إن صناعة التشريع هي عملية دقيقة، ولا تخلو من صعوبات وتعقيدات، بالنظر إلى تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهي تتم وفق منهجية، وفي إطار من التدرّج والشمولية والاستشراف. تحيل صناعة التشريع إلى الإعداد والتحضير، تبعاً لإجراءات معينة، على سبيل تحقيق أهداف والاستجابة لحاجات محدّدة، ترتبط بتنظيم سلوك الأفراد والهيئات داخل المجتمع، مع استحضار الجانب الزجري والإلزامي في هذا الخصوص. يقتضي سنّ تشريعات منفتحة على تطوّر المجتمع وخصوصياته، وبقدر من الثّبات الكفيل بضمان استقرار المعاملات، وتحقيق العدالة، والاستئناس بآراء الهيئات المعنيّة، وفتح نقاشات عمومية، علاوة على احترام التدابير القانونية، والإدارية ذات الصلة، مع الانفتاح على تجارب وتشريعات مقارنة، واستحضار الالتزامات الدولية، فيما يتعلق بالاتفاقيات المصادق عليها في مختلف المجالات (حماية البيئة وحقوق الإنسان). كما تتطلب أيضاً قدرة فائقة على استيعاب المتغيرات الاجتماعية وتطوراتها، ومعرفة شاملة بالقانون وتفرّعاته، وإشكالاته المختلفة، والوعي بانتظارات المجتمع في هذا الصدد. تسهم جودة القوانين في بلورة عدد من المداخل والحلول الكفيلة بالتعاطي بنجاعة مع الإشكالات والنزاعات التي يطرحها الواقع الاجتماعي المتغير، والمساهمة في تطوير النصوص القانونية، وجعلها مواكبة للتطورات الحاصلة داخل المجتمع، وتعزيز الحماية اللازمة للحقوق والحريات، كما تدعم أيضاً استقرار وتجويد القاعدة القانونية. تمرّ التشريعات قبل صياغتها النهائية بمجموعة من المراحل، التي تبدأ بتحديد الموضوع أو دواعي ودوافع الصياغة وأهدافها الكبرى، ثم تخصيص إمكانيات تقنية ومالية وبشرية لإنجاح هذه المهمة، قبل فتح نقاشات عمومية في هذا الصدد، والوقوف على آراء الخبراء والفقهاء والمختصين والمواطنين. ويمكن إجمال الضوابط التي ينبغي التقيّد بها عند الصياغة النهائية، في تدقيق الهدف من التشريع، وسياقه، ومبرراته، ودواعيه، والاطلاع على النصوص ذات الصلة، لتجاوز أي تناقض أو تداخل قد يحدث في هذا الخصوص، وتعزيز الانسجام والتكامل مع باقي هذه التشريعات. ثم تصنيف القانون الجديد تبعاً للفرع الذي يندرج ضمنه، وتحديد ما إذا كان الأمر يتعلق بتشريع جديد، أو مجرد تعديل لنصوص سابقة. ويفترض في اللغة القانونية المستعملة أن تكون دقيقة وواضحة ومجردة ومختصرة، ولا تحتمل معاني كثيرة أو غموضاً، رغم أن هذا الأخير قد يكون مقصوداً في بعض الأحيان، يتيح هامشاً أمام سلطة القاضي التقديرية. كما ينبغي أن يكون النصّ التشريعي متماسكاً، من حيث تطابق الألفاظ المستخدمة مع المعنى المقصود. وعندما يتمّ إعداد مسودّة أولية للتّشريع المطلوب، يتم تكليف كفاءات تحظى بقدر من الاستقلالية والنزاهة، ومختصة في مجال الصياغة القانونية، لوضع مشروع دقيق، ثم عرضه على الهيئة التشريعية المختصة التي قد تتشكّل من غرفة واحدة أو أكثر، قبل المصادقة عليه من قبل رئيس الدولة وإصداره في الجريدة الرسمية. انطلاقاً من سموّ الدستور، ثمّة قاعدة قانونية معروفة تقضي بأن التشريعات العادية لا ينبغي أن تكون متناقضة مع بنود القانون الدستوري. ومن هنا تأتي الرقابة الدستورية كمدخل للتأكد من مطابقة التشريعات المختلفة لهذا الدستور، وإضفاء طابع المشروعية على مقتضياتها. وتتّخذ الرقابة على دستورية القوانين منحيين: الأول، سياسي ووقائي (قبلي)، يتم من خلال هيئة سياسية يحدّدها الدستور، والثاني قضائي (بعدي)، ينحو إلى التحقّق من مدى مطابقة التشريع لمقتضيات الدستور. وعادة ما توكل مهمّة النظر في دستورية القوانين إلى هيئات تحدّدها الدساتير نفسها (مثلاً المحكمة الدستورية في المغرب بموجب دستور 2011). ومخالفة النص للدستور تفرض إلغاءه أو مراجعته من جديد. الجدير بالذكر أن هذه الرقابة تدعم دولة الحق والقانون، وترسخ سموّ الدستور، والممارسة الديمقراطية واحترام المؤسسات. إن كسب رهان تحقيق الجودة في صناعة التشريع بما يدعم استقرار هذا الأخير، هو مدخل يضمن الفعّالية والنجاعة، وتحقيق الأهداف الكبرى المتوخّاة من إصدار القوانين بشكل عام. أضحى اليوم الكثير من التشريعات في عدد من الدول المتقدمة، يمثّل في جودته ودقّته وتجرّده، مرجعاً رائداً يتم الاستئناس به في صياغة وصناعة القوانين في مختلف دول العالم. وتستأثر جودة القوانين بأهمية كبيرة، فعلاوة على مساهمتها في توفير شروط التنمية المستدامة، فهي تعبد الطريق أمام مؤسسة القضاء لتحقيق العدالة والمساواة والإنصاف في إطار من المرونة والنجاعة. عملية التشريع هذه داخل الغرفة الأولى (مجلس النواب) إن تحرير هذا المقال المبسط عن مسطرة التشريع بالمغرب، يعود إلى بعض المحاضرات التي ألقاها الأستاذ عبد الرحيم خالص في مادة القضاء الدستوري والرقابة على التشريع بماستر الصياغة القانونية وتقنيات التشريع بالمغرب بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بأيت ملول (جامعة ابن زهر بأكادير). ولذلك، عمدت إلى محاولة تلخيصها وتقديمها للمتلقي والباحث المهتم، بهدف بسط بعض خطواتها وإجراءاتها الرئيسية كما تتم لدى مجلس النواب؛ مع العلم بأن نفس المسطرة والخطوات تتم على مستوى مجلس المستشارين بالبرلمان المغربي (لكن مع اختلافات جوهرية يمكن الإشارة إليها في مقال مقبل). تبعا لما سبق، تمر مسطرة التشريع بالمغرب، تقريبا، بأربع مراحل محددة ومتكاملة فيما بينها، لكل مرحلة تسميتها وخطواتها الرئيسية، كما لها إجراءات دقيقة ومضبوطة. المرحلة الأولى يمكن تسميتها بمرحلة الاستقبال لدى مكتب مجلس النواب، تتحدد خطواتها الرئيسية في سبع خطوات: تكون البداية بالإيداع، ويقصد به إيداع الحكومة مشاريع قوانينها لدى مكتب مجلس النواب (الفصل 78 من الدستور المغربي لسنة 2011)، وكذا إيداع النائبات والنواب مقترحات القوانين (المادة 172 من النظام الداخلي لمجلس النواب) والمواطنات والمواطنين لملتمسات التشريع (الفصل 14 من الدستور المغربي لسنة 2011). تليها خطوة الإحالة الخارجية، وتعني أن مكتب مجلس المستشارين يحيل مشاريع ومقترحات القوانين على مكتب مجلس النواب (نظمت هذه العملية المادة 172 من النظام الداخلي لمجلس النواب). ثم تأتي خطوة التوزيع، فيها يوزع مكتب مجلس النواب مشاريع ومقترحات القوانين على النائبات والنواب، سواء على شكل ورقي أو على حامل إلكتروني، وذلك تبعاً لمضمون المادة 173 من النظام الداخلي لمجلس النواب. وبعد التوزيع تتم خطوة الإحاطة الداخلية، والتي تعني أن رئيس مجلس النواب يحيط علماً رئيس مجلس المستشارين بكل مشروع أو مقترح قانون تم وضعه بالإيداع لدى مكتب مجلس النواب (المادة 174 من النظام الداخلي لمجلس النواب)، أو بملاحظة حول مضامين المقترحين (المادة 175 من النظام الداخلي لمجلس النواب). أما عن خطوة الإحاطة الخارجية، والتي يقصد بها أن رئيس مجلس النواب يحيط الحكومة علماً بكل مقترحات القوانين 10 أيام قبل إحالتها على اللجان الدائمة المختصة (تبعا لمضمون المادة 176 من النظام الداخلي لمجلس النواب). وتأتي بعد ذلك خطوة السحب، ومعناها أنه يمكن التراجع عن مناقشة كل مشروع قانون أودع أو مقترح قانون أحيل على مجلس النواب، وفق حالات محددة حسب نص (المادة 177 و178 من النظام الداخلي لمجلس النواب). وأخيراً، تأتي خطوة الإحالة الداخلية، فيها يحيل رئيس مجلس النواب على اللجنة الدائمة المختصة كل مشروع أو مقترح قانون تم إيداعه لدى مكتب هذا المجلس "مجلس النواب"، مع وثائقه ذات الصلة، وذلك طبقاً لما نص عليه (الفصل 80 من دستور المغرب لسنة 2011، وكذلك المادة 179 من النظام الداخلي لمجلس النواب). أما عن المرحلة الثانية، والمسماة بمرحلة العرض على مكتب اللجنة الدائمة المختصة، فتتحدد خطواتها الرئيسية في أربع عمليات هي: البرمجة الموضوعية والزمنية. فالأولى، حسب المادة 180 من النظام الداخلي لمجلس النواب، يقصد بها البرمجة المتعلقة بدراسة مشاريع ومقترحات القوانين من جهة، وإعداد التقارير من جهة أخرى. بينما الثانية (البرمجة الزمنية) تتعلق ببرمجة الوقت المخصص للمناقشة العامة ودراسة المواد، ثم إيداع التعديلات والتصويت عليها (حسب المادة 181 من النظام الداخلي لمجلس النواب). ثم مسطرة المناقشة، وحسب (المادة 182 من النظام الداخلي لمجلس النواب) تمر هذه المسطرة بدورها من أربعة إجراءات جد دقيقة، أولها جلسة تقديم النص التشريعي، ثانيها جلسة المناقشات (المناقشة العامة والمناقشة التفصيلية)، ثالثها جلسة التعديلات، ورابعها عملية التصويت. أما عملية الآجال المقررة، فقد حدد (النظام الداخلي لمجلس النواب في مادته 183 أجل النظر في النصوص التي تعرض على اللجنة الدائمة المختصة). وفي النهاية تأتي عملية التقارير المنجزة (حسب المادة 184 من النظام الداخلي لمجلس النواب)، تمر هذه العملية من إجراءين أساسيين هما: إعداد التقارير وتوزيع التقارير. بينما المرحلة الثالثة، والتي يطلق عليها مرحلة التقديم للمناقشة في الجلسة العامة، تعرف خطوات رئيسية تتحدد في خمس عمليات. نتحدث هنا عن مسطرة المناقشة، وبدورها تمر بخمسة إجراءات دقيقة وهي: الاستماع؛ طلب الدفع بعدم القبول؛ كلمة المشاركين في المناقشة؛ طلب إرجاء البث وطلب إرجاع النص (من المادة 185 إلى المادة 193 من النظام الداخلي لمجلس النواب). ثم عملية التصويت، بالعودة إلى (مضمون المادة 193 من النظام الداخلي لمجلس النواب) نجد أن هذه العملية تقتضي التصويت على النص بأكمله بعد التصويت على آخر مادة أو آخر مادة إضافية عن طريق التعديل، ثم التصويت على مادة بمثابة نص بأكمله في حالة التصويت على نص بمادة فريدة. تليها عملية عرض التعديلات، والتي تقتضي تقديم التعديلات؛ معارضة التعديلات، والمناقشة والتصويت على هذه التعديلات (كما هو منصوص في المادة 194، 195 و196 من النظام الداخلي لمجلس النواب). وبعدها تأتي عملية طلب المناقشة الثانية. ويقتضي إقرار هذا الطلب ما يلي: – أن يتقدم بالطلب الحكومة أو اللجنة المعنية أو رئيس فريق أو عشر أعضاء المجلس. – أن يتقدم بالطلب قبل شروع المجلس في التصويت على مجموع مشاريع أو مقترحات القوانين. – إرجاع النص موضوع المناقشة الثانية إلى اللجنة المختصة لإعداد وتقييم تقرير جديد. وذلك حسب نص (المادة 197 من النظام الداخلي لمجلس النواب). وأخيراً، تأتي عملية طلب إعادة القراءة، ولقد نظمت (المادة 204، 205 و206 من النظام الداخلي لمجلس النواب) هذه العملية تطبيقا للفصل 95 من دستور 2011. أما المرحلة الرابعة، والتي تسمى بمرحلة طلب المصادقة المختصرة في ندوة الرؤساء، فهي تعرف أربع خطوات رئيسية: بداية بعملية طلب اعتماد أسلوب المصادقة المختصر، وقد نظمت (المادة 198 من النظام الداخلي لمجلس النواب) الشروط التي يكون بها هذا الأسلوب مقبولاً. أما عن عملية النشر، التوزيع والإشعار بطلب المصادقة المختصر، فحسب (المادة 199 من النظام الداخلي لمجلس النواب)، يكون الطلب موضوع: – إعلان ونشر ثم توزيع على النواب. – إشعار الحكومة به. – مناقشة وتوزيع التقرير الخاص به بعد 3 أيام على الأقل من تاريخ الإخبار به. – مخالف للمبادرات المتعلقة بملتمسات الإرجاع إلى اللجنة أو تأجيل البث أو عدم المناقشة. ثم تأتي عملية الاعتراض على أسلوب المصادقة المختصر، والذي نظمته كل من (المادة 200 و201 من النظام الداخلي لمجلس النواب). لتأتي بعد ذلك العملية النهائية في هذه المرحلة، وهي عملية تتعلق أساساً بمسطرة أسلوب المصادقة المختصرة، إذ تقوم مسطرة مناقشة النصوص المعتمدة بخصوصها بهذا الأسلوب على عناصر حددتها كل من (المادة 202 و203 من النظام الداخلي لمجلس النواب). بعد تحديد هذه المراحل، يتبين أن العملية التي يمر منها سن التشريع (القوانين) عملية ليست سهلة نهائياً، إذ تسلك مساراً تكتنفه عمليات دقيقة ومحددة، تجعل من المؤسسة التشريعية (وتحديداً مجلس النواب) عنصراً جوهرياً في عملية صياغة وصناعة التشريع بالمغرب.