(خواطر من الزمن المغربي) 1.عودة أخرى إلى الحديث على مآسي الظلم ونهب المال العام، والاعتداء على الحريات ومشاهد محن التدخلات الأمنية العنيفة ضد المعطلين، والاتهامات الملفقة والمفبركة لتصفية الحسابات السياسية مع الأصوات الحرة والشريفة، والمنع والحرمان من الحق في التنظيم ،...كل هذه المشاهد "المتجددة" لا يكاد يختفي بعضها لوقت وجيز في هذا البلد ليظهر مجددا في حلة مغايرة عن السابق شكلا، ومماثلة له في الجوهر والمضمون، 2. جميل أن تحكي وأن تدون ما تحكي وتعيش في هذا الزمن المغربي الذي كله استثناء شهادة تقرأها الأجيال وتعتبر بها، في الخدمات الاجتماعية الأساسية -التي هي من وظيفة الدولة- استثناء، وإليكم بيان بعضها باقتضاب لأني أعرف أن من شدة تكرار الحديث عن ذلك لاستمرار مشاهد البؤس والمآسي، اشمئزت منه النفوس: oفي الصحة، هذا الزمن المغربي هو استثناء، في كل يوم جديد قوافل من المرضى المزمنين الذين ينتظرون مواعيد زيارتهم الطويلة في الزمن والممتدة في الألم والشقاء والتعب والسفر في مصحات الدولة إلى حيث هناك المستشفى في المدينة البعيدة من هذا الوطن الشاسع الذي لم يتسع لكامل أبناءه جغرافية وحالات اجتماعية بئيسة، oفي قطاع الماء والكهرباء والفواتير العالية التي تنزل على المواطن كالصاعقة كل شهر فيتحملها جيبه كما يتحمل كثيرا من تكاليف العيش المتعددة والمستعرة في أثمنتها، التي تأتي على القدرة الشرائية الضعيفة لهذا المواطن الذي لا يستقبل إلا النزر القليل من المداخيل، فيمسي ويصبح تأقلمه مع إكراهاته الاجتماعية استثناء متصلا في الزمن...، oفي قطاع الاتصال هذا الزمن المغربي هو استثناء، الذي يحتفل سنويا بارتفاع رقم معاملاته وباحتلاله مراتب الصدارة الأكثر مردودية، وكأن السباق والتنافس هو على من "يحلب" كثيرا من هذا المواطن، علما أن المستهدف أولا وأخيرا لتقديم مثل هكذا خدمات هو هذا المواطن،... oوفي سائر قطاعات الخدمات الاجتماعية، لم يعد لمعنى "الخدمات الاجتماعية" حضور، فآلة الخوصصة قد حولتها، إلى قطاعات تجارية تشتغل بمنطق الربح والخسارة وبعقلية مقاولاتية لا مكان للخدمات دون مقابل، والضحية هذا المواطن المستضعف، الذي يتكبد الآثار الوخيمة لهذه السياسات العمومية المترهلة التي أعلت من شأن التوازنات المالية على حساب التوازنات ذات الطبيعة الاجتماعية... 3. في الثقافة، هذا الزمن المغربي هو استثناء، لم يعد لهذه الثقافة معنى في عالم هذه البلاد وفي قاموس التعريفات سوى أن يقيم البعض بهرجة هناك وتملأ الدنيا صخبا أستحيي من أن أسميه موسيقى، أو أن ينتج فيلما فيه من الجرأة لتعرية هذه "الواقعية المريضة" المعاشة افتراضا في عالمه الخاص، عنوانا عن هذا الفن الذي لا يخاف في هذه "الحداثة المبتذلة" لومة لائم، هذه الحداثة التي ليس له حظ فيها سوى فتاتها، أما الحداثة التي تعني الإصلاح المؤسساتي والديمقراطي، والحداثة التي تعني "لا سلطة بدون مسؤولية ولا مسؤولية بدون محاسبة"، و الحداثة التي تعني استعادة المجتمع لسلطته، و الحداثة التي تعني الدفاع عن حرية التعبير وحرية الصحافة...، فهذا النوع من الحداثة لا ينسجم ومنطقه "التجزيئي" لها ، وليس من "الحداثة" حسب زعمه أن يثير هذا النوع من الحداثة، ويكون بهذه المعاني الثقافية "التسطيحية" قد حقن جسم المجتمع بما يحتاجه من "الثقافة الناهضة" التي لا هم لها سوى جلب السياح، والتي أيضا تمد عمرا آخر من التيهان عن الهوية والذاكرة والتاريخ والمعنى والذوق والجمالية، فتنحط القيم بالمقياس الإنساني بما هو تطلع إلى ذلك الكمال المتميز عن كل أنواع الكائنات الحية، oصار المشهد دراميا وجذابا و"يستحق" التنويه والتشجيع ووسام الجرأة على "الطابوهات"، لأنه تمرد على ذلك الجوهر الذي به تتميز أمة على سائر الأمم وتحفظ كينونتها الوجودية بما هي نسيج قيمي ظل هو هو متميزا عما سواه، oفي الثقافة ليس هناك خيار، في الثقافة عالم قيم لا مرئي نستنشقه ويفعل فعله فينا تكوينا ومعايير، فهو كالغاز الذي سرعان ما ينتشر ويختلط ويؤثر ويحدث تحولات على مستوى البنية الفيزيولوجية/الثقافية للإنسان، و لا ننتبه إلى هذه الفيروسات التي تنتشر من حولنا وتلقى الانتعاش بفعل ضخ هوائنا القيمي بكميات هائلة منها، حتى إنها قد تهدد حتى منعشيها ومحيطهم، oفي السياسة أدهى وأمر، لأن هذه السياسة التي تقود وتصنع وتحضر الفضاء العام للمشاريع، هي التي يدور مدار التدافع حول من يملك مجالها الحيوي، ولهذا لا نستغرب أن ذلك الذي لا يروقه النمط العام للمجتمع من حيث قيمه المتوارثة والأصيلة، يلتجأ إلى السياسة لا لتحميه فقط من تأثير هذا النمط العام الذي لا يروقه، ولكن لتكون أداة لتسييد نمطه الخاص والشاذ على هذا النمط العام، شوفينية ذاتية ورغبة استبدادية في أن لا نمط يعلو فوق نمطه الذي يعتبره الراقي والمتحضر، ولذلك فهو لا يجد مانعا من أن يمنع كل إرادة مجتمعية ناهضة لتحرير السياسة من التلاعب بآمال المجتمع وقيمه وتطلعاته الحقة، ولا يجد مانعا من أن يعمل جاهدا على أن يكون معيقا لأي تحول قد تتبدى طلائعه مبشرة بعودة الذات إلى ذاتها مجتمعيا، فقط لأن هذه العودة تقلص من مجال نفوذه وتهدد سيادة نمط عيشه الخاص والشاذ على المجال القيمي العام، oهنا الثقافة تكون في خدمة السياسة، وهنا يكون مجال القيم مجالا للتدافع الخبيث، وحين يضحي هذا المجال الحساس مجالا للتوازنات السياسية الضيقة، نكون حينئذ أمام خطر الدمار الشامل لكل المجتمع ثقافة وقيما وذاكرة وتاريخا وحتى نمطا خاصا وشاذا،... 4. في ملف الوحدة الترابية، نفس المنطق التدبيري لازال سائدا، وهو ذاك المنطق الذي جعل حضورنا الدبلوماسي باهتا بل وأحيانا متورطا في منح نقط إشعاع لخصوم وحدتنا الترابية، هذا النوع من التدبير الذي يلغى إشراك المجتمع وقواه الحية فيه استشارة وتعبئة وصناعة للقرار الرسمي، هو الذي جعل من هذا الحضور الدبلوماسي الرسمي باهتا وغير مؤثر، ذلك أن التجارب الديمقراطية الرائدة أثبتت ولازالت تثبت أن حضور الدولة القوي في ساحة المجتمع الدولي رهين بمدى انعكاس إرادة المجتمع فيها، وبالتالي بمدى الانفتاح الديمقراطي الحقيقي الذي تعيشه،... 5.في كل مرة أحاول أن أراجع قناعاتي، وأمارس تمرينا ذاتيا للاقتناع بمدى خطأ ذلك الرأي الذي يؤكد على أولوية الشروع في خط مسار انتقال تدريجي نحو دولة المجتمع المعبرة عن نبضة واختياراته وإرادته، وعلى أن هذا المسار مبتدأه إصلاحات هيكلية وسياسية ودستورية نوعية تعبر عن هذا التدرج في أن يمتلك المجتمع قراره، وأن تتجسد في سياسات الدولة اختياراته، وفي أن تتقوى الدولة باحتضانها لتطلعاته، لكن يخيب أملي في هذا التمرين الافتراضي، حين تأتي الأرقام والإحصائيات المتعلقة بمؤشرات التنمية والفساد والحريات عاكسة لقناعاتي التي حاولت افتراضا التنكر لها، 6.إن "سكة الإصلاح واضح مسارها ومبتدأها وهدفها"، أولوية الإصلاحات الدستورية والسياسية والمؤسساتية، بمضمون توسيع الصلاحيات التشريعية للبرلمان والتنفيذية للحكومة، التي ينبغي أن تكون منسجمة ومنبثقة كليا من انتخابات نزيهة وحرة وديمقراطية، وكذا بمضمون فعلي لمبدأ فصل السلط، وسمو السلطة القضائية على باقي السلط، لأن ذلك في تقديري هو الطريق الآمن والسيار لتحقيق الفاعلية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة مجتمعيا، فمن ابتغى وراء ذلك أو غير ذلك فإنما يعزف على وتر غير متناغم مع ما تريده نتائج "التحليل الملموس للواقع الملموس"،... 7. المحزن في كل ما جاء ذكره أن التنكر لمسار سكة الإصلاح، ليس يؤجل الإصلاح ويبقي أجندته في قاعة الانتظار فقط، بل تتراجع "المكتسبات" القهقرى، وعوض أن تظل الدندنة حول متطلبات البدايات الصحيحة للإصلاح، يصبح الحديث في إنقاذ بعض "المكتسبات" الراهنة من الضياع والتبديد، هكذا يعود الحديث بقوة عن "حاضر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان" من اختطافات واعتقالات تعسفية ومحاكمات غير عادلة، يعود الحديث عن "حاضر الانتهاكات الجسيمة للإرادة الشعبية" من تزوير في الانتخابات وانتشار المال الانتخابي وصناعة الخرائط الانتخابية على المقاس والحرمان من الحق في التنظيم والمشاركة ، يعود الحديث عن "حاضر الانتهاكات الجسيمة للمال العام" من فضائح اختلاسية في مالية بعض المؤسسات العمومية، يعود الحديث عن "حاضر الانتهاكات الجسيمة للخدمات الاجتماعية والقدرة الشرائية" من الارتفاع المهول للأسعار ولفواتير الماء والكهرباء وللولوج الصعب والمتعب والمكلف لخدمات الصحة العمومية،... 8. أتأمل كل هذه الإخفاقات والتراجعات، أتأمل أثرها المباشر على هذا المواطن الذي نهب حقه في المال العام، وسلب حقه في الإشراك الفعلي في صناعة الاختيارات الكبرى لبلده، ولازالت المحاولات جارية لاغتيال إرادته بحقنه بثقافة اليأس والعزوف عن الشأن العام والسلبية والتواكلية، أتأمل كل هذا، ويبدو لي أن زمننا متوقف، ووطننا متوقف، وتنميتنا متوقفة، وأحلامنا متوقفة، ونهضتنا متوقفة، وبحثنا العلمي متوقف، ومدرستنا متوقفة، وتعليمنا متوقف، مشهد مغربي رديء، محزن، مخزي، ورتيب، يخيل إلي ذلك !!! فتأتي تقارير التنمية البشرية الدولية والتقارير الحقوقية لكي تؤكد لي هذا الركود، 9. تصبحون على إصلاح يفتح باب الأمل من جديد... [email protected]