اليمن.. الحوثيون يهددون بمواجهة "التصعيد بالتصعيد" وواشنطن تعلن مقتل العديد من قادتهم    اسكتلندا.. حمزة إغمان يمنح الفوز لرينجرز في ديربي غلاسكواسكتلندا.. حمزة إغمان يمنح الفوز لرينجرز في ديربي غلاسكو    وداد برطال تتوج بلقب بطولة العالم للملاكمة النسائية في صربيا    توقعات احوال الطقس ليوم الاثنين.. أمطار وثلوج    موقع أوديسيه: المغرب 'إلدورادو حقيقي' للمستثمرين ووجهة الأحلام للمسافرين    التساقطات المطرية الأخيرة تنعش آمال الفلاحين وتحسن الغطاء النباتي بالحسيمة    البحيري: سعداء بالتتويج بلقب البطولة    هبات رياح قوية مع تطاير الغبار وتساقطات ثلجية مرتقبة يومي الاثنين والثلاثاء بعدد من مناطق المغرب    لا أيمان لمن لا أمانة له ...    الأدوية الأكثر طلبا خلال رمضان المضادة للحموضة و قرحة المعدة!    إحياءا لروح الوحدة والاستقلال.. وفد من الشرفاء العلميين يزور ضريح محمد الخامس ترحما على روحه الطاهرة    اندلاع حريق مهول بحي المهاجرين العشوائي بتزنيت يسائل سياسات الإيواء والاندماج    حفل موسيقي مميز يُلهب أجواء المركز الثقافي ليكسوس بحضور جمهور غفير    الأعمال الفنية الرمضانية: تخمة في الإنتاج ورداءة في الجودة    إغلاق السوق المركزي لبيع الأسماك بشفشاون: قرار رسمي لحماية الصحة العامة وتنظيم النشاط التجاري    الغلوسي: الفساد يتمدد بفعل غياب الديمقراطية وقوى الفساد تنشر التخويف وتُشرّع لنفسها    إسبانيا تُمدد فترة التحقيق "السري" لنفق سبتة بعد تسجيل تطورات    شبهة التهريب الدولي للمخدرات تتسبب في توقيف سائق شاحنة بطنجة    ترامب يجمّد عمل إذاعات أمريكية موجهة إلى الخارج    عواصف وأعاصير تخلف 33 قتيلا على الأقل في الولايات المتحدة    رياح وتساقطات ثلجية الاثنين والثلاثاء    الأرصاد الجوية تحذر من أمواج عاتية    ارتباك النوم في رمضان يطلق تحذيرات أطباء مغاربة من "مخاطر جمّة"    السلطات تمنع محامين إسبان موالين للبوليساريو من دخول العيون    "الثقافة جزء من التنمية المحلية" عنوان أجندة مجلس مقاطعة سيدي البرنوصي    انخفاض جديد في أسعار المحروقات بالمغرب..    الإهانة في زمن الميغا امبريالية: عقلانية التشاؤم وتفاؤل الإرادة.    عشرات الآلاف يتظاهرون في صربيا ضد الفساد    في اليوم العالمي لمكافحة الإسلاموفوبيا    اتحاد طنجة يكرس سلسلة تعادلات الوداد و يرغمه على تعادله الرابع تواليا    المغرب وموريتانيا يعززان التعاون الإعلامي في عصر التحولات الرقمية    المُقاطعة أو المجاعة !    نسيم عباسي يتيح أفلامه السينمائي للجمهور عبر "يوتيوب"    ضبط أزيد من 18 ألف قنينة من المشروبات الكحولية في مخزن سري بالناظور    العدالة والتنمية يحمل الحكومة مسؤولية التأخير في إعادة إيواء متضرري زلزال الحوز    وزير الداخلية الفرنسي يهدد بالاستقالة إذا ليّنت باريس موقفها مع الجزائر    المغرب يتصدر إنتاج السيارات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا    تطبيق "تيليغرام" يسمح بتداول العملات المشفرة    السكتيوي يستدعي 32 لاعبا لإجراء تجمع إعدادي تأهبا ل"شان" 2024    "آتو مان" أول بطل خارق أمازيغي في السينما: فيلم مغربي-فرنسي مستوحى من الأسطورة    مصرع 51 شخصا في حريق بملهى ليلي في مقدونيا الشمالية    من الناظور إلى الداخلة.. عضو في كونفيدرالية البحارة يكشف عن التلاعب بأسعار السمك    الجزائر واكتشاف البطاقة البنكية: بين السخرية والواقع المرير    استمرار ضطرابات الجوية بالمغرب طيلة الأسبوع المقبل    فوزي لقجع.. مهندس نجاح نهضة بركان وصانع مجدها الكروي    سائق دراجة نارية يحتج على سلوك غير أخلاقي في كورنيش طنجة    ملكة الأندلس تتربع على عرش الجماهيرية دون منازع    تتويج "عصابات" بجائزة "فرانكوفيلم"    فيضانات وانهيارات أرضية تجتاح شمال إيطاليا (فيديو)    نهضة بركان يدخل تاريخ الكرة المغربية بأول لقب للبطولة الوطنية    الشعباني: "لقب نهضة بركان مستحق"    تأثير مرض السكري على العين و عوارض اعتلال الشبكية من جراء الداء    أبرز المعارك الإسلامية.. غزوة "بني قينقاع" حين انتصر النبي لشرف سيدة مسلمة    الغذاء المتوازن و صحة القلب في رمضان !!    فرنسا تعلن استيراد الحصبة من المغرب    أهمية الفحوصات الطبية خلال شهر رمضان    ظاهرة فلكية نادرة مرتقبة فجر يوم غدٍ الجمعة    أداء الشعائر الدينيّة فرض.. لكن بأية نيّة؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغيث سبيل السلامة وليس موضع الملامة
نشر في هسبريس يوم 04 - 12 - 2014


بسم الله الرحمن الرحيم
جعل الله تعالى في تكوير الليل على النهار حِكما، وفي تقلب الأزمان آيات وعِبرا، وفي تقسيم الأيام إلى فصول متعاقبة تشريعات وأحكاما.
وها نحن قد حل بنا فصل الشتاء، فصل الأمطار والخيرات والبركات، فصل تستبشر به الوجوه، وتصح به الأبدان، وتتسربل فيه الأرض بلبوس الاخضرار والاعشيشاب. فصل يشمر فيه الصادقون على ساعد العبادة، ويتأهبون فيه المخلصون للاستزادة من الزهادة، حيث يقصر فيه اليوم للصيام، ويطول فيه الليل للقيام.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"الصوم في الشتاء: الغنيمة الباردة" صحيح سنن الترمذي.
قال ابن رجب:"معنى أنها غنيمة باردة: أنها حصلت بغير قتال، ولا تعب، ولا مشقة؛ فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفواً صفواً بغير كلفة".
ولذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يستبشر بقدوم فصل الشتاء ويقول:"مرحباً بالشتاء، تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".
ومهما صاحب المطر من أضرار مادية ومعنوية، يبقى مصدر خير للبشرية، بل وسبيل حياة لكل الكائنات، مما يحوج إلى العناية بالحكم والأحكام الشرعية التي علينا استحضارها بهذه المناسبة:
1 إن المطر نعمة من الله تعالى، يحيي به الأرض، وينبت به الزرع، ولذلك سماه غيثا، وجعل أثره رحمة منشورة بين الناس. قال تعالى:"وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ".
ولثد كان السلف يقدرون هذه النعمة قدرها، ويستبشرون برؤية الماء.
نقل الإمام ابن كثير في البداية والنهاية عن صَالِح ابْن الإمام أَحْمَد بن حنبل رحمهما الله قال:"كَانَ أَبِي لَا يَدَعُ أَحَدًا يَسْتَقِي لَهُ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ، بَلْ كَانَ يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا خَرَجَ الدَّلْوُ مَلْآنَ، قَالَ: الْحَمْدُ لله. فقلت: يا أبت، ما الفائدة بذلك؟ قال: يَا بُنَيَّ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وجل :"أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ".
وهذا ما كان يدفعهم إلى العناية بتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في الاقتصاد في الماء. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو –رضي الله عنهما-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِسَعْدٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: "مَا هَذَا السَّرَفُ؟" فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ" حسنه في الصحيحة.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ" صحيح سنن أبي داود.
والمطر رزق يصيب الله به المؤمن رحمة ونعمة، ويصيب به الكافر استدرجا. قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ"، ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :"فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ" الصحيحة.
2 المطر من الله، وليس صادرا عن جهة أخرى، مهما تقدمت العلوم وتطورت التقنيات، كما ليس صادرا عن النجوم والكواكب كما كان يعتقد المشركون عند مجيء الإسلام.
عن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَصَابَنَا مَطَرٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ:"أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟". قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ:"قَالَ اللَّهُ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَبِرِزْقِ اللَّهِ، وَبِفَضْلِ اللَّهِ، فَهْوَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا، فَهْوَ مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ، كَافِرٌ بِي" البخاري. قال تعالى:"أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ".
فالأرصاد الجوية علم يستأنس بأخباره، باعتباره اجتهادا بشريا، ولكن لا ننسب إليها علم نزول المطر أو عدم نزوله. قال تعالى:"وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ"، وقال تعالى:"إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ"، إذ مشيئة الله قادرة على مسك المطر وإن وجدت دواعيه العلمية، كما وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَحَطَ الْمَطَرُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. فَدَعَا، فَمُطِرْنَا، فَمَا كِدْنَا أَنْ نَصِلَ إِلَى مَنَازِلِنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :"اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا". قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ السَّحَابَ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وَشِمَالاً، يُمْطَرُونَ، وَلاَ يُمْطَرُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ" متفق عليه.
ولذلك صلاة الاستسقاء ودعوات الصالحين تَستجلب المطر، كما فعل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حين قَحَطُوا، فاسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا". قَالَ: فَيُسْقَوْنَ" البخاري.
كما أن منع الزكاة يمنع المطر. قال النبي صلى الله عليه وسلم :"وما منع قوم الزكاة، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا" صحيح الترغيب.
3 من الآداب الشرعية أن ندعو الله عند طلب الغيث بأن نقول:"اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مَرِيئًا، مَرِيعًا، طَبَقًا (عاما واسعا)، عَاجِلاً غَيْرَ رَائِثٍ (غير بطيء ولا متأخر)، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ" صحيح سنن ابن ماجة. أو نقول:"اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا".
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ناشئا في أفق السماء ( السحاب الذي لم يكتمل اجتماعه)، ترك العمل وإن كان في صلاة، ثم يقول:"اللهم إني أعوذ بك من شرها"، فإن مُطر قال:"اللهم صيبا هنيئا (والصيب: ما سال من المطر وجرى )" صحيح سنن أبي داود. ويقول أيضا :"مُطرنا بفضل الله ورحمته" متفق عليه.
والدعاء تحت المطر مستجاب. قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء، وتحت المطر" حسنه في صحيح الجامع. قال المناوي:"لأنه وقت نزول الرحمة".
وقال صلى الله عليه وسلم :"اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث" صححه في صحيح الجامع.
فإذا نزل المطر، وخُشي منه الضرَر، نقول مع رفع اليدين:"اللهم حَوَالَيْنَا ولا علينا. اللهم على الآكام، والظِّراب (التلال والمرتفعات)، وبطون الأودية، ومنابت الشجر" متفق عليه. قال النووي:"في هذا الحديث استحباب طلب انقطاع المطر على المنازل والمرافق، إذا كثر وتضرروا به".
4 يجوز التبرك بأول قطرات الغيث، لأنه رحمة. قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه :"أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ، فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ:"لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى" مسلم. قال الإمام النووي رحمه الله :"ومعناه أنَّ المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله لها، فيُتَبَرَّكُ بِها".
إن ما أصاب بلدنا من نكبة جراء الأمطار الأخيرة، لمؤذن بالتأمل في جملة أمور:
1 إن كثرة المعاصي تورث النقم، وتجعل النعمة أحيانا وبالا، فلنلم أنفسنا على تقصيرنا قبل أن نُنيح باللوم على المطر وفصل الشتاء.
2 إن ما حدث من تهدم للقناطر حديثة العهد، وترهل للطرقات، وانحباس للمجاري، دليل على الغش الذريع لبعض من تقلدوا مسؤولية بناء هذه المنشآت، وتأسيس بنيتها التحتية، حيث سيطر حب الذات والمصلحةُ الشخصية على مصالح الناس، فاستُسهلت مصائب الناس ومعاناتهم، واستُرخصت أرواحهم، واستُخف بمصالحهم ومصائرهم، ولو راعوا ذلك، لأتقنوا أعمالهم، وأدوا الأمانة التي عليهم. قال تعالى:"وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" صحيح الجامع.
وقال تعالى:"الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"، فسره أهل العلم بأنه العمل الذي يكون خالصًا صوابًا؛ فالخالص أخروي، والصواب هو الإتقان، وأدنى شعب الإيمان في الإسلام: إماطة الأذى عن الطريق.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعروف فقال:"لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً، وَلَوْ أَنْ تُعْطِىَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنَ تُعْطِىَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ" الصحيحة.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يحتاط للأمانة، ويعرف حق المسؤولية، حتى تجاوزت أمانته الإنسان إلى الحيوان، فقد اشتهر قوله:"لو أن ناقة عثرت في أرض العراق، لخفت أن يسألني الله عنها: لِم لَم أعبد لها الطريق؟"، هذه ناقة يَخشى من السؤال عنها يوم القيامة، فكيف اليوم بآلاف الناس المتضررين بسوء أحوال الطرقات، التي قد تؤدي إلى تعطيل مصالحهم، وربما الجناية عليهم؟.
وأثر عنه رضي الله عنه أنه قال:"لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضياعاً، لخشيت أن يسألني الله عنها"، هذه شاة صغيرة تاهت في الطريق فماتت، ظن أنه سيسأل عنها، فكيف بأرواح الناس الذين تهدمت بهم القناطر، أو هوت بهم الشوارع، أو سقطوا في مصارف المياه غير المغطاة، أو في الحفر العميقة المنتشرة هنا وهناك؟.
إذا عمل المرءُ المكلف مرةً *** عَمَلًا فإنّ العيبَ ألاَّ يحسنَه
فقدْ ذكرَ المختارُ أنّ إلهنَا *** يحبُّ لعبدٍ خافَهُ أنْ يتقنَه
3 وإن على الناس بدورهم أن يحتاطوا لأنفسهم في مثل هذا المناخ المتقلب، وألا يغامروا بأنفسهم في الأماكن التي لم تتبين سلامتها، كنزول الأودية والشعاب، وخوض السيول، والسياقة على الأوحال.
4 ولا ننسى إخواننا المنكوبين، بتعزيتهم في موتاهم، وسؤال الله تعالى الشفاء العاجل لمصابيهم، ومؤازرة من فقدوا منازلهم ومأواهم، بمال، أو لباس، أو أفرشة وأغطية، أو دواء، فالشتاء يفضح أحوال الفقراء، فيبين عن شدة حاجتهم، فكيف إذا اجتمع مع ذلك شدة البرد، وشدة المصاب في الفقد والرزية؟، ولذلك كانت العرب تسمي الشتاء بالفاضح كما نقل عن الأصمعي .
رُفع إلى بعض الوزراء الصالحين أن امرأة معها أربعة أطفال أيتام، وهم عراة جياع، فأمر رجلا أن يمضي إليهم، وحمل معه ما يصلحهم من كسوة وطعام، ثم نزع ثيابه، وحلف قائلا:"لا لبستها ولا دفئت حتى تعود و تخبرني أنك كسوتهم وأشبعتهم". فمضى وعاد فأخبره أنهم اكتسوا و شبعوا، و هو يرعد من البرد، فلبس حينئذ ثيابه.
ولقد رأى مِسْعرٌ أعرابيا يتشرق في الشمس و هو يقول:
جاء الشتاء و ليس عندي درهم *** و لقد يُخَصُّ بمثل ذاك المسلم
قد قَطَّعَ الناس الجباب و غيرها *** و كأنني بفناء مكة محرم
فنزع مسعر جبته فألبسه إياها.
وخرج صفوان بن سليم في ليلة باردة بالمدينة من المسجد، فرأى رجلا عاريا فنزع ثوبه وكساه.
قال ابن المبارك رحمه الله :
هُمُومُك بِالْعَيْشِ مَقْرُونَةٌ *** فَمَا تَقْطَعُ الْعَيْشَ إلَّا بِهِمْ
إذَا تَمَّ أَمْرٌ بَدَا نَقْصُهُ *** تَرَقَّبْ زَوَالًا إذَا قِيلَ تَمْ
إذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحَافظ عَلَيْهَا بِشُكْرِ الْإِلَهِ فَإِنَّ الْإِلَهَ سَرِيعُ النِّقَمْ
حَلَاوَةُ دُنْيَاك مَسْمُومَةٌ *** فَمَا تَأْكُلُ الشَّهْدَ إلَّا بِسُمْ
فَكَمْ قَدَرٌ دَبَّ فِي مُهْلَةٍ *** فَلَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ حَتَّى هَجَمْ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.