في وسط حيّ "غيدياواي" الشعبي بضواحي العاصمة السنغالية داكار، ينتصب مبنى مدرسة قرآنية تتعالى منها أصوات الأطفال مرتّلة لآيات القرآن الكريم أو مردّدة للأناشيد الدينية.. كما يتعالى منها احيانا صوت معلم اللغة الفرنسية ومن ورائه أصوات التلاميذ.. ركن هادئ بتلك المنطقة الشعبية، لا يخرق صمته سوى اندفاع الأطفال لدى خروجهم من المدرسة، وتواتر صياحهم كلّما نشب بينهم شجار. في هذه المدرسة، أو "الكتّاب"، يحرص صاحبها الحاج "عمر تال" على تنشئة الأطفال على قيم الدين الإسلامي الحنيف، بما يقيهم خطر الانزلاق في متاهات الجريمة، أو الارتماء في أحضان الشوارع للتسوّل.. بالاقتراب من المدرسة، يتبيّن للمرء أنّ المبنى ليس سوى مسجد لم يكتمل بناؤه بعد.. طلاء باهت يكسو الجدران الخارجية، وكتابات الأطفال عليها تشي بما تمخّضت عنه قريحتهم عندما يطلق أستاذهم سراحهم من الدروس.. بين الفينة والأخرى، تتعالى أصوات الطلاّب الصغار لتبتر ذلك السكون الذي لا يتلاءم بأيّ حال مع مكان لا يعرف الهدوء إلاّ في ساعات الليل المتأخّرة.. في الداخل، انكبّت أشباح الأطفال الصغار على قطع من اللوح يستعملونها لتدوين بعض المصطلحات.. في هذا "الكتّاب" أو ال "دارا" (مدرسة قرآنية) كما يصطلحون على تسميتها في اللهجة المحلّية، يتعلّم الطلاّب بصوت عال.. ايقاع أصواتهم الجماعي يضخّ في أنفسهم الحماس، ويمنحهم إحساسا بجمالية انسجام الأصوات وانتظام وقعها على الأذن.. وأمام ذلك الحشد من الأطفال، يقف معلّمهم.. "محمد نياس" شيخ في الستين من عمره، قضّى منها أربعة وثلاثين سنة وهو يعلّم الأطفال القرآن واللغة العربية من السبت إلى الأربعاء، وذلك قصد السماح لتلامذة المدارس الفرنسية بالحضور.. "نياس" قال في حماس "إنّها مدرسة قرآنية مختلفة عن غيرها"، موضحا "هناك أطفال يدرسون بمدارس فرنسية خاصة، يتلقّون، كلّ يوم سبت (يوم العطلة المدرسية)، دروسا في اللغة الفرنسية من قبل أساتذة متطوّعين بجانب ترتيل القرآن"، وذلك بهدف جذبهم للمدرسة وتعلم القرآن. فبالنسبة ل "نياس"، لا سبيل لأن يترك أولئك الأطفال في شوارع حيّ شعبي يعتبر وكرا للجريمة وعدم الاستقرار، ويجب السعي بكل الوسائل، بما فيها تدريس الفرنسية، لجذبهم للمدرسة. "غيدياواي" منطقة تعاني الفقر والتهميش.. ظروف اجتماعية صعبة تدفع بالأطفال نحو الشوارع بكلّ ما يعنيه ذلك من سقوط مبكّر في جبّ الانحراف، لذلك، فإنّ وجود مدرسة قرآنية في المنطقة "يمنح هؤلاء الأطفال فرصة ليس للنهل من تعاليم الدين واللغة فحسب، وإنّما تقيهم خطر الانحراف" على حدّ تعبير "نياس". توفير الأمن داخل المدرسة القرآنية يشكّل هاجسا بالنسبة لمعلّمها.. والأمن هنا لا يقتصر على جانبه المتعارف عليه فحسب، وإنّما يشمل أيضا مجمل العوامل التي تهدّد سلامة الأطفال، والتي من أبرزها الحرائق والفياضانات.. ففي فصل الشتاء يتسبّب هطول الأمطار بشكل مكثّف في ارتفاع منسوب المياه مقارنة بسطح الأرض.. ولأنّ البنية الأساسية في ذلك الحيّ تنزل عن حدود المعقول، فإنّ الأولياء يجدون في المدرسة القرآنية ملاذا يوفّر الحماية لأطفالهم.. ففي مارس 2013، لقي تسعة أطفال حتفهم في حريق أتى على مدرسة قرآنية في داكار.. لذلك، وتفاديا لمآسي مماثلة، يعمل "نياس" على تغيير مقرّ المدرسة باستمرار. في حيّ "غيدياواي" ترتفع نسبة الفقر، والآباء منشغلون طوال اليوم بسبل تحصيل قوت أبنائهم. وهو ما يجعل من إمكانية إفلات الأطفال من رقابتهم واردة ومتاحة إلى حدّ كبير. "مريم با" سنغالية وأمّ لستّة أطفال ترى من جانبها أنّ المدرسة القرآنية "تحمي أطفالي"، فعلى الأقلّ "أنا أعرف تماما أنّ تواجدهم هناك يجعلهم بمأمن من الشوارع ومن رفاق السوء". مظاهر الاختلاف على هذا المستوى تكمن بالأساس في الجانب المالي لعملية التعليم في المدارس القرآنية. فالمعلّم لم يعد بحاجة إلى استجداء طلبته مبلغا كلّ شهر من أجل تأمين نفقاته، وإنّما – على العكس من ذلك تماما- فهو يعمل متطوعا وعن طيب خاطر، والمدرسة لا تقبل سوى بهذه النوعية من المعلمين المتطوعين، لتجنب ظاهرة "تسول المدرسين" في مدارس اخرى، وإنما تطلب من التلاميذ رسوما شهرية رمزية. ورغم أنّ "نياس" لا يمكنه تحمّل نفقات إدارة المدرسة، ورغم أنّ التدريس لا يوفّر دخلا يمكّن من تلبية حاجياته الأساسية، إلاّ أنّه لا ينوي التخلّي عن البعض من طلاّبه ممّن لم يدفعوا ما عليهم من مستحقّات شهرية. "لديّ 313 طالبا، وعليهم أن يدفعوا لي شهريا ألف فرنك افريقي (أي 2 دولار).. غير أنّني لا أحصل سوى على 80 ألف (160 دولار) كلّ شهر.. فالآباء لا يمتلكون دائما المال الكافي لتسديد ما عليهم، وهذا يعني أنّ معظم الطلاّب يحصلون على دروس مجانية". "نياس" أشار إلى وجود "نفقات إضافية أخرى تشمل الحبر والألواح، ومن الصعب أن أتمكّن من ابتياع كلّ هذه اللوازم ودفع إيجار المسكن الذي أقطن فيه وإعالة عائلتي"، بيد "أنّي لن أقوم بطرد أيّ طالب منهم لمجرّد أنّه لم يدفع لي، فأنا أقوم بعملي هذا لنيل الثواب من عند الله، وكلّ ما يهمّني هو نقل المعرفة بالدين الإسلامي إلى الأطفال، وهذا برأيي لا يقدذر بثمن". ولدرء مجمل النقائص، وأمام انحسار قائمة الحلول المتاحة تحت ضغط الحاجة، لم يتبقّ من حلّ سوى اللجوء إلى العمل التطوّعي، حيث يتكفّل الأطفال الأكبر سنّا بمسك سجلاّت الحضور. كما يحصل "نياس" على الدعم اللازم من لدن نساء الحيّ، واللائي شكّلن لجنة لإدارة المدرسة القرآنية أطلقن عليها اسم "أمهات المدرسة". وتعتني اللجنة ب 29 طالبا ممّن يقيمون بعيدا عن العاصمة داكار، وذلك باستضافتهم لدى بعض الأسر المتواجدة بالمنطقة. وتحصل اللجنة على التمويل عن طريق التبرّعات التي يحصلن عليها من هنا وهناك.. وتحصل المدرسة في بعض الأحيان على هبات من المنظمات الدولية، على غرار ما حدث في العام 2013 مع نهاية شهر رمضان الكريم، حين قدّمت الوكالة التركية للتنمية والتعاون الدولي - تيكا - مساعدات في شكل "ملابس وأحذية لعدد من المدارس القرآنية في البلاد"، وقد حظي "40 من طلاذب مدرستنا بهذه الهبة"، بحسب "نياس". في مدرسة الشيخ "عمر تال"، يتمكّن الطلاّب من حفظ القرآن بعد 7 إلى 8 سنوات من التعليم المتواصل.. 313 من الطلاّب يرتادونها حاليا (بين سنّ الثالثة إلى الثمانية عشر)، منهم 119 فتاة. تأسّست المدرسة سنة 1994، وبرزت على مدار السنين كمقصد لتلقّي الدروس وتعلذم القرآن. "نياس" قال إنّه يتطلّع لأن تكون "مدرسة نموذجية" مقارنة ببقية المدارس.. فالدور الذي تضطلع به يعتبر محوريا من حيث التقليص من انحراف الأطفال ومن ظاهرة أطفال الشوارع عموما.. ففي مارس الماضي، أشارت وزارة العدل السنغالية في بيان لها أنّ 39 ألف طفل يتسوّلون في شوارع داكار من أجل الحصول على قوت يومهم وإعالة عائلاتهم، بتحريض من مرابطي المدارس القرآنية.. آفة اجتماعية فشلت السنغال في احتوائها بصفة كلّية، وفقا لتقرير صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" غير الحكومية في التاسع عشر من مارس الماضي. * وكالة أنباء الأناضول