توقيع اتفاقية شراكة بين جمعية جهات المغرب وICLEI Africa        إندرايف تغير مشهد النقل الذكي في المغرب: 30% من سائقيها كانوا يعملون بسيارات الأجرة    ميناء الداخلة الأطلسي: مشروع استراتيجي يحقق تقدمًا بنسبة 27%    مجموعة صناعية دنماركية كبرى تفتح مكتباً في الداخلة لتطوير مشاريع الطاقات المتجددة في الصحراء المغربية    مجموعة ال20 تعلن وقوفها خلف قرار وقف إطلاق النار في غزة    ارتفاع حصيلة ضحايا فيضانات فالنسيا بإسبانيا إلى 227 قتيلاً ومفقودين في عداد الغائبين    الركراكي: الصبر والمثابرة أعطيا ثمارهما    يحدث هذا في فرنسا … !    توقيف شخص بمكناس يشتبه في تورطه في حيازة وترويج المخدرات    حادثة سير مميتة بتارودانت تخلف أربعة قتلى    الصناعة الرياضية: من الملاعب إلى التنمية    غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت وإصابات في تل أبيب إثر قصف صاروخي من لبنان    مكناس.. اعتقال شخص بحوزته 1689 قرص من "الإكستازي" و"الريفوتريل"    اليوم ال1000 للحرب الأوكرانية.. بوتين يوقّع مرسوما يوسع إمكان اللجوء إلى السلاح النووي    النفط يرتفع مع توقف الإنتاج في حقول نفطية    زنيبر: الاضطرابات الناجمة عن كوفيد-19 زادت من تفاقم الآثار "المدمرة بالفعل" للفساد    العسكريات يسيطرن على التشكيلة المثالية لدوري أبطال إفريقيا    شركة سوفيرين برو بارتنر جروب في قطر تعلن عن انضمام مدير عام جديد إلى فريقها، لقيادة مسيرة التوسع وتعزيز التعاون الاستراتيجي، في خطوة طموحة تنسجم مع رؤية قطر الوطنية 2030    جمعية الإمارات لطب وجراحة الصدر تضيء برج خليفة في حملة توعوية لمكافحة مرض الانسداد الرئوي المزمن    المنتخب الكويتي يختبر المدرب سلامي    نشرة إنذارية: زخات رعدية ورياح عاصفية في عدد من أقاليم المملكة        جبهة مناهضة التطبيع تتضامن مع ناشط متابع على خلفية احتجاجات ضد سفينة إسرائيلية    كيوسك الثلاثاء | مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب في المركز 76 عالميا    شخص يعاني من اضطراب نفسي يضع حدًّا لحياته شنقا ببني عمارت نواحي الحسيمة    المدير الإقليمي للشركة المتعددة الخدمات لبرشيد: المحطة الجديدة جزء من الاستثمار المستمر في تحسين أنظمة توزيع المياه بالمدينة وبجودة عالية    عرض الفليم المغربي "راضية" لمخرجته خولة بنعمر في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي        صحافيون جزائريون يستحضرون مساهمة المغرب في استقلال الجارة الشرقية    أشرف حكيمي ضمن المرشحين الخمسة للفوز بلقب أفضل لاعب إفريقي للسنة    زخات رعدية محليا قوية مصحوبة بهبات رياح عاصفية مرتقبة بعدد من أقاليم الممكلة    المفوضية الجهوية للأمن بأزرو…استعمال السلاح الوظيفي من قبل شرطي لتوقيف متورطين في اعتراض وتهديد سائق أجرة    "أطباء القطاع العام" يعلنون خوض إضراب وطني عن العمل احتجاجا على حكومة أخنوش    المنتخب المغربي يختتم تصفيات كأس إفريقيا 2025 بالعلامة الكاملة    الشرادي يكتب : عندما تنتصر إرادة العرش والشعب دفاعا عن حوزة الوطن وسيادته    العراقي محمد السالم يعود لجمهوره المغربي بحفل كبير في مراكش    المغنية هند السداسي تثير الجدل بإعلان طلاقها عبر "إنستغرام"    مجموعة العشرين تعقد قمة في البرازيل يطغى عليها التغير المناخي والحروب وانتخاب ترامب        الفرحة تعم أرجاء القصر الملكي غدا الثلاثاء بهذه المناسبة    جائزة ابن رشد للوئام تشجع التعايش    المغرب يستضيف الملتقي العربي الثاني للتنمية السياحية    مركز موكادور للدراسات والأبحاث يستنكر التدمير الكامل لقنطرة واد تدزي    الكرملين يتهم بايدن ب"تأجيج النزاع" في أوكرانيا بعد سماح واشنطن باستخدام كييف أسلحتها لضرب موسكو    فاتي جمالي تغوص أول تجربة في الدراما المصرية    تنظيم النسخة 13 من مهرجان العرائش الدولي لتلاقح الثقافات    بعد صراع مع المرض...ملك جمال الأردن أيمن العلي يودّع العالم    خبراء يحذرون من "مسدس التدليك"    شبيبة الأندية السينمائية تعقد دورتها التكوينية في طنجة    دراسة علمية: فيتامين "د" يقلل ضغط الدم لدى مرضى السمنة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    حشرات في غيبوبة .. "فطر شرير" يسيطر على الذباب    دراسة تكشف العلاقة بين الحر وأمراض القلب    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الهجرة من الذات والهجرة إليها
نشر في هسبريس يوم 06 - 05 - 2014

لو سألت أحد سكان شمال إفريقيا (وهو "تعميم" منطلق من المغرب) عن دلالات بعض الأسماء الشخصية أو أسماء الأماكن، فإن أغلبية الإجابات (حسب التجربة الشخصية، ويمكن لكل قارئ أن يتحقق من كون ذلك قاعدة أو استثناء) لن تخرج عن "البارديغم" الذي تمثله الأمثلة المتنوعة التالية، من حيث الموضوع والمستجوب معا، التالية:
عن معنى طنجة، يرى أحد أطر العمل الجمعوي -يتحدث ثلاث لغات أجنبية- أن إسم طنجة يرجع إلى أسطورة يونانية؛
عن معنى جرسيف، يجيب أحد المعلمين، الذي اشتغل في الشمال والجنوب: يتكون إسم جرسيف من كلمتين: جر + السيف. فجر يجر جرا، بمعنى استل السيف من غمده. وهذه التسمية تلخص حدثا اضطرت فيه إحدى الشخصيات إلى إشهار سيفها في منطقة جرسيف؛
عن معنى تومرت، الواردة بعد إسم مهدي الموحدين، يجيب أحد أساتذة التاريخ: تتكون كلمة تومرت من شقين: تو، التي تعد اختصارا لكلمة أتوا، ومرت، التي تشكل اختصار لكمة أمرت. مما يجعل إسم تومرت يعني بشكل عام: لقد أتوا وأمرت بهدايتهم؛ أي أتباع المهدي بن تومرت؛
وعندما تسأل أحد الأطباء (أي الذي سألتهم بالفعل، مع اختلافات طفيفة بينهم) عن معنى ابن البيطار يقول: اشتق الإسم من فعل بيطر أي عالج الحيوان, فهو الفعل الذي يقوم به البيطري. وابن البيطار، إذن، هو ابن البيطري، أي ابن طبيب الحيوانات؛
وعلى نفس المنوال تعني مكناس: ناس + مكة، ثم تبادلت كل من الكلمتين مكانها مع الأخرى، فصارت: مكة + ناس. ثم تم ضغمهما بالاستعمال، فانتقلت الكلمة من مكتناس إلى مكناس. وبنفس المنهج يمكن تفسير (النﮝافة من النجف) و(فاس من خذ الفأس...) و(أزيلا من أصيلة) و(تيمحضيت من تيمهديت)...
يذكر بعض من سألتهم وتلقيت منهم مثل هذه الإجابات، أنني طلبت منهم (من باب الدعابة، ولكن بشكل غير حصري) إن وجدوا شيئا (كيفما كان؛ كلمة أو كائنا حيا أو آثارا من أي نوع) في المغرب أن يتصلوا بي بحثا عن تفسير شمال إفريقي قبل أن ينسبوا الشيء إلى ما يقع خارج شمال إفريقيا. ويزداد الطلب إلحاحا مع تقادم "الشيء"، لأنني ألاحظ أن الشعوب، في حالتها العادية، قد تخلق الأساطير من أجل إثبات ذاتها (ولكنها تعتمد البحث العلمي في سياساتها الثقافية) بينما نحن (والخطاب موجه هنا للمخاطب بالفتح) نخلق الأساطير التي تنفي ذواتنا وتمتص دماء ثقافتنا. طبعا ليس المقصود بهذا الطلب ادعاء القدرة على تفسير كل "أشياء شمال إفريقيا"، لأنها مهمة الدولة الوطنية الديمقراطية، ولكن الهدف هو فقط تغيير توجيه إشارة المرور نحو تقدير الثقافة المغربية. لأن التأمل في هذا النمط من التفاسير يؤدي بنا إلى تسجيل الملاحظات التالية:
كل هذه التأويلات تعتمد على مرجعية خارج شمال إفريقيا، بل وتفضلها. وقد تشكل ما يشبه الفعل المنعكس؛ الذي لا يحتاج إلى تفكيرمنظم. بحيث أن الموجود في التأويل هو "ما شي أنا"؛
كل هذه التأويلات تعتمد على بديهية ضمنية مفادها أن ما يوجد في شمال إفريقيا لا يمكن أن يكون موضوعا مهما للتفكير أو يستحق الالتفات إليه. لذلك فبمجرد ذكر "شيء" من شمال إفريقيا، يحس هذا النوع من ردود الأفعال بأن عليه أن يرتاح، في انتظار موضوع براني. ولا بأس حينئذ من الحديث عنه بشكل براني أيضا؛ إذ أن قيمته تزداد بتزايد حجم الالتباس الذي يميزه؛
تسمح لنا هاتان الملاحظتان بافتراض وجود سمة سيكوسوسيولوجية شمال إفريقية تتجه إلى تقدير الغير دون مبرر وتبخيس الذات دون مبرر أيضا. وقد يختلط هذا الأمر مع الإرادة. فجميع المغاربة الذين التقيتهم (المندرجين في الخانة أعلاه) يحبون المغرب ويتمنون له التقدم والازدهار. وحتى في حالات النقد (غير العلمي طبعا) الأكثر شراسة تقف هذه الإرادة شاهدة على مفارقة يعيشها هؤلاء: تقدير الغير غير المبرر وتبخيس الذات غير المبرر!
نعتقد أن الأمر أعقد من الإرادة لوحدها. لأن الأفكار والتقديرات (اعتبارا وتبخيسا) التي نعتقد أنها ناتجة عن إرادتنا ليست في الواقع إلا تسريبات سربتها آلة الدولة (بالمعنى الألتوسيري) إلى أدمغة الناس ونجحت في إيهامهم بأنها أفكارهم بمختلف أشكال الترغيب والترهيب، التجاهل والتبجيل، النفخ والتحطيم.
في ضوء هذا التحليل، تقع المسؤولية الأولى على وزارة التعليم: حيث يتبين من دراسة الكتاب المدرسي (الدراسة الفعلية وليس المفترضة) أن تغييب الذات الثقافية المغربية (في تنوعها وتجلياتها الفعلية دون أحكام مسبقة) والحضور المعتبر لمكونات الثقافة الغيرية، يؤديان عبر ميكانيزمي التوحد والتكوين العكسي إلى استبدال مكونات الثقافة المغربية بالمكونات الثانية، ليصير المغربي (والأمر قابل للتعميم على شمال إفريقيا) منجذبا، دون وعي، إلى المكونات الثقافية الغيرية التي تستطيع أن تفسر له الذات. ولا بأس إن كان ذلك التفسير من قبيل "ما لا يقبله عقل absurde" على غرار الأمثلة أعلاه.
ثم تأتي مسؤولية وزارة الثقافة، التي يجب تسجيل بأنها الوزارة الأقل انجذابا للمكونات الغيرية، وإن كانت لا تستثنى من القاعدة. فوليلي، مثلا، أهم بالحماية والترميم من صخور تيفيناغ في تينزولين، التي صمدت لكل عوامل الإهمال. كما أن ميل الوزارة إلى تفضيل التراث المادي على التراث غير المادي يعتبر أحد تجليات نفس الآليات الإيديولوجية للدولة. هذا بالإضافة إلى سلوك الإدارة الناتج عن كيفية فهمها لنفسها وللناس في المغرب. كل هذا يتجلى ويغذي (لأن المسألة تفاعلية) النكت العنصرية والتمييزية والأحكام الجاهزة والقبلية.
ضمن ملامح هذه السحنة الثقافية، بمعنى ديناميكية اشتغال "آلة الدولة الإيديولوجية" التي فصل التوسير فيها الحديث النظري، يمكن فهم تصريح رئيس الحكومة تعقيب في موضوع الهجرة والتنقل خلال الجلسة الشهرية بمجلس المستشارين بتاريخ 30 أبريل 2014. حيث فصل في كيف صار المغرب من "دول الاستقبال". وأن "بلادنا أرض هجرة بامتياز". وإلى هذا الحد، فإن الأمر في اعتقادنا يجب أن يكون موضوع افتخار، خصوصا وأن هناك نوع من الترابط بين كينونة الاستقبال والتقدم على المستوى الاقتصادي والحقوقي. ذلك أن من النادر جدا أن نجد مدا للهجرة يتجه نحو الدول الاستبدادية أو الدول الفقيرة (جدا). كما أن دول الاستقبال تعتبر، نظريا، من أكثر الدول حرثا لقيم الاختلاف والتسامح.
لكن السيد رئيس الحكومة، وهو يمتشق هذا المعطى، "نسي" المعطى الابتدائي الذي لا تستقيم الهجرة بدونه، ألا وهو "حجر الزاوية" الذي يتمثل في سكان المغرب قبل بداية الهجرة. لا يتعلق الأمر بمعطى ميتافيزيقي بل بمعطيات تاريخية محققة بالاركيولوجيا قبل الوثائق وبعدها. لذلك بدا الخطاب وكأنه يريد تحقيق هدف آخر غير المنطوق الطبيعي لقيم الاختلاف والتسامح. لأن المنطوق الطبيعي يفترض في الهجرة أن تتجه نحو بلد به سكان وتحترم فيه حقوق الجميع في جميع الحقوق، تبعا لتواجدهم على أديم الأرض فقط، بغض النظر عن كونهم سابقون أو لاحقون، لأن الوطن هو الحقوق. وكأن السيد رئيس الحكومة كان حريصا على عدم ذكر السابقين (هل لأنهم غير موجودين في سياسته، سؤال استراتيجي!) واكتفى بذكر أن المغرب "طيلة تاريخه والقرون السابقة" كان قبلة للمهاجرين. وكأنه يريد أن يفهمنا أن طوال هذا التاريخ والقرون تشكل المغرب فقط بالهجرة وبالهجرة فقط.
كان بالإمكان أن نفهم هذه الرغبة في نفي درس التعليم الإبتدائي الوحيد، الذي كان محل نقد وسخط من طرف المغاربة، الذين اختزلهم هذا الدرس في "البربر... الذين سكنوا الكهوف والمغاور". كان هذا الفهم ممكنا لو كان الوزير يتحدث عن شخصه (وهو أمر يحتاج نفسه إلى إثبات) أو مع من يفترض أنه هاجر معهم، ولكن أن يتحدث بصفته رئيس الحكومة المغربية؛ أي جميع المغاربة فهذا ما يستعصي عن الفهم. ويزيد هذا الاستعصاء استعصاء عندما تستعرض الشاشة (الناقلة للجلسة البرلمانية) وجوه وزراء مثل السيد الشوباني والسيد باها ونوابا برلمانيين مثل السيد بوانو,
وكأنه يريد أن يقول بأنه يفهم قصدهما (أي السيدان باها والشوباني)، وهما يلهيان المغاربة بالحديث عن "متطرفي" الأمازيغية بدل أن يعملا على اتخاذ إجراءات عملية من خلق مناصب الشغل للمعطلين والمستشفيات للمرضى والمدارس الحديثة، التي تربي العقل، للأطفال، دعما لكرامة المغاربة، "دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء". وهي الكرامة التي تعد حماية الأمازيغية والنهوض بها أحد أبعادها الرئيسة. لذلك تحاشى السيد بنكيران الحديث عن غير المهاجرين في المغرب: وكأن حال لسانه يقول ليس في المغرب إلا المهاجرين وخدام المهاجرين. وطبعا لو سألنا من هم خدام المهاجرين، فلن نجد ما يشفي الغليل في خطبة رئيس الحكومة، لأن المغاربة كلهم مهاجرين، بما في ذلك السيدين باها والشوباني.
أما الحقيقة فهي أن الأمازيغ كانوا دائما أحضانا مفتوحة لكل المهاجرين، باستثناء الوندال حسب الرواية الرسمية. وأن هذه السمة هي التي جعلت من الأمازيغ خزانا للحضارة الإنسانية التي ازدهرت في حوض البحر الأبيض المتوسط: من العقل اليوناني إلى الثقافة اللاتينية إلى الحضارة الإسلامية إلى المساهمات الأوربية في العلوم ومختلف نواحي الأدب. إذ أن التاريخ التليد للمقاومة المغربية هو الذي جعل من هذه الروافد مصدر ثراء للمغرب وشمال إفريقيا وأكسبت الشخصية المغربية مرونة فكرية وعقلية وعقائدية.
إن هذا الإنكار أو الإسقاط أو التجاهل أو السهو (حسب النية الثاوية وراء الخطاب) لا يمكن مقارنتها بثقافة الميلتينغ بوط (milting pot، البراد المشحر بالعشوب تقريبا) في جانبها الإيجابي المتمثل في الاعتراف بجميع الحقوق للجميع (بصح)، بقدر ما يمكن مقارنتها بالتقتيل والتهميش الذي أباد (مع الفارق) الهنود الحمر في أمريكا.
والذي يخدم هذا المنحى ليس هو التصريح بالإجراءات النظرية المتخذة والتي تتفاعل مع القيم والاعتبارات الدولية، من قبيل:
"ضمان تمتع المهاجرين وأفراد أسرهم بالحقوق الأساسية وحمايتهم من شتى أشكال التمييز وتحقيق تكافؤ الفرص؛
تمكين المهاجر من الإلمام بثقافة ولغات (في النقل التلفزي، كان من الصعب تمييز هل نطق رئيس الحكومة بكلمة لغة أم لغات، ولكننا نفضل، مع الدستور، أن ننسب له اللغات بالجمع) المغرب مع العمل على مساعدته على المحافظة على هويته الأصلية بمختلف مكوناتها"...
إن تطبيق هذا المقتضى، على أرض الواقع، لا بد أن يصطدم بالإجراءات التمييزية التي تمارسها الحكومة ضد الأمازيغية. فكيف تستطيع الحكومة " تمكين المهاجر من الإلمام بثقافة ولغات المغرب"، وهي تنحاز لبعض المكونات الثقافية على حساب الأخرى وتنحاز إلى العربية على حساب الأمازيغية، سواء في التعليم أو الإعلام أو القضاء أو الإدارة أو الفضاء العام؟ سؤال حقيقي!
و لهذا السبب بات من المستعجل تطبيق مقتضيات الدستور المغربي الذي تحدث عن الأمازيغية باعتبارها "رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء". لأن إسقاط الأمازيغية من معادلة الهوية (في سيرورتها التاريخية من القاعدة الصلبة إلى مختلف الروافد بالهجرة وغيرها) يعني إسقاط المغرب في براثن أكلة تاريخ البشر وثقافتهم والاستمرار في تمريغ كرامته بدل حماية تمزيغ هويته والنهوض بها.
أما ما يمكن أن تعنيه بوانو، فالأمر ليس عسيرا على التربية الثقافية المدرسية الغيرية: فهي تتكون من كلمتين: (بو) التي تعني أبو و(أنو) التي حرفت عن آن أي الآن، مما يعني أن: بوانو=أبو الآن. أما السند التاريخي لذلك فيتمثل في حكاية أحد الجدود الذي قدم من اليونان وكان إسمه كرونوس (الزمن باليونانية)، وعندما وصل إلى المغرب ترجمت كرونوس ب (الآن) مجازا، أي إطلاق إسم الجزء على الكل.
شخصيا، لا استبعد من النائب المكناسي بوانو، إذا سألناه عن معنى إسمه، أن يجيب ببساطة أن إسمه يعني: "مول البير". ويمكن القول بأن ذلك يرتبط بدرجة تشبعه بالتربية المدرسية الغيرية، إذ كلما زاد التشبع كلما زاد احتمال التأويل الأول (أبو الآن أي l'absurde)، وكلما قل هذا التشبع كلما اتجه التأويل إلى "مول البير"، أي إلى الحقيقة. وعلى أساس التأويل الأخير، تتميز (بو) عن (أبو)، لتعني صاحب أو مالك أو مول، وأنو anu التي تعني الجب. وهي نفس الكلمة (مصغرة) التي نجدها في (imi n tanut). وعندما يكتب إسم هذه المدينة بثلاث كلمات (imi+ n+ tanut) تكون الدولة المغربية قد بدأت تعي المجال الثقافي الذي توجد فيه.
ليس في مصلحة الوطن وجود هذا التدمير الذاتي، كي لا نقول التدمير فقط. لأننا حاولنا إيجاد مقابل لهذه النزعة عند غيرنا من الشعوب فلم نجد لها مثيلا. ومن باب المساهمة في "إعادة الأمور إلى نصابها" (وهنا يجب البحث عن الدلالة الثقافية لهذا لتعبير في نمط عيش قبيلة قريش وما جاورها قبل ظهور الدعوة المحمدية)، نقول:
تعني طنجة العالية؛ أي المطلة من فوق. وهي مشتقة من الفعل (yugga) الأمازيغي الذي يعني أطل. لذلك نجد إسمها في المصادر التي احتفظت بالنطق الأمازيغي على شكل (tingi/tinigi).على اعتبار النطق الزناتي يجمجم القاف المعقوفة في النطقين الصنهاجي والمصمودي (بالمعاني العامة لهذه التعيينات). لذلك عندما يقول سكان طنجة (وغيرهم بحكم إشهار الأغنية): طنجة يالعالية، فكأنهم يقولون: العالية يالعالية أو العالية يا طنجة أو تينكي يالعالية أو طنجة يا تينكي. وعلى ذلك يمكن قياس "كيف كيف" و"بحال بحال" و"قد قد" في التعابير المغربية التي تستعمل هذا النوع من التكرار؛
وتتكون كلمة جرسيف، فعلا، من كلمتين: جر (في النطق الزناتي وﮔر gr أو ئنكر ingr في غيره) التي تعني بين entreوكلمة أسيف التي تعني النهر. وهذا ما يوجد في التعبير "بين الويدان" التي تتأصل في الأمازيغية ب"جرإسافن". بينما تعني أجرسيف (بالنطقين معا) الضباب الذي يكسو الوديان، خصوصا في الصباح الباكر؛
أما إسم تومرت، فيورد البيدق (وهو من أصحاب المهدي بن تومرت وكاتب سيرته ومؤرخ دعوته) أن أم المهدي فرحت بميلاده فرحا شديدا لدرجة أنها عبرت عن ذلك بقولها:
(a tumrt inu issk a iwi )، بمعنى: " يا فرحتي بك يا بني". وبغض النظر عن الحدث التاريخي، فإن اللسان الأمازيغي ما زال يحتفظ بكلمة (تومرت) بمعنى الفرح والسرور؛
وتعني كلمة البيطار (في النطق الزناتي أبيطار)، وفي النطق المصمودي (أبيضار) الأعرج. وبذلك تعني ابن البيطار، ابن الأعرج. والأعرج إسم شائع في شمال إفريقيا دون حاجة إلى وجود مقابل جسمي عند حامل الإسم. ويرادفه في اللغة والاستعمال إسم أحيزون. أما تبادل الطاء والضاض بين النطقين الزناتي والمصمودي فهو ما نجده في : أضو-أطو، أضار-أطار وغيرهما؛
وما زالت مفردة أمكناس تستعمل، إلى اليوم، عند الأمازيغ الطوارق بمعنى المجادل. وهي إسم الفاعل من فعل (kns، الصيغة المجردة للفعل في الأمازيغية هي صيغة الأمر) التي تعني جادل. ونترك للقارئ إنجاز التمارين (بالمعنى الرياضي sportifs) اللازمة لاكتشاف دلالات باقي الكلمات أعلاه وغيرها مما يحفل به الوطن وأسماء المواطنات والمواطنين.
نتمنى أن نكون قد ساهمنا في فتح نافذة الاهتمام بالوطن الثقافي، وبالخصوص، عند المسؤولين الذين ما زالوا مصرين على إقناعنا بطرق بليغة وأخرى ركيكة بأن الوطن ليس للمواطنين ولكن لمن لا يعرفه ومن لا يستطيع حتى ذكره، فأحرى أن يعمل على حماية مكوناته اللغوية والثقافية وينهض بها. الله يستر!
إن إلهاء المغاربة والزج بهم في مغالطات ثقافية وانتقائية تمييزية لا تصمد أمام الحجج التاريخية والعلمية والموضوعية هو جزء لا يتجزأ من إلهاء المغاربة عن الحقيقة الشاملة التي تهم مختلف مناحي الحياة. لأن الحقيقة هي التي تمكنهم من النظر إلى غياب القدرة على بناء سياسة شمولية ونسقية يتكامل فيها السياسي والمدني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي لحل المشاكل المتمثلة في توفير التعليم الوطني والديمقراطي والمنتج وفرص الشغل وظروف الصحة الجسمية والنفسية والعدالة الاجتماعية الضامنة لكرامة المغاربة كيفما كانت أصولهم.
إن هناك فضاء واسع يتسع لتاريخ شمال إفريقيا ومستقبلها المحترم لحقوق الإنسان. إذ تتسع رحابة هذا الفضاء لكل المغاربة بغض النظر عن اعتبارات "العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر". إذ يقع هذا الفضاء بين الهجرة من الذات والهجرة إليها: إنه التموقع و الاعتزاز بالذات والعمل على تطويرها والانفتاح غير المشروط على الآخر، على اعتبار أنهما (الذات والآخر بالجمع المؤنث والمذكر) مكونات الإنسان التي لا غنى لأي منها عن الآخر.
- فاعل مدني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.