لا بد أن السعوديين وهم في طريقهم إلى باريس، قبيل العاشر من ديسمبر كانون الأول 1948، يوم التصويت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كانوا قد درسوا البنود الثلاثين لهذا الإعلان من كل جانب. ولا شك أن العقيدة الإسلامية نالت النصيب الأوفر من القرار السياسي، في تلك اللحظة على الأقل، من تاريخ الإسلام المعاصر.فرفضت المملكة العربية السعودية التصويت على الإعلان، بمحاسنه ومساوئه كانت حتى ذلك الحين، الدولة المسلمة المستقلة الوحيدة التي كان لها "شرف" الانخراط في هيئة الأممالمتحدة، وبذلك شرف الوقوف في وجه وثيقة، اتضح بعد ذلك أنها لم تكن إلا حقا يراد به باطل. في قاعة المناظرات داخل قصر فرساي شمال العاصمة الفرنسية، لحظة التصويت ، لم يول العالم اهتماما لموقف السعوديين .لا لسبب آخر غير أن الحرب الباردة التي ستودي بحياة الاتحاد السفيتي كانت في بداياتها ، وان دول المعسكر الشرقي رأت في البروتوكول سلاحا فتاكا من أسلحة الإمبراطورية الأمريكية.وان الإسلام وقتها لم يكن في أعين الغرب والعالم كله كما هو الآن ، عقيدة ، دين ، طقوس ، ممارسات ، كباقي الأديان دون زيادة. ولان الدين في اروبا ( الكنيسة) ألف الجدال مع جل الفلاسفة حول مفهوم الحرية .فقد كان موقف السعوديين سلميا منطقيا إن لم نقل منتظرا. تساوي الرجل والمرأة في الإرث من ابرز مبررات القرار السعودي في قصر فرساي.ففي نظرهم، البروتوكول في حد ذاته متناقض:لك الحق أن تعتنق كما تشاء ، الدين الذي تشاء ولكن لا تختر العقيدة التي لا "تنصف" المرأة في الإرث. لم يتنبأ السعوديون وقتها أن يوما سيأتي في السنة الثانية من الألفية الثانية ، اسمه الحادي عشر من سبتمبر. ذلك اليوم الذي غير مجرى التاريخ من كل ناحية.وبما أن الغيب لله وحده، فلم يتوقع احد، منهم وما دونهم، انه باسم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره وغير غيره سيصبح هدف أمريكا يوما، بعد الجثة السوفيتية، هو العقيدة نفسها التي كانت السبب وراء الامتناع عن التصويت. استعمرت العراق ظلما وعدوانا، وغزت أفغانستان قبلها وما بعدهما يعلمه الله وحده ومن علّمه. لم يتوقع احد أن يتغاضى العالم بقيادة أمريكا وحلفائها، عن الخرق الواضح لما أعجب السعوديين في بنود الپروتوكول ،و ما لم يعجبهم، في دول حكامها ممن يكنون الولاء والطاعة والشكر والحمد لأمريكا. ونحن نتحدث عن التوقع والتنبؤ، لا بد من الإشارة، ولو من باب الإنصاف، في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، ثلة من المنظرين نبهوا ومن أهم ما أشاروا إليه، إقدام العالم على أزمة قيم وحرب حضارات. كتبوا مقالات كما فصلوا نظرياتهم في كتب ، ابرز هؤلاء ، المفكر المغربي المهدي المنجرة في كتاب " الحرب الحضارية الأولى" والأمريكي صامويل هانتنغتون في كتابه " تطاحن الحضارات". وان كان هناك تباين ملحوظ في استبصار هؤلاء، فثمة شيء مشترك بين ما علموه بعلمهم وجهدهم ودرايتهم ، وهو ما يعانيه الإسلام اليوم في عقر داره وغير داره. لهيب هذا البركان الذي تديره عقول قلوبها حقدت على الإسلام منذ القدم . وأخرى علمت مما علمت أن الإسلام هو القوة التي أن صدق أهلها حكموا العالم. وأخرى اختارته عدوا ليس إلا، وفئة أخرى اخطر من كل هؤلاء أغبى من كل هؤلاء وهم الحكام في بلاد الإسلام. وفئة أخيرة فاعلة و مفعول بها في نفس الوقت ، وهي الشعوب الإسلامية "هذه الشعوب التي تناضل حتى الموت ضد المحتلين الأجانب في حين أنها اليوم تقبل بنفس الدرجة من القهر والاستبداد والظلم من طرف حكام ليسوا إلا مواطنيهم." هكذا كتب عنا اريك مارغوليس في كتابه " البطش الأمريكي تحرير أم استعمار " الكتاب الذي كشف عن النوايا السيئة لأمريكا وحلفائها إزاء الإسلام، وحيثما وجد الإسلام.و بذلك نقل عن الواقع نصيبا مهما مما كتبه المنظرون عقدين من الزمن قبل ذلك. بلا لف ولا دوران، الحاقد هم الصهاينة وفي مقدمتهم إسرائيل. العقول المنفذة هي أمريكا وبريطانيا وحلفاؤهما. أما الإسلام فلم يكن الضحية يوما، ولن يكون الضحية أبدا. الإسلام لله والقرآن في حفظ الله إلى يوم الدين. الضحية هم المسلمون أينما كانوا، فرادى أو مثني أو جماعات أو شعوب.أينما كنت، في المشرق أو في المغرب، وكيفما كنت، ملتحيا أو غير ملتح، سنيا أم شيعيا، تصلي الجمعة جماعة أو تصلي في بيتك. يكفي أن تقول لا اله إلا الله ، لتوضع تحت المجهر.وان قلت أكثر من ذلك مما لا يرضي أعداء الإسلام فأنت متهور وخطير إن لم يقولوا انك إرهابي. في منطق أمريكا، المسلمون في بلاد الإسلام اقل خطرا من المسلمين في غير بلاد الإسلام. المسلمون في الغرب قنبلة موقوتة لا بد من ضبطها قبل ساعة الصفر. الإمام والمثقف أكثر وأكثر خطرا."العمالة للأنظمة أمامكم ومعنى ذلك السفسطة والمغالطة في الدين، والاختطاف والترحيل وراءكم"، هذا هو الشعار الجديد لكل الأنظمة، هذا ما صنعته أمريكا والعالم كله بعد خطاب الرئيس الأمريكي بوش 2001 " أن تكونوا معنا أو ضدنا". ومن الناس من يحمل تنظيم القاعدة ،بصفتها من تبنى أحداث 11 سبتمبر، مسؤولية ما يعانيه المسلمون اليوم. ففي هذه القضية بالضبط ، يجب أن نفرق بين شيئين أساسيين ، هما الحدث وتاريخه.أن نتفق مع مفجري الطائرات بنيويورك وواشنطن، أو نختلف معهم، فهذا لن يغير من سياسة أمريكا بعد الحادي عشر من سبتمبر ذرة واحدة. وهنا لابد أن نشير إلي أن استطلاعا للرأي في 2006 يوكد أن 56% من الأمريكيين على يقين أن حكومتهم كانت وراء الأحداث أو على الأقل سمحت لها أن تحدث. فالإرهاب في قاموس أمريكا هو الإسلام. أما الرسالة التي نزل بها جبريل عليه السلام فهي بريئة من مفهوم الإسلام في منطق أمريكا.وما نعانيه اليوم ، ليست القاعدة منه في شيء، بل كلنا معا ضحية إستراتيجية أمريكية صهيونية ممنهجة منذ عقود.أما عن قتل الأبرياء فللقاعدة مبرراتها كما لأمريكا وإسرائيل مبرراتهما في قتل الأبرياء في العراق وفلسطين وغيرهما.كما لأمريكا مبررات ،تحتفظ بها لنفسها، في غض الطرف عن قتل الأبرياء في الشيشان والبلقان ...... لكل من الطرفين ما يقنعه دون أن يقنع الطرف الآخر. وكلاهما في صالح أمريكا. ومما لم يتوقعه السعوديون سنة 1948، لو كان العالم اليوم، هو نفسه في تلك النقطة الزمنية، فإنهم، كباقي الدول العربية الإسلامية، لن يستطيعوا الوقوف في وجه مشروع أمريكي. ربما أصيب وربما أخطئ. وان كنت اليوم قد أصبت ،ككل مسلم يائس من وضع أنظمتنا ، أتمنى أن يأتي اليوم الذي أكون فيه ،بافتراضي هذا، مخطأ. وككل مؤمن بكتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فمن الواجب علي أن أوقن بهذا اليوم آت لا محالة.وإن أعداء الإسلام لموقنون به . أكثر من ذلك، يوقنون أننا لسنا نحن أولئك المسلمون الذين سينصرون الإسلام، ولكنهم يستاخرون ذلك اليوم ما استطاعوا. ولكي نكون اقرب ما يمكن أن نكون من هؤلاء المسلمين.يجب أن نكون منصفين بعد رفض التصويت على وثيقة، ظاهريا متناقضة حسب منطق أرسطو وغير أرسطو، وضمنيا لها فضلها وميزتها. فالهيئات ا لتي تتبنى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالعالم الإسلامي ، ساهمت ، إلى حد كبير ، في الحد من الجور والطغيان واختر من المصطلحات ما تريد، قدر المستطاع، وحسب طينة المسئولين عنها ومن معهم .وحسب الظروف والإمكانيات المتاحة لهم.وحسب ماتعنيه التضحية لكل منهم، فمنهم من انساق وراء الأنظمة وباع كرامته سلعة بخسة.ومنهم من ضحي بنفسه وروحه ودمه. ولو أن التقارير تتحول بعد كل ذلك إلى ذلك السلاح الذي تشهره أمركا أني شاءت. أملنا ،بعد 62 سنة عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، في بروتوكول جديد ، يساير العصر ويراعي فعلا حرية الأديان كلها ،دون شرط ولا قيد يمس بمقدساتها، بعد فشل الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان للقاهرة 1990 وقبله بباريس 1981 حبر على ورق لا اقل ولا أكثر أمل وان تحقق اليوم فان أمريكا لا تزال بولاياتها 51 شرطي العالم وتزداد يوما تلو الآخر عداء للإسلام. إلا أن هنالك، والحمد لله، حقيقة، لم ولن تستطيع أمريكا الوصول إليها، هي أن الإسلام دين الفطرة، وان الإنسان كيفما كان أصله ولونه وعرقه ودينه ولغته، وهو يبحث عن تلك الحقيقة يجدها بمشيئة الله عز وجل. وما من مسجد في الغرب إلا ويشهد بالهداية كل جمعة لمن شاء الله أن يكونوا من عباده. *كاتب صحفي مغربي