اللبنات الأساسية في إقامة الدولة الإسلامية المغربية وبناء الهوية الوطنية عرض ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أسباب قيام الدول وسقوطها؛ و قد استسقى آراءه في هذا الموضوع أساساً من تجربته السياسية في الأقطار المغاربية ومن تجارب الأمم السابقة والتجربة العربية الإسلامية بالتحديد. و تحدد نظريات بن خلدون علاقة الدولة بالدعوة الدينية, و تتمثل عنده هذه العلاقة في النقط التالية: 1 - "العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه". 2 - "الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك". 3 - "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم". 4 - "أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها". إذا نظرنا إلى موضوع الهوية الوطنية وتشكلها، فإن سؤالي "كيف تتكون الدول؟" و"كيف تتشكل الهويات" وجدنا أن "الدولة الوطنية" و"الهوية الوطنية" هما وجهان لعملة واحدة. ومن هنا يمكن النظر إلى ما دعاه ابن خلدون ب"الدعوة الدينية" وما أطلق عليه اسم العصبية أنهما العنصران اللذان يشكلان في ترابطهما القوي و المتجانس البنية الكاملة للدولة و للهوية. و قيام الدولة الإدريسية ، بوصفها الدولة التي برزت فيها ومن خلالها الهوية الوطنية الإسلامية في المغرب, هو تحديدا ما جاء به بن خلدون. فكيف إذن تشكلت الهوية الوطنية الإسلامية المغربية من خلال تأسيس الدولة الإدريسية؟ للإجابة على هذا السؤال يجب الإحاطة بالشخصية الثانية التي كانت, مع المولى إدريس, حجر الأساس لتكوين الدولة و الهوية الوطنية الإسلامية المغربية و أعني بذلك الأمير إسحاق بن عبد الحميد الأوربي الذي أزر و نصر المولى إدريس واتفق معه على تأسيس دولة. يقول ابن أبي زرع "فنزل إدريس على اسحاق الأوربي المعتزلي، فأقبل عليه إسحاق وأكرمه وبالغ في أمره فأظهر له المولى إدريس أمره وعرّفه بنفسه، فوافقه على حاله وأنزله داره". يقول الناصري في الاستقصى: "لما استقر إدريس بن عبد الله بمدينة وليلي عند كبيرها إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأَوْرَبي أقام عنده ستة أشهر. فلما دخل شهر رمضان من السنة جمع ابن عبد الحميد عشيرته من اوربة وعرفهم بنسب إدريس وقرابته من رسول الله صلى عليه وسلم، وقرر لهم فضله ودينه وعلمه واجتماع خصال الخير فيه، فقالوا الحمد لله الذي أكرمنا به وشرفنا بجواره وهو سيدنا ونحن العبيد، فما تريد منا؟ قال: "تبايعونه" قالوا: "ما منا من يتوقف عن بيعته" فبايعوه بمدينة وليلي يوم الجمعة رابع رمضان المعظم سنة اثنتين وسبعين ومائة". و يقول الدكتور عباس الجراري :"... لعلنا هنا أن نُذكر بما كتبنا في دراسات سابقة منشورة من أن سلوك اسحاق بن عبد الحميد الأوربي - وهو يومئذ زعيم في قومه وصاحب غلبة وعصبية - حين تنازل عن الأمر للمولى ادريس، لم يكن ناشئاَ عن غفلة أو ضعف أو قصور في الفكر والنظر، ولكنه كان نابعاً من وعي بهذه الحقائق المتعلقة بواقع المغرب والمجتمع، ونابعاً كذلك من الاقتناع بأن المولى ادريس منتسب لآل البيت أصحاب الحق المهضوم. وبذلك كانت بيعته وسيلة تجميع وتوحيد، كما كانت موقفا صريحا وفعلياً من الصراع القائم يومئذ حول الأحقية في الخلافة، بين العباسيين الذين كانوا في الحكم، وبين العلويين الذين كانوا في المعارضة، وكانوا ممثّلين في أسرة المولى ادريس بزعامة أخيه محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية". و من مناقب المولى إدريس رضي الله عنه قوته و رباطة جأشه في ساحة الوغى فيذكر عنه في المرجع الشافي : "ولما دعا في المغرب عرفه رجال من أهل المغرب حجوا سنة قتل الفخي عليه السلام، فقالوا: نعم، هذا إدريس، رأيناه يقاتل وقد انصبغ قميصه دما، فقلنا من هذا؟ فقالوا إدريس بن عبد الله" و أجمع المؤرخون أن إدريس الأول تزوج أمازيغية اسمها كنزة. وهكذا كون مؤسس الدولة الإدريسية هوية يؤسسها العنصران اللذان أكد عليهما ابن خلدون كما رأينا أعلاه، أعني: الدعوة الدينية ، والعصبية (المصاهرة مع أهل البلد) الشيء الذي يجعل منه ومن سلالته من أهل البيت النبوي مغاربة كاملي "الجنسية". و في نفس السياق لابد من الإشارة إلى خطبة المولى إدريس و التي يمكن اعتبارها عقدا مؤسسا للدولة الإسلامية المغربية و التي من خلالها وضع أسس و قواعد الدولة المتعاقد عليها مع الأمازيغ: "... فإني: 1. أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم. 2. وإلى العدل في الرعية والقسْم بالسوية، ورفع المظالم، والأخذ بيد المظلوم. 3. وإحياء السنّة وإماتة البدعة، وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد. 4. واذكروا الله في ملوك غيروا، وللأمان خفروا وعهد الله وميثاقه نقضوا، ولبني بيته قتلوا. 5. وأذكّركم اللهَ في أراملَ احتقِرت، وحدودٍ عطِّلت، وفي دماء بغير حق سُفكت. 6. فقد نبذوا الكتاب والإسلام، فلم يبقَ من الإسلام إلا اسمُه، ولا من القرآن إلا رسمه. 7. واعلموا -عبادَ الله- أن مما أوجب الله على أهل طاعته، المجاهَدة لأهل عداوته ومعصيته باليد وباللسان. أ) فباللسان الدعاءُ إلى الله بالموعظة الحسنة والنصيحة، والحضّ على طاعة الله، والتوبة عن الذنوب بعد الإنابة والإقلاع، والنزوع عما يكرهه الله، والتواصي بالحق والصدق، والصبر والرحمة والرفق، والتناهي عن معاصي الله كلها، والتعليم والتقديم لمن استجاب لله ورسوله حتى تنفذ بصائرهم وتكمل، وتجتمع كلمتهم وتنتظم. ب) فإذا اجتمع منهم من يكون للفساد دافعا، وللظالمين مقاوما، وعلى البغْي والعدوان قاهرا، أظهَروا دعوتهم، وندبوا العباد إلى طاعة ربهم، ودافعوا أهلَ الجوْر عن ارتكاب ما حرم الله عليهم، وحالوا بين أهل المعاصي وبين العمل بها، فإن في معصية الله تلفا لمن ركبها، وإهلاكا لمن عمل بها. ج) ولا يؤَيّسنّكم من علو الحق واضطهاده قلةُ أنصاره. فإن فيما بدا من وحدة النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياءِ الداعين إلى الله قبله، وتكثيره إياهم بعد القلة، وإعزازهم بعد الذلة، دليلا بيّناً، وبرهانا واضحا، قال الله عز وجل: « ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ». وقال تعالى : « ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز »، فنصَر الله نبيَّه وكثَّر جنده، وأظهر حزبه، وأنجز وعده، جزاءً من الله سبحانه، وتوابا لفضله وصبره، وإيثارِه طاعةَ ربه، ورأفته بعباده ورحمته، وحسن قيامه بالعدل والقسط في تربيتهم، ومجاهدة أعدائهم وزهده فيهم، ورغبته فيما يريده الله، ومواساته أصحابَه، وسعة أخلاقه، كما أدّبه الله ، وأمر العباد باتّباعه، وسلوك سبيله، والاقتداء لهدايته، واقتفاء أثره، فإذا فعلوا ذلك أنجز لهم ما وعدهم. كما قال عز وجل « إن تنصروا الله ينصرْكم ويثبت أقدامكم »..." و في هذا السياق فإن المولى إدريس رضي الله عنه أسس دولة و ليس إمارة و الدليل على ذلك هو بناء مدينة فاس عاصمة الدولة الإدريسية و سك العملة التي تعتبر المرتكز الاقتصادي المكون لمقومات الدولة. كما أنه أقام حكومة مركزية في العاصمة وليلى ثم في العاصمة الجديدة "فاس" تخضع لها مختلف القبائل. أما الحملات العسكرية المتكررة فكانت مجالا لحشد القبائل خاصة الأمازيغية تحت راية واحدة وصهرها في مجتمع واحد متجانس. كما قامت الدولة اليانعة بحملات عسكرية كان الغرض منها القضاء على الوثنية المنتشرة في المنطقة، وكذلك القضاء على المذاهب الخارجية, التي استشرى أنفا خطرها في البلاد، وترسيخ المذهب السني. أما في ما يخص الإمارات الموجودة قبل سنة 179ه فلم تكن تمتلك مقومات الدولة من مجال جغرافي متسع أو جيش نظامي أو إدارة مركزية و على أي حال فأول من بايع المولى إدريس هو الأمير إسحاق بن عبد الحميد الاوربى و من يقول أمير يقول إمارة إذن كانت لقبيلة أوربة إمارة و لكن ليس دولة تمتد من تلمسان إلى المحيط و من طنجة إلى سوس الأقصى. وقد عزز المولى إدريس دعوته فجاهد ضد الديانات والنحل المنحرفة في شالة وتامسنا والأطلس المتوسط والمغرب الشرقي حتى تلمسان وما إليها، وذلك ما يسجله ابن خلدون : "محا جميع ما كان في نواحيه من بقايا الأديان والملل", و هكذا يتضح أن المولى إدريس و بعدما وضع الركائز العقائدية و الدينية للدولة المغربية الإسلامية عمل على توسيع رقعة نفوذه و نشر دعوته و نحى كل ما من شأنه إضعاف الدولة الجديدة من وجود منافس في المجال الديني و العقائدي. و ما كان الولى إدريس ليقتصر على المجال الجنوب إفريقي بل كان هدفه إنشاء الدولة الإسلامية من المحيط إلى الخليج و حجة ذلك رسالته الموثقة إلى أهل مصر و التي يدعوهم من خلالها إلى الانضمام للخلافة الإسلامية المغربية وهذا بالطبع ما أرق مضجع الدولة العباسية و جعلها تعمل على استئصال الخطر المتنامي و الذي يهدد و جودها ككل, يقول ابن أبي زرع : "... فاتصل بالرشيد أن إدريس قد استقام له أمر المغرب...وأخبر بحربه وحاله وكثرة جنوده وشدته في الحرب، وأنه قد عزم على غزو إفريقية". ويقول الطبري في تاريخه ".. وأنه دس إلى إدريس الشماخ اليمامي مولى المهدي وكتب له كتابا إلى إبراهيم بن الأغلب عامله على إفريقية فخرج حتى وصل إلى وليلة وذكر أنه متطبب وأنه من أوليائهم ودخل على إدريس فأنس به واطمأن إليه وأقبل الشماخ يريه الإعظام له والميل إليه والإيثار له فنزل عنده بكل منزلة ثم إنه شكا إليه على في اسنانه فأعطاه سنونا مسموما قاتلا وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر لليلته فلما طلع الفجر استن بالسنون وجعللا يرده فيه ويكثر منه فقتله وطلب الشماخ فلم يظفر به وقدم على إبراهيم بن الأغلب فأخبره بما كان منه وجاءته بعد مقدمه الأخبار بموت إدريس فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك فولى الشماخ بريد مصر وأجاره. وهكذا لا يمكن تفسير اغتيال المولى إدريس من طرف العباسيين إلا بكون هذا الأخير صار يمثل خطرا داهما مؤكدا لدولتهم و سلطانهم و هو خطر أكبر مما تمثله دولة الأمويين بالأندلس ذلك أن المولى إدريس عقد العزم على توسيع رقعة نفوده إلى إفريقية (تونس) و مصر, و على أي حال لا بد من الجزم أن المولى إدريس رضي الله عنه و ضع الأسس و اللبنات الأساسية و النواة الصلبة لدولة إسلامية مغربية قواها و حافظ عليها كل من توالى على حكمها من بعده. إن المولى إدريس وحد المغرب تحت إمرته و لكي نلم إلماما علميا دقيقا بما قام به المولى إدريس الأول و المولى إدريس الثاني من إقامة الدولة المغربية الإسلامية لابد من تحديد المساحة الجغرافية لهذه الدولة و نعتمد في ذلك على ما جاء به بن خلدون حين وصف الدولة المغربية في عهد محمد بن إدريس بن إدريس في الجزء الثاني من تاريخه: وهلك إدريس سنة ثلاث عشرة وقام بالأمر من بعده ابنه محمد بعهده إليه فأجمع أمره على أن يشرك إخوته في سلطانه فقسم المغرب بينهم أعمالا اختص منهاالقاسم بطنجة وبسكرة وسبته وتيطاوين وقلعة حجر النسر وما إلى ذلك من البلاد والقبائل واختص عمر بتيكيسان وترغة وما بينهما من قبائل صنهاجة وغمارة واختص داود ببلاد هوارة وتسول وتازى وما بينهما من القبائل: مكناسة وغياثة واختص عبد الله بإغمات وبلد نفيس وجبال المصادمة وبلاد لمطة والسوس الأقصى واختص يحيى بأصيلا والعرائش وبلاد زوغة وما إلى ذلك. واختص عيسى بشالة وسلا وأزمور وتامستا وما إلى ذلك من القبائل. واختص حمزة بوليلى وأعمالها وبقيت تلمسان لولد سليمان بن عبد الله. أما في ما يخص زعم بعضهم من اختفاء ثم اكتشاف قبر المولى إدريس الأكبر فأني أتحدى أي كان أن يأتي بمرجع تاريخي واحد يؤكد هذا الزعم, نعم اكتشف قبر المولى إدريس الثاني في عهد المرينيين لكن قبرالمولى إدريس الأول لم يختفي أبدا و قد جاور قبره، رضي الله عنه, سكان أمازيغ و عرب منذ دفنه و كان و لا يزال مزارا للقبائل الأمازيغية.