المناقرات التي صار معهَا الخطاب السياسي بالمغرب حلبَة صراع، تذكِي حماس الساسة لإفحام مغرق في العنف، تستوقفُ الأستاذ والباحث، ميلُود بلقاضِي، ليقرأ انحدارًا غي مسبوق لتواصل المؤسسات بالمغرب، على إثر ما ما احتدم من جدلٍ في الآونة الأخيرة، على إثر تفوهِ وزير في حكومة بنكيران بكلماتٍ بذئية عقب مشادَّة مع برلمانِي استقلالي، ليخلص إلى أنَّ اللغة الموظفَة، اليوم بالمغرب، موغلةٌ في النرجسيَّة وأبعد ما تكُون عن المنهجيَّة والعلاقة الجدليَّة المفترضة بين اللغة والأخلاق. الدكتور بلقاضِي يتوقعُ أيامًا أخرى قادمة من الإسفاف في الخطاب السياسي، لأنه لمْ يعد ظاهرة عابرة بقدر ما بات نسقًا فكريًّا يحكمُ انبراء السياسي المغربي إلى التواصل، وإنْ كانَ "نجمهم" سيخبُو بعد حين، على اعتبار أنَّ ثمة رموزًا ستبقى بمثابة المرجع؛ كعلال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد ومحمد عابد الجابري؛ وفيما يلي نصُّ مقال الأستاذ بلقاضي كما ورد إلى هسبريس؛ افتتح مقالي هذا بجملة لها دلالات عميقة قالها منذ سنوات العالم Paul corcoran مفادها أن السياسة كلام وليس كل الكلام سياسة. وسياق هذا المقال ما عرفه البرلمان المغربي مؤخرا من تبادل ألفاظ وكلمات غير لائقة بجلسة عمومية وبمؤسسة دستورية وبنخبها، الأمر الذي أعاد علاقات التواصل السياسي بالسياسة للواجهة. والأكيد أن ضبط الجسر الرابط بين السياسة والتواصل السياسي من شأنه تحديد نوعية الثقافة السياسية السائدة ومستوى الفاعلين السياسيين لكون التواصل السياسي كينونة سياسية تتحول مع الفاعل السياسي الى آليات ترفع شأن السياسة ونخبها ومؤسساتها أو تسيء إليهم جميعا. ويشهد تاريخ التواصل السياسي أن النقاشات السياسية العمومية بالمغرب- حتى في أحلك المراحل- لم تصل الى مستوى ما وصل اليه التواصل السياسي اليوم من انحطاط ومن ورداءة وكلام ساقط، مما جعل المواطن يتساءل: من المسؤول عن هذا الانحطاط وهذه الرداءة ؟ الى أين تتجه النخب السياسية بالخطاب وبالتواصل السياسي؟ كيف وصل التواصل والخطاب السياسيين الى هذا المستوى؟ لماذا غابت الأناقة اللغوية وحلت معها اللغة الشعوبية؟ وهل رداءة التواصل السياسي الحالي هي جزء من رداءة الزمن السياسي المغربي الراهن ذاته.؟ ومن رداءة مؤسساته ونخبه؟ قبل الإجابة عن هذه الأسئلة لا اخفي سرا للاعتراف أنني أشعر بالحزن والحسرة والخوف حين أتابع بعض النقاشات العمومية بوسائل الإعلام أو بجلسات البرلمان، وحينما أتامل في لغة وإشارات التواصل التي يوظفها الفاعل السياسي اصدم لكونها لغة التفاهة والنرجسية والانحطاط والرداءة والسقوط، لغة فاقدة لكل مرجعية سياسية، لغة غارقة في مأزق الارتباك، لغة بعيدة كل البعد عن اللباقة واللطف والأناقة والموضوعية، لغة فقد معها الفكر السياسي كل مرجعياته المبدئية واليات منهجيته الإجرائية، وفقدت معها السياسة رقي علاقاتها الجدلية بينها وبين اللغة وبين الأخلاق. ولا يختلف اثنان على أن الأزمة هي العنوان الأبرز للتواصل السياسي بالمغرب، هذا الشكل من التواصل الذي ولد الكثير من الخيبات والصدمات والنكسات لدى المواطن وأساء الى السياسة ذاتها. والأكيد أن نزول التواصل السياسي إلى هذا المستوى يبرهن على عدم وعي الفاعل السياسي سواء كان وزيرا أو برلمانيا أو مسئولا سياسيا بأهمية التواصل السياسي في صناعة الفعل السياسي وتوجيهه، بل انه لم يقتنع - بعد- باستحالة ممارسة السياسة دون خطاب او تواصل سياسي راق وأنيق لكون الخطاب السياسي في فضاء السياسة يبقى هو صانع الفعل السياسي عند الرأي العام. نقول هذا الكلام لاقتناعنا على ان عالم السياسي هو عالم الخطاب والتواصل،هذا الخطاب الذي يبقى –في كل الحالات – مؤثرا و متأثرا بطبيعة النظام السياسي القائم بنخبه وبمؤسساته الدستورية والسياسية. ولعل هذا التأثر/ التأثير هو ما يجعل من التواصل السياسي مرآة حقيقية لنوعية الثقافة السياسية السائدة ولمستوى السياسي للنخب . وعلى هذا الأساس، لا يمكن للخطاب او التواصل السياسي تجاوز مستوى النخب السياسية وطبيعة المؤسسات الدستورية القائمة وعلاقاتهم بالسياق العام ، فهي تظل -في كل الحالات- خاضعة لمنطقه ولشروطه ، مما يحتم على التواصل السياسي أن يتفاعل مع هذا السياق، هذا الاخير الذي وصل الى درجة لا تحتمل من العبث السياسي، تحول معها الخطاب السياسي الى خطاب أزمة أخلاقية وسياسية وتعاقدية فاقدا للحد الأدنى من أسس العقلانية ومبادئ الديمقراطية، بل ان هذا العبث السياسي الذي يعيشه المغرب فيه الكثير من المؤشرات على ان السياسة والتواصل السياسي الممارسين اليوم هما في مأزق انطولوجي حيث العنف اللفظي هو انعكاس لعنف رمزي يمارسه الفاعل السياسي على ذاته قبل ممارسته على المواطن. والاكيد ان مستوى التواصل السياسي او الخطاب السياسي بالبرلمان او غيره من المؤسسات سيزداد رداءة وانحطاطا ما دام الفاعل السياسي لم يع بعد خطورة تأثير الخطاب السياسي التواصل السياسي في المجال السياسي ومن ثم في الفضاءات العمومية، لانه ما زال لم يفهم بعد كون التواصل السياسي هو الوجه الآخر للسياسة،وانه لن يحذق في السياسة ويمارس سلطاتها بمهنية من لم يتقن لعبة اللغة السياسية وسلطاتها. وعليه، ففي الوقت كان المواطن ينتظر فيه رقيا على مستوى الخطاب والتواصل والسلوك وفق ما ينص عليه الدستور الجديد، ها هو يصدم يوميا وأسبوعيا بتوظيف الفاعل السياسي كلاما ساقطا واستعمال كلمات نابية في مؤسسة تشريعية، الامر الذي جعله يقتنع بان هيمنة الانحطاط اللغوي في الخطاب او التواصل السياسي المغربي ليس بظاهرة عابرة بل انه يجسد نسقا فكريا و بنية مجتمعية قائمة، وبمعنى آخر أن انحطاط الخطاب أو التواصل السياسي هو انعكاس لشروط انتاجه كما يؤكد ذلك الباحث بيير بورديو (P.BOURDIEU . وهو ما يعني أن شروط الإنتاج تظهر في تشكيلة الخطاب، أي في مادته اللغوية .وهو ما أكده أيضا ميشال فوكو عند حديثه عن أهمية ضبط شروط الإنتاج وعلاقاتها بالخطاب. وعليه فالخطاب السياسي هو فضاء يعكس شروط إنتاجه من جهة، ويعكس مستوى منتجه والمؤسسات التي يمثلها من جهة أخرى . ومن المؤسف – اليوم-ان أغلبية النخب السياسية المغربية ما زالت لا تفهم ان الخطاب السياسي هو شكل من أشكال العمل السياسي يصعب تطويره بدون توفر الفاعل السياسي على تنشئة وثقافة سياسية ديمقراطية، و تشبع بالأخلاق السياسية والتزام بالتواصل الديمقراطي ، وهذه احد أسباب تدني الخطاب او التواصل السياسي اليوم في زمن سياسي اقل ما يوصف بالزمن الرديئ بكل المقاييس. وتشير العديد من الأبحاث والدراسات أن استمرار الأحزاب والمؤسسات والفاعلين السياسيين في إنتاج التواصل والخطاب السياسي الرديئ والتراشق بالألفاظ الساقطة وتبادل التهم المجانية والتشكيك والتخوين والتجريم والتجريح والضرب تحت الحزام يعد اخطر ما يهدد مستقبل المغرب، ويهدد كل الاوراش الاصلاحية الكبرى التي يعيشها ، أنه احد افتك أدوات قتل السياسة وانتحار الفاعل السياسي ذاته ،واخطر آليات وتمييع مجال التواصل السياسي لان ما وصل اليه التواصل السياسي من الرداءة والانحطاط غير مسبوق في التاريخ السياسي المغرب.اعتقد الشعب المغربي -مع الدستور الجديد- ان زمن الطوباوية التواصلية قد ولى لكن الواقع المعيش يؤكد ان الطوباوية التواصلية تقوت وأصبحت الوجه الأبرز للخطاب والتواصل السياسيين خصوصا في زمن هيمن عليه فاعلون سياسيون متفننون في التواصل الشعبوي الماكر . ولهؤلاء نقول ، انتم عابرون في زمن عابر، ولتعلموا أن للثقافة السياسية المغربية حساسية بالغة اتجاه اللغة السياسية ذات السمو اللغوي حتى في اشد لحظات الأزمات، فلن تكونوا انتم مرجعية التواصل السياسي المغربي لان له مرجعيات هي : خطابات محمد بن العربي العلوي وعبد الخالق الطريس ومحمد بن الحسن الوزاني والمختار السوسي والمكي الناصري وابو بكر القادري وعلال الفاسي و المهدي بن بركة عبد الرحيم بوعبيد عابد الجابري حيث قمة الوعي بسلطة اللغة في مجال السياسة، وقمة المعرفة العميقة بضوابط الخطاب السياسي وقوانينه ارتقت اللغة السياسية في خطاباتهم الى قمة السمو اللفظي والدلالي وتحولت معهم الى آلية لتهذيب الذوق اللغوي ولتوجيه للرأي العام حول قضايا الوطن.. وحذاري من الاستمرار في تلويث التواصل السياسي بعد تلويث العمل السياسي لان التكلفة ستكون باهضة لكون التواصل السياسي هو صانع الحدث والفاعل في السياسة والموجه للراي العام والمهذب للذوق اللغوي العام . [email protected]