحصين والتحفيز، لأن هذا الخطاب الملكي لا يمكن شرحه إلا بناء على ضوء الخطاب الملكي السابق له. لكن، وكأن التاريخ يعيد نفسه، أعدت وزارة العدل مشروعا جديدا بناء على التعليمات الملكية، عمدت فيه إلى إجراء تعديلات شكلية وغير ذات معنى، إلا في القليل من مواده، بينما ضربت بعرض الحائط عددا من التعديلات التي سبق أن قدمت لها سواء من الجامعة الوطنية أو من غيرها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: استقلالية كتابة الضبط وتقويتها من خلال إقرار هيكلة تنظيمية حديثة، والتنصيص على مؤسسة رئيس كتابة الضبط، إضافة إلى تحديد وتوصيف المهام وفق معايير موضوعية محددة، وحذف الحواجز بين أطر كتابة الضبط.. وغيرها من المطالب الأخرى ذات الطابع الاعتباري أكثر منه طابع مادي، وهي بالمناسبة لا تتطلب تكاليف مالية وليس لها تأثير يذكر لا في الموازنة العامة للحكومة ولا الخاصة لوزارة العدل، بل بالعكس ستساهم في تقوية كتابة الضبط حتى تتمكن من أداء الأدوار المنوطة بها أحسن أداء. من وجهة نظري، وانسجاما مع إيماني العميق بمبادئ الجامعة الوطنية لقطاع العدل المرتكزة على أساس الوضوح والمصداقية والواقعية، وانطلاقا من مسؤولياتي كعضو بالمكتب الوطني للجامعة، وعضو سابق في لجنة الحوار مع وزارة العدل، وبناء على شعوري بالمسؤولية في ضرورة إبداء الرأي والمقترحات والمبادرات التي تتناسب وحجم التصعيد الذي يشهده القطاع، والذي أجزم أن نقابة الجامعة الوطنية ساهمت فيه بحظ وافر؛ بما يجعلها رقما في المعادلة الصعبة لا يمكن القفز عليه مما يحتم على الوزارة الوصية استحضاره حتى لا تتكرر الأخطاء التي تنتج أحيانا عن عدم المسؤولية في التعامل مع الوقائع، الأمر الذي يفرض عليها إشراك الجامعة في أية خطوات لاحقة، وإلا فسيؤدي عدم إشراكها إلى توفير الظروف المناسبة لإشعال فتيل التوتر في القطاع من جديد، وهو ما تجني الإدارة نتائجه المرة اليوم. بناء على كل ذلك، أقترح على الإخوة في الجامعة الوطنية وعلى التمثيليات النقابية الأخرى من جهة، وعلى السيد وزير العدل من جهة ثانية، خارطة طريق لتهدئة الأوضاع بالقطاع، وهي رغبة عدد من الزملاء وعدد آخر من الموظفات والموظفين، الذين يؤكدون أن لا مصلحة لهم في وجود التوتر واستمراره بالقطاع، إذ الإضراب عندنا من أبغض الحلال، كما يشاطرني فيه عدد آخر من المناضلين في النقابات الأخرى. وأقول، إن الخيارات الممكنة اليوم متعددة، والتوقف دون نتائج لا مكان له بينها، ولذلك أقترح ما يلي: نعم لتهدئة محددة بمدة معقولة الأمد، لكن ليس على بياض، بل على برنامج متوافق حوله، ووفق جدولة زمنية محددة. وهذه التهدئة ستكون فرصة لإعادة مراجعة النظام الأساسي بما يسمح بإدخال التعديلات والمقترحات التي لم يتضمنها المشروع الحالي، مع اعتبار سنة 2011 هي السقف الزمني لإقراره وفي ظل الحكومة الحالية. في مقابل ذلك، يجب أن تلتزم الوزارة بما يلي: +اعتبار النقابات شركاء وليست خصوما، وهذا يتطلب جدولة جلسات الحوار، وإشراكها في جميع ما يتعلق بالحياة المهنية للموارد البشرية بالقطاع. +احترام الحريات النقابية وفق ما أقرته الاتفاقيات الدولية ووفق القوانين الجاري بها العمل. وتشكيل لجنة مشتركة بين الوزارة والإطارات النقابية، مهمتها تتبع مدى التزام المسؤولين محليا ووطنيا باحترام هذه الحريات. +تقوية الخدمات الاجتماعية من خلال التعجيل بما يلي: *ضرورة التعجيل بإخراج قانون المؤسسة المحمدية للأعمال الاجتماعية لقضاة وموظفي العدل، مع ضمان تمثيلية النقابات وودادية موظفي العدل. *الزيادة في المنحة المقدمة للمتقاعدين برفعها من 20.000 درهم إلى 60.000 درهم وخاصة للمقبلين على التقاعد قبل 2012. *تقديم مساعدات لامتلاك السكن للمقبلين على التقاعد؛ إما بأداء قسط من الأقساط المتخلذة في ذمة بعضهم، أو بتقديم دعم وقروض تفضيلية لغير المالكين منهم لأي سكن. وهذه المقترحات يجب أن تتدارسها لجنة أخرى مشتركة قصد الاتفاق على تفاصيلها الكاملة. *تمكين موظفي كتابة الضبط من تعويضات الحساب الخاص في أجل سنوي قار ودائم. *جعل تعويضات الحساب الخاص قارة في المبلغ السنوي الأقصى المحدد بمقتضى المرسوم المنظم لها، وعدم التلاعب في مبالغها كل سنة. وهذه المقترحات كلها في متناول الوزارة الوصية وليست تعجيزية، وهي ذات صبغة استعجالية، ويمكن أن يتم الاتفاق عليها والالتزام بها في ظرف زمني يسير. وإذا قبلت بها الوزارة فيمكن أن تخفف من التوتر السائد بمحاكم المحكمة إن لم توقفه، على أساس أن يستمر التفاوض على النظام الأساسي وفق ما يحفظ حق موظفي هيئة كتابة الضبط من إقراره بما يحقق التحصين والتحفيز. وأما تعويضات الحساب الخاص التي تم إقرارها من قبل المجلس الوزاري الأخير فلا يجب أن تكون محل نقاش بالبث والمطلق، والذين يقولون برفضها يرتكبون جريمة لا تغتفر، لأنها تبقى مكبسا من مكاسب ملفنا المطلبي؛ الذي كان دائما يفرق بينها وبين التعويضات الأخرى التي ينتظر أن تكون في صلب النظام الأساسي. وتبقى هذه مبادرة أتمنى أن تجد آذانا صاغية لدى كل الجهات المعنية، وهي كما ذكرت -ولئن قمت بتسويدها- فهي قناعة عدد كبير من موظفات وموظفي القطاع. فهل تتعقل وزارتنا ؟ وهل يعود بعض المغفلين إلى رشدهم ممن طرأ عليهم الرفض من دون الرجوع للقواعد التي بوأتهم ما هم فيه من بحبوحة العيش؟ *منتدب قضائي إقليمي بابتدائية تزنيت *عضو المكتب الوطني للجامعة الوطنية لقطاع العدل [email protected]