بينما ينشغل الناس بتطورات الوضع في العراقوسوريا، وبتناقل أخبار "الدولة الإسلامية"التي أعلنتها جماعة داعش السلفية المتطرفة، هناك حرب إيديولوجية داخل الحركة الجهادية العالمية تدور رحاها بين المنتسبين إلى هذا التيار السلفي الجهادي بعمومه، وهي حرب لا تختلف عن جميع الحروب بين السلفيين في السنوات العشر الأخيرة، الذين يتقاتلون بالنص حول النص، ويتزاحمون على أبواب الأدلة بها، ويكفرون بعضهم البعض بكل أريحية وبنوع من الكرم الحاتمي، ولا أخفي القارئ أن في كل هذه الصراعات بين السلفيين متعة وفائدة. لقد أحدث الإعلان عن الدولة الإسلامية في العراق اضطرابا كبيرا في الفكر الجهادي العالمي، الذي كان يتصدره تنظيم القاعدة. فتمكن تنظيم داعش من إعلان دولته أحدث شرخا في خارطة الفكر الجهادي والجماعات الجهادية التي كانت تسير في فلك تنظيم أسامة بن لادن، كونه نجح في ما ظل ذلك التنظيم يمني به نفوس الجهاديين في العالم، وهو بناء الدولة الإسلامية المنشودة، وقد قاد ذلك بالنتيجة إلى بداية سحب مشروعية تمثيل المشروع الجهادي من القاعدة لفائدة داعش. وهو الأمر الذي استشعرته القاعدة، التي تحاول الحفاظ على موقعها وسط الجهاديين من خلال خوض حرب إيديولوجية على أساس ديني. تعود جذور الخلاف بين التنظيمين في الحقيقة إلى سنوات خلت، وبالتحديد إلى ما قبل مقتل الأردني أبي مصعب الزرقاوي عام 2006. فقبل سنة من ذلك التاريخ نشر الرجل الثاني في تنظيم القاعدة آنذاك، أيمن الظواهري، بيانا ناريا صب فيه جام غضبه على الزرقاوي الذي كان أول شخص في الحركة الجهادية السلفية جعل القتل فرجة تلفزيونية، خصوصا على شاشة قناة الجزيرة القطرية. وقد اتهم الظواهري الزرقاوي بالإفراط في القتل والتكفير، وبتعمد تسريب صور الإعدامات وقطع الرؤوس إلى الفضائيات. وأطلق ذلك البيان حربا حامية الوطيس بين الزرقاويين وبين القاعدة، وقيل وقتها إن مقتل الزرقاوي على يد الأمريكيين كان نتيجة لرفع تنظيم القاعدة مظلتها عنه وعدم الاعتراف به. لكن الصراع تجدد بين الطرفين في حرب سوريا، قبل نحو عام. ففي شهر يونيو من السنة الماضية رفض الظواهري الذي صار الرجل الأول في تنظيم القاعدة إلحاق جبهة النصرة التابعة لتنظيمه بجماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام، ودعا إلى أن تبقى الجبهة في سوريا وأن تحافظ الجماعة على موقعها في العراق. وقد لقي ذلك الموقف تأييدا من رموز الفكر الجهادي العالمي، الذين يوجد من بينهم أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني المعتقلان في الأردن. وجه أبو قتادة، الذي يعد أبرز منظري السلفية الجهادية ويوصف بأنه الزعيم الروحي للقاعدة في أوروبا، رسالة في الموضوع، لكن جماعة داعش ردت عليه بسلاحه، فالمأسور لا تقبل منه فتوى ولا رأي لأنه في وضع لا يملك فيه نفسه، والقاعدة أن الرأي أو الفتيا تقبل من الحر لا من العبد، والمأسور في حكم العبد طالما أنه في كنف سجانه. لكن رد أبي قتادة جاء في صيغة كتاب صدر قبل أيام تحت عنوان"ثياب الخليفة"، الذي كان بمثابة معول أراده صاحبه لإسقاط مشروع دولة داعش من أساسه. ويفهم من العنوان أن هناك تعريضا صريحا بزعيم الدولة الجديدة أبي بكر البغدادي، الذي لا يرى فيه أبو قتادة أكثر من رجل جاهل لا يفقه شيئا في الدين، يحاول أن يلبس ثوبا تنكريا، هو ثوب الخليفة، بينما هو في الواقع شخص عار وعورته ظاهرة للعيان، كما يقول المثل العربي"القرد قرد ولو لبس الحرير". وهي التهم نفسها التي كالها له أبو محمد المقدسي الذي وصف البغدادي ومن معه بأنه كلاب النار وخوارج ضالون. يؤاخذ أبو قتادة على جماعة داعش غلوها في تكفير المسلمين، ويرى أن البغدادي ما سجن سابقا إلا بهذه التهمة، وأنه ومن معه من التكفيريين تسربوا وسط تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام لينشروا فيها أفكارهم التكفيرية، ولذلك حرفوا كل شيء في الدين وأخذوا الخلافة على المعنى الباطل"أي أنهم أخذوا الفكرة والاعتقاد وألبسوها لأميرهم أبي بكر البغدادي". لكنه يكشف أن البغدادي كان يركض وراء الحصول على لقب الخليفة قبل زمن طويل، وكان أصحابه يدعون إلى مبايعته بيعة الخلافة ولذا كان يرفض التحاكم بينه وبين مخالفيه في ما شجر بينهم من الخلاف، لأنه كان يرى في نفسه أنه أولى بالاتباع، لا مساويا لغيره حتى يتحاكم إلى سواه. وهذه النقطة جديرة بالتأمل لأنها ترد تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاوي كلينتون التي ذكرت في مذكراتها الصادرة أخيرا أن إدارة باراك أوباما كانت وراء إنشاء داعش، إذ الظاهر أن كلينتون تسعى إلى تسديد ضربة انتخابية سابقة لأوانها باتهام الإدارة الأمريكية في الداخل برعاية الإرهاب، للتأثير على عقل الناخب الأمريكي. أما عمليات القتل التي تقوم بها الدولة الإسلامية في العراق اليوم، فإن أبا قتادة يرجعها إلى الأصول النظرية التي تقوم عليها جماعة داعش، التي تعتبر أن الإمامة في الإسلام من أصول الدين، وهي لذلك مناط التكفير والإيمان. وسوف نعود للتفصيل في مواقف أبي قتادة لنتبين أنها هي أيضا لا تقل غلوا عن مواقف داعش التي ينتقدها.