تصدير: استغرب بعض النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي من أسئلة امتحان نيل شهادة الدروس الابتدائية لدورة يوليوز 2024 بمدارس الريادة، وأكدوا على تواضعها، وعلى أنها لا ترقى إلى قيمة الشهادة السالف ذكرها. وأضافوا أن مثل تلك الامتحانات تطرح في فروض المستوى الثالث ابتدائي في المدارس العادية، أي (غير الرائدة). ومن جهة أخرى، اعترف بعض أساتذة السادس ابتدائي (مدارس عادية) في المحيط القريب من مكان اشتغالي بصعوبة امتحان هذه الدورة على تلاميذتهم، خاصة في مادتي الرياضيات والفرنسية، بينما كانت أسئلة امتحان اللغة العربية والتربية الإسلامية في المتناول، على حد تعبيرهم. لا بد من التذكير أن هذا الإصلاح بعيد المدى له آثار متدرجة عبر الزمن كما حددته خارطة الطريق (2022- 2026): موسم 2022-2023: المؤشرات الأولية موسم 2024- 2025: تحقيق التغيير المنشود موسم 2026- 2027: تعميم التغيير. هذا يعنى أننا في منتصف الإصلاح، وتأكدت لدى الوزارة نجاعة الإجراءات التي اتخذت لتحقيق من خلال المؤشرات الأولية، والحكم على هذا الإصلاح بالنجاح أو الفشل لا يزال مبكرا، إلا أنه لا بد أن نناقش ما تم إحداثه حتى الآن. وبناء على ما سلف، نطرح الإشكالات التالية: هل نحن أولا في حاجة إلى إصلاح جديد لتعليمنا بعد مخطط الرؤية الاستراتيجية 2015- 2030؟ وهل عمد فعلا أهل مدارس الريادة إلى تبسيط أسئلة الامتحان لرفع معدل النجاح، ومن ثم مباركة -بشكل غير مباشر- خارطة الطريق 2022 – 2026 التي أتى بها الوزير بنموسى كما يدعي بعض النشطاء الاجتماعيين؟ ألا يعكس امتحان المدارس الرائدة المستوى الحقيقي لكل تلامذتنا بالمدرسة العمومية؟ ملاحظات أولية: توجيه: سنشير إلى المدرسة غير الرائدة في دراستنا ب"المدرسة العادية". كواليس إعداد امتحان نيل شهادة الدروس الابتدائية: يقوم أساتذة المستوى السادس في كل مدرسة، أو مجموعة مدرسية بإعداد نماذج امتحان في المواد التي يدرسونها، وترسل بعد ذلك إلى المفتش التربوي المسؤول عن تلك المنطقة، فيراجعها ويختار بعضا منها، ويرسلها إلى المديرية الإقليمية التي بدورها تحيلها على لجنة خاصة تختار منها نموذجين مرفقين بشبكتي التصحيح، أحدهما يعتمد رسميا والآخر احتياطيا، كما نص على ذلك المنهاج المدرسي. ويلزم المنهاج آل التربية والتعليم التزام الموضوعية والإنصاف في التقويمات. جاء في الالتزام الثالث من خارطة الطريق 22-26 أن نظام المراقبة المستمرة والامتحانات غير مبني على أساس الكفايات المراد اكتسابها، ولا يسمح بقياس موضوعي لمستوى التعلمات الحقيقي لدى التلاميذ.. وسيتم تقييم مستوى تعلمات التلاميذ بكيفية موضوعية مع نهاية كل سنة دراسية "دفتر تتبع الكفايات" (Carnet de suivi des compétences)، من خلال إحداث مرصد لقياس التعلمات. ارتفع عدد مدارس الريادة في المغرب إلى أكثر من 600 مدرسة، وتعتمد هذه المدارس ما يعرف بمقاربة "Tarl" (Teaching at the Right Level) أي التعليم وفق المستوى المناسب، وهي طريقة اعتمدت في بعض المدارس الهندية، وأصبحت شريكة منظمة اليونسكو "UNESCO" في توفير تعليم للجميع، خاصة في المناطق التي تعرف حروبا ونزاعات مسلحة، والمناطق الأكثر فقرا وهشاشة في العالم، وتذكرني بالتعليم العتيق الذي كنا نتلقاه في "المسيد" سابقا؛ حيث كان (الطُولْبة، أي الطلبة) من مختلف الأعمار والمستويات يجلسون في شكل دائري إلى الفقيه، ويقوم الطالب الأكبر سنا ومستوى بتحفيظ وتكتيب (أي يُحفِظُه القرآن ويُعلِمُه الكتابة ورسم الحروف) الطالب الأصغر منه عمرا ومعرفة فيما يمكن تسميته حاليا بيداغوجيا التعلم بالقرين. تشترط مدارس الريادة العمل بالأستاذ المتخصص، وهو رهان -على عظيم قيمته- يصعب تحقيقه كلية لحد الآن نظرا لمجوعة من الإكراهات مرتبطة بطبيعة تخصص المدرسين في المستوى الابتدائي بطبيعة المواد المدرسة. كما أنه حتى التعليم بالمستوى المناسب يصعب تحقيقه حاليا في بعض الجهات، كما هو الحال في إقليمتاونات مثلا؛ حيث اكتفى بعض مدرسي هذا الإقليم بتطبيق مقاربة "TARL" لدعم المتعثرين لمدة شهر على الأقل، وانتقلوا بعد ذلك إلى التعليم الصريح ليعود كل متعلم إلى قسمه العادي المسجل فيه، وليس قسمه الحقيقي حسب مستواه. أما في ما يخص محتوى المقررات المدرسية، فتم تغيير النصوص التي كانت متواجدة بالكتاب المدرسي بنصوص أخرى سعت إلى تبسيط الفهم، وطبعها بعض التسرع، فأغفلت الجوانب الجمالية ما جعلها تبدو جافة لا طعم ولا رائحة لها. وهنا يكمن خطر قتل الذوق الجمالي والإبداعي عند المتعلم، وهذا ما اتضح من خلال ما يشتكي منه الكثير من الأساتذة الزملاء الذين يشتغلون بمدارس الريادة. قراءة في بعض أسئلة امتحان نيل شهادة الدروس الابتدائية: بالنسبة لمدارس الريادة، تم اعتماد امتحان وطني موحد، بينما في المدارس العادية اعتمد امتحان إقليمي خاص بكل إقليم على حدة. – أولا مادة الرياضيات: المدرسة الرائدة: تضمن الامتحان 13 سؤالا مرتبطا بمقابلات المفاهيم باللغة الفرنسية، ووضع وإنجاز العمليات الأربع، وحل مسألة (الأسئلة رقم 3-7- 9 -16-10)، وتوحيد واختزال مقامات الأعداد الكسرية، وترتيب الأعداد الصحيحة والعشرية، والنسبة المئوية، وأنشطة هندسية (الأسئلة رقم 11-12- 13- 14- 15). ملاحظات: أولا، خصص السؤال الأول للترجمة من خلال ربط بعض المفاهيم العربية بمقابلاتها في اللغة الفرنسية في إطار التناوب اللغوي وفرنسة العلوم، وهو على عكس ما عهد في أعراف هذه الامتحانات (يخصص السؤال الأول عادة للعمليات الأربع: الجمع والطرح والضرب والقسمة)، وخصصت له نقطتين. ثانيا، بالنسبة للعمليات الأربع في المدرسة الرائدة، تم اعتماد أربع عمليات منفصلة تضمنت أعدادا صحيحة وأعدادا عشرية، فتم التفريق بين عمليتي الجمع والطرح على سبيل المثال (A: 109.51+ 2.809) (B: 321.65-12) عكس نفس السؤال في المدرسة "العادية"، الذي دمج بين عمليتي الجمع والطرح؛ إذ يتوجب على المتعلم حل عملية الجمع أولا ثم يطرح من النتيجة المحصل عليها عددا آخر (8246.07+58409.43)- 64631.43) وهذا يعرض المتعلم للخطأ في العمليتين معا إذا لم ينجح في حل عملية الجمع أولا بشكل صحيح. ثالثا، بالنسبة لحل المسائل، لوحظ أن معظم الأسئلة (3-7-9-10-16) في المدرسة الرائدة تطبعها البساطة؛ لنأخذ على سبيل المثال هذه المسألة ونقارنها بمسألة أخرى في المدرسة "العادية": 10- أحل المسألة: إذا كان ثمن بيع كيلوغرامين من فاكهة الإجاص 27 درهما. فما هو ثمن 3kg من الإجاص؟ مسألة بالمدرسة العادية: تمثل الصورة جانبه تصميما لملعب رياضي بمدرستك، صمم بسلم 1/1000، إذا علمت أن طوله على التصميم L= 4.5 cm وعرضه L= 2.5 cm أوجد (ي) البعدين الحقيقين للملعب ب: m ب- احسب (ي) محيط الملعب الحقيقي ب: m ينجلي الفرق إذا بين المسألتين، فالأولى تتطلب من المتعلم القيام بعمليات (ضرب، قسمة أو طرح) بسيطة للوصول إلى الجواب، بينما المسألة الثانية يتطلب حلها القيام بمجموعة من العمليات الذهنية أولا لتمييز أبعاد التصميم الحقيقية من أبعاده على السلم، ثم القيام بعمليات وتحويلات من cm إلىm ، وما يفرضه على المتعلم من استحضار العلاقات بين الأطوال من خلال جدول التحويلات... لا يختلف اثنان، إذن، في كون أسئلة امتحان نيل شهادة الدروس الابتدائية بالمدارس الرائدة اتسم بالتبسيط عطفا على المستوى الحقيقي للمتعلم، بينما كان الامتحان بباقي المدارس على عادته، موجها لأنجب المتعلمين والمتعلمات، وفارضا على باقي المتعلمين تطوير مستواهم المعرفي والمهاري والحركي لتجاوز اختباراته بنجاح. بالنسبة لامتحان مادة اللغة الفرنسية بالمدرسة الرائدة، فقد تضمن ثلاثة مجالات كبرى، وهي: فهم المكتوب Compréhension de l écrit، (خصص له تسعة أسئلة، توزعت بين صل الكلمات بصورتها، ورتب الصور حسب تسلسل القصة، ودوِر على الجواب الصحيح من بين أربعة اختيارات، وخصصت الأسئلة 7 و8 و9 للإجابة من النص عن بعض الأسئلة لإعطاء المتعلم هامشا ضئيلا ليقود، ويبحث بنفسه في النص عن الجواب الملائم) وأدوات اللغة "Outils de langues"، والإنتاج الكتابي "Production de l'écrit"، إذ تم الاستغناء عن الظواهر اللغوية من نحو، وصرف، وإملاء، ومعجم (Grammaire, Conjugaison, Orthographe et Lexiques)، والتركيز على أسئلة إملاء الفراغ، وترتيب الكلمات للحصول على جمل مفيدة مع الاستعانة بالصور البصرية.. ففي الواقع، ونظرا للصعوبات الكبيرة التي يجدها التلاميذ في هذه المادة، حبذا لو تم تبسيط أسئلة الامتحان في المدارس العادية أيضا، كما هو الحال في المدارس الرائدة لقياس المستوى الحقيقي للمتعلم خلاصات وتوصيات: – تم بالفعل تبسيط الامتحان بالمدارس الرائدة إلى ما يوافق المستوى الثالث أو الرابع ابتدائي في المدارس العادية، ليكون في متناول المترشحين والمترشحات عطفا على ما تعلموه طيلة الموسم. – تم الاستغناء عن الظواهر اللغوية من نحو وصرف وإملاء ومعجم، واكتفِيَ بتمريرها بشكل ضمني (Implicite)، وهو نفسه ما يدرس في المستوى الثالث بالمدارس العادية. – يتوجب على الوزارة فتح إعداديات وثانويات رائدة لضمان استمرارية هذه التعلمات، وحتى لا يصدم من نجح وغير سلكه بتعلمات أخرى من عالم آخر؛ بمعنى هؤلاء الذين نجحوا في امتحان المستوى السادس بمعارف المستوى الثالث ابتدائي، يجب أن يدرسوا في العام الأول من التعليم الإعدادي دروس المستوى الرابع أو الخامس على الأقل ابتدائي؟؟ لأن غير ذلك سيزيد من تعميق الفجوات بين المتعلمين القادمين من المدارس الرائدة وأولئك القادمين من المدارس الأخرى، ويحدث المزيد من التخبط والارتباك. – الاعتماد على هذا النوع من التقويمات قد يحد من قدرات المتعلمين التعبيرية والتحليلية والاستراتيجية، وما علينا سوى الانتظار لمعرفة مآل مرصد التقويمات الذي تحدثت عنه خارطة الطريق السالفة الذكر، وإلغاء الامتحانات الإشهادية الحالية سواء بالتعليم الابتدائي أو بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي. – يجب الاستفادة من كم الإصلاحات السابقة والتي لم تحقق المرامي الكبرى لتعليمنا، ولا يجب التركيز على مقاربة طارل "Tarl" كأنها عصا سحرية ستنقذ تعليمنا بين عشية وضحاها، بل يجب الحرص على تنزيل الالتزامات الاثنتا عشر كلية التي تحدثت عنها خارطة الطريق، بما فيها من تحفيزات سواء للمتعلم أو للمدرس لخلق جاذبية أكبر لقطاع التعليم، مع تصفية وتلطيف الأجواء بين الوزارة وأسرة التدريس، لأن أي إصلاح بدون انخراط الجميع فيه انخراطا حقيقيا مصيره الفشل، وهذا ما لا نتمناه لتعليمنا، فيكفي ما ضيعناه من وقت حتى الآن في مخططات إصلاحية فاشة، وسنة 2030 (نهاية الرؤية الاستراتيجية) ليست ببعيدة. – يجب القيام بتقييم حقيقي لمدارس الريادة قصد تجاوز الهفوات السابقة بسرعة ربحا للوقت. كما أنه لا يجب الهرولة إلى التعليم الرقمي بدون التسلح بمضادات مبدئية تحمي لنا الهوية المغربية بكل تلاوينها وأطيافها الثقافية المتعددة، فالعالم الآن يسير نحو الإنسان/ الألة، وأصبح تائها وسط غياهب الذكاء الاصطناعي الذي عَوْلمَ كل شيء، وقتل الروح الإبداعية في الإنسان رغم حجم الإيجابيات التي أتى بها للعالم.