النسقية التربوية : الرؤيا التربوية هي مجموع المبادئ و المفاهيم و المرتكزات و السياسات المتناسقة و الموجهة للعملية التربوية، إنها الإطار النظري الشامل أي " البوصلة التربوية ". الرؤيا اجتهاد نظري في طريقة التنزيل، اجتهاد محكوم بفهم المتغيرات الواقعية، ف"الواقع التربوي" بنية نسقية لها قوانينها التي تحركها و تتفاعل فيها مجموعة من العوامل. إن التحديدات التربوية مطروحة في الطريق، يأخد منها المغربي و العربي و الأعجمي، لكن العبرة في طريقة " السبك التربوي"، كيف نفكر و نحس ونعبر دون انفصام. هذا السبك نجسده من خلال" تأملات تربوية " في مفهوم " المنهاج "و تعالقاته النسقية التربوية، بعدها نرتمي في أحضان اللغة بحثا عن " ما ينقال ". المنهاج لغة، السنة و السبيل و الطريق المستمر كما يقول الشوكاني نقلا عن القرطبي، و اصطلاحا، مسار طويل منضبط بالأهداف و الأغراض و الوسائل اللازمة ( تخطيطا و تنفيذا و تقييما و تقويما)، و في كتب التربية هو المضمون الإجرائي التنفيذي للعملية التربوية أي مجموع البرامج و الوسائل المترجمة إلى أهداف تربوية في الواقع. " الأهداف التربوية" هي بنيات تحدد الغايات من العملية التربوية و العلاقات القائمة بين مكوناتها و تصاغ بدقة تحقيقا للأجرأة ( قابلية التنفيذ ) و تشمل الأفكار و السلوكات و الإنجازات المقدور عليها. و الأهداف تشمل الغايات، أو المقاصد العليا المجسدة في الرؤيا التربوية، و الأهداف العامة أي ما نريده من المنهاج التربوي، و الأهداف المرحلية المرتبطة بالتطور الحاصل في شخصية المتعلم، ثم الأهداف الإجرائية وهي عملية تنزيل للأهداف العامة و المرحلية ترتبط بوضعيات خاصة و بشكل منتظم مراعية البنية النسقية. والأهداف قد تكون تعليمية، اجتماعية، اعتقادية ، جمالية، سلوكية، و هي التي تحدد مضامين البرامج التربوية و وسائل الإنجاز و توجه العملية التربوية. "العملية التربوية" هي بدورها بنية نسقية تتفاعل فيها عناصر ثابتة ترتبط بالأسس و المرتكزات و عناصر متغيرة ترتبط بالظروف المحيطة بالمتعلم، و هي تشمل كل الأفعال و الممارسات المؤثرة التي تتوسل وسائل تربوية من جنس الأهداف. "الوسائل التربوية" هي مجموع الآليات و الأساليب التي تحقق الأهداف و الغايات و تمكن الفرد من "التفاعل النسقي"، و المطلوب التأصيل لكيفية إحداث هذا التفاعل و الاجتهاد فيه. و الوسائل التربوية من جنس الأهداف، فحين تختار الوسائل تسمو الأهداف، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، و قد تخلق الوسائل الخاصة شخصية مستقلة لما فيها من بعد إبداعي و ثقافة المبادرة، و يصبح الفرد نسقا ضمن نسق مؤسساتي يتنافس و يبحث عن " الرأسمال الرمزي" و " السيادة التربوية ". إن تحديدنا لهذه العناصر ليس لغرض تبسيطي أو تلقيني بل لإبراز" النسقية " و ديناميتها و البحث عن التعالقات و طرح آفاق للبحث في التناسق بين مكونات المنظومة التعليمية. "الشرعة التربوية": من مصادر التربية الوحي و التراث و العقل ثم الواقع، جاء في النص القرآني قوله تعالى: ( لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا)المائدة 48، فكل كلمة في هذه الآية بنية نسقية تفتح آفاقا تأملية، فتنوين النكرة " كل" يطرح الخصوصية و التعددية، أي كل إنسان و كل مربي و كل مؤسسة و كل دولة. و "الجعل" قانون كوني يخضع "للبرمجة الكونية " التي شمل قوانين خلقها الله تعالى من شمس و قمر وليل ونهار و مراحل تطور الإنسان.. إن " منكم"، أمانة اختيار، فليس أحد سواكم من يقوم بالمهمة، فأنتم المسئولون، لأنا جعلنا منكم، إن " الجعل" قانون الهي يفتح للذات آفاقها و اجتهادها، شرعتها و منهاجها، فإذا كانت الشرعة " فقه الدين" فان المنهاج " فقه للتدين"، و ما التدين إلا الدين في الواقع " المعيوش" لا " المعيش". إن الحكمة الإلهية في " منكم"، فمنكم الواقع و منكم المنهاج و منكم الشرعة التي راعت مصالحكم. إنها " الشراكة النسقية "، فلن تختار الشيء إذا لم تجد نفسك و كينونتك فيه، فلك " منك" و للأشياء "منها"، و أنت تأخذ من الأشياء ما يليق بك و لك، ف"منك " محدد أساسي لكل حركتك، فأنت مسئول عن الشيء لأنه منك، و الشرعة و المنهاج لم يأتيا إليكم من الخارج و لا من أي قانون خارج نسقكم، فالشرعة نسق و المنهاج نسق و أنتم من ينسق بينهما، فهما منكم، لما لكم من نصيب في بلورة كل منهما، فأنتم هنا لستم" المحكوم عليه" كما يقول الأصوليون، بل " حاكم" أيضا، فدوركم في فهم و تنزيل القيم على الأفعال و الأحداث. إن منكم ما تشاءون و ما تريدون، منكم العقل و الفهم و التدبير والتحصيل و التأصيل، أو منكم غير ذلك كما تريدون، و ما دامت" منكم" مرتبطة بإرادة الجعل، فمنكم " الشرعة" و روحها، فأنتم تساهمون في شرعنة الشرعة و شرعيتها و مشروعيتها، بمنهاجكم و شرعاتكم و تأملاتكم. و لنستمر في تأملنا اللغوي، ف"المنهاج اللغوي أوثق شرعة في البحث": فشرَعَ في يَشرَع، شروعًا، فهو شارع، شَرَعَ فِي العَمَلِ: أَخَذَ فِيهِ بَدَأَ، خَاضَ. شرَّعَ يشرِّع، تشريعًا، فهو مُشرِّع، شرَّع الفقيهُ القانونَ: سنَّه وجعله واجبَ التّطبيق. الشِّرْعَةُ: مذهب واتِّجاه مُعيَّن، هَذِهْ شِرْعَتُهُ، طَرِيقُتُهُ، مَنْهَجُهُ مَذْهَبُهُ الْمُسْتَقِيمُ، وشِرْعَةُ حُقُوقِ الإِنْسَانِ، مِيثاقٌ وعَهْدٌ، و شرعة الأممالمتحدة: دستورها جاء في بعض التفاسير أن الشرعة إشارة إلى اختلاف الملل و الأمم، فقد بعث الله رسلا مختلفة الشرائع في الأحكام، متفقة في التوحيد، فهناك نسقية الشرائع، فقد تكون شديدة أو خفيفة باختلاف نسقية الشعوب و المراحل التي تمر منها و باختلاف نسقية الأفراد أي الطبائع، و يمكن أن نسميه " علم الشرائع و الطبائع " أو " علم المسالك الطباعية و الأنساق الواقعية ". و جاء في التفسير أيضا أن الشرعة هي الشريعة، و تجمع الشرعة و الشريعة على شرائع لأن معناهما واحد، و كل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة، و الشرعة و الشريعة في كلام العرب: المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون منها و يستقون و ربما شرعوها لدوابهم. و من موادنا المدرسة في التكوين التربوي مادة التشريع المدرسي و هي مجموع القوانين التي تحدد تعامل رجل التعليم مع الإدارة، و هو تشريع قانوني لكنه لا يخلو من بعد تربوي، فما الإدارة بدون تربية ؟ كما أن الشارع، المشرَع هو العالم العامل المعلم، إذن كل معلم هو مشرع لدرسه ما دامت الشرعة في اللغة هي المنهج و الطريقة، و تصبح شرعته ميثاقا و عهدا بينه و بين كل عناصر العملية التربوية، و في مقدمتهم " المربي الأكبر". إذا نحن في حاجة إلى شرعة تربوية نجتهد من خلالها في وضع مناهج و برامج تنطلق من نسقية و خصوصية الإنسان المغربي عوض أن نجرب نماذج مختلفة و لا نتحمل مسؤولية اختياراتنا، نبذل الجهود و الأموال، و قد نهيئ مقررات جاهزة للاختيار وفق التصور المتبنى ( كما هو شأن " بيداغوجية الإدماج " مشروع " كزافي ")، وبرغبة إرادية غير نسقية للسيد وزير التربية الوطنية السابق يتم التخلي عن المشروع و تضيع الأموال الكثيرة و يضيع جهد الأساتذة الذين تكونوا و تضيع محاولات التأليف المدرسي التي قاربت النهاية، و نعيد العداد التربوي إلى الصفر كما العادة. "الإظهار التربوي": و نستمر في تأملنا اللغوي بحثا عن "ما ينقال "، جاء في المعاجم: شرَعَ يَشرَع، شَرْعًا، فهو شارِع، شرَع اللهُ الدِّينَ: سنَّه وبيَّنه، أوضحه وأظهره، شرَع الشَّيءَ: أعلاه وأظهره، شرَع الطّريقَ: مَدّه ومهّده، شَرَعَ النَّافِذَةَ: فَتَحَهَا، شَرَعَ الحاكِمُ: أَظْهَرَ الحَقَّ وَقَهَرَ الباطِل. و في بعض التفاسير للآية: ( شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) الشورى21 أي أظهروا لهم، و شرع فلان : إذا أظهر الحق و قمع الباطل. فالخيط الناظم بين هذه الشروح هو مفهوم " الإظهار"، فماذا سنظهر؟ عادة نظهر الشيء الموجود سابقا أو في حالة كمون وجودي فنخرجه إلى الواقع، و الإظهار أن يكون ظاهرك تجسيدا لباطنك ، لأن الإظهار هو الوضوح أي ( الشفافية بلغة الانتخابات )، ففي الواقع التربوي ليس هناك شيء يختبئ ، الإظهار هو المرآة الحقيقية للواقع، أو المفروض أن يكون عليه الواقع، و الإظهار يكون عامة للحق و الحقيقة. و "الشرعة التربوية" لا يمكن أن تكون إلا إظهارا للحق وفق برنامج مختار، و لا يمكن أن تسير إلا نحو المصلحة، و المصلحة قاسم مشترك بين الناس، و جاعل الشرعة أدرى بمصالح العباد، فالذي وضع الحق هو الذي جعل الشرعة، و لا يمكن للشرعة أن تتيه عن الحق، و لان الذي " برمج"، بلغة المعلوميات، الحق و جعل الشرعة هو "المربي الأكبر"، الله تعالى، "مصدر التربية". و للمناهج التربوية، كما قلنا، مصادر قد تكون الوحي أو التراث أو العقل أو الواقع، و هي ما تسمى ب"المرجعية" المختلفة بين الشعوب و المرتبطة ب" الشرعة "، ومهما كان مصدر الشرعة فلا يمكن أن يكون إلا خيرا و مصلحة و ليست مفسدة، لأنها ترتبط ب" البرمجة التربوية" المجسدة في ( لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا)، فالمربي المشرع لا يمكن أن يصدر منه الإفلاس أو الإفساد. فكل ما يظهر على يديه هو الحق و هو " الإظهار التربوي ". أما بعد: "المنهاج إظهار للشرعة "، منكم إظهار الشرعة بالمنهاج التربوي، فلا منهاج بدون شرعة، و المنهاج مسلك اجتهادي و اكتشاف تربوي يحدد مصير المتعلم و يحقق شروط التمكين التربوي. إن المنهاج " تعددية تربوية "، فيه متسع للجميع، لكل باحث جعلنا منهاجا و طريقا إلى الحق و المصلحة التربوية، و لكل باحث شرعة ومنهاج و إظهار. إن الشرعة دائرة تكليفية و المنهاج مسلك و مسالك عملية في واقع متغير يخضع لنسقية زمانية و مكانية و يبحث عن النموذجية، نموذج المعلم و المتعلم بينهما " توجيه تربوي". و هو البنية النسقية التي تحتاج إلى تأملات تربوية، فلنتأمل جميعا.