إنَّه سؤال الماهية، المرتبط حقيقةً بمجملِ اختياراتي في هذه الحياة. لذلك، فلحظةُ الترجمة التي أدركتُها وبلغتُها خلال مرحلة من مراحل تطور ممكناتي، وجوديا أولا وأخيرا، موصولة أساسا بأفق من هذا القبيل. هكذا، صارت الترجمة، في الحدود المتواضعة التي اختبرتُها غاية الآن، جزءا من تحقّق كينونتي على نحو مختلف، بحيث أسعى ثانيةَ إلى ملامسة كنه هويتي، بكيفيات متعددة وبأصوات مغايرة: فالقراءة هوية، ومحاورة النص هوية، والترجمة باعتبارها كتابةً ثانية هوية. بالتالي، يتحقق عن طريق الترجمة تبلور صحيّ وملائم كي أضفي حيوات عدَّة على وجودي، وأستمر حيّا، أتجاوز سطوة الحياة الواحدة -أي الموت- بكل تفاصيلها. أعتقد، أنَّ الترجمة والقراءة والكتابة، من ثمَّة السعي إلى تحقيق أكثر من حياة واحدة، تظل ضمن مشروعي الحياتي، معادلة واحدة، ألاحق من خلالها أسباب سموِّ ذاتي، بحيث أحاورني باستمرار كي أفهمني وأستوعبني وأستحق وجودي ثم أهزم ممكنات العدم بفضل الترجمة، وفق حلقاتها المتكاملة، القراءة الشغف، إعادة الكتابة أو الانبعاث غير ما مرة بفضل محاورة النصوص، يعني اللا- موت والسرمدية في نهاية المطاف. أساسا من خلال الموضوعات العميقة التي تناقش قضايا محورية، بخصوص الارتقاء بالإنسان ومعه المنظومات المجتمعية، شرط ابتعادها عن مختلف أشكال الدوغماطيقية، العقائدية، الشعبوية، الديماغوجية، وبثِّ النَّعرات العدائية... إلخ. موضوعات من هذا القبيل لا أدنو منها بتاتا، بحيث تثير قبل أن تبدأ امتعاضي الكلي وأعتبرها وباء فتَّاكا، لأنها تحوي سموما إيديولوجية، مدمِّرة تدميرا جوهريا. مقابل ذلك، أنكبُّ انكبابا على الموضوعات التي تصبو نحو المعرفة البنّاءة والسمو الوجودي وكذا الحرية والتحرُّر والتسامح. لقد اشتغلتُ دائما، من خلال مكوِّنات المتن المنجز غاية الآن منذ بداية التسعينات، ما يقارب ثلاثين كتابا ومئات المقالات، احتواها عنوان الرابط التالي (http://saidboukhlet.com)، على موضوعات من هذا القبيل، وتندرج ضمن مقوِّمات السياق المتوخى مجمل الحوارات التي ترجمتها طيلة سنوات، ضمتها هياكل كتب جامعة خرجت فعلا إلى القارئ بفضل تفاعل "دار عالم الكتب الحديث" الأردنية وكذا "خيال للنشر والترجمة" الجزائرية. ملاذ القراءة اللذيذ، منذ أولى سنوات طفولتي. الكتابة بداية التسعينات؛ تحديدا سنة 1991، بحيث نشرت أول مقالة تحت عنوان "بيان الذات"، ضمن عناوين منبر ثقافي أسبوعي. أما الترجمة، مثلما أذكر فتعود بدايتها إلى سنة 1998، من خلال اشتغالي الصعب والعويص على مقالة لغاستون باشلار حول الصورة الأدبية. كتبتها بخطِّ اليد، لأنه وقتها لم تتكرس بعد المنظومة الرقمية، ثم طويتها داخل ظرف وأسرعت صوب رميها داخل صندوق بريدي، كي تأخذ طريقها وجهة مدينة الرباط حيث عنوان مجلة: "فكر ونقد" الصادرة آنذاك حديثا، بمبادرة من الفيلسوف المغربي والعربي محمد عابد الجابري، وتوقفت مع الأسف الشديد لدواعي مالية سنوات قليلة قبل رحيله يوم 4 ماي 2010. حقيقة، لم أتوقَّع قط، صدور تلك المقالة بين طيات المجلة المميَّزة، وقد أبانت خلال أعدادها الأولى، عندما اكتشفتها صدفة معروضة في أكشاك مراكش، واستمرت هويَّتها تلك على امتداد طيلة سنوات حياتها، عن جدِّية علمية أكاديمية واشتغال رصين على ميادين العلوم الإنسانية، ترجمة وتأليفا. هكذا، تحفَّزت تحفيزا، واعتبرت الأمر إقرارا إيجابيا بكيفية ضمنية، فانطلقت بهمَّة ونشاط، وبدأت أترجم مقالات حول موضوعات مختلفة أساسا سياسية وفلسفية .سنة 2005، وضعت بين أيادي القراء، أول كتاب مترجم تحت عنوان: "غاستون باشلار: نحو أفق للحلم". "دار أبي رقراق للنشر" الرباط (2005). ثم، تواصلت العناوين. بالفعل، تعتبر لحظة بداية اشتغالي على أطروحة الدكتوراه داخل أسوار كلية الآداب بمراكش من خلال موضوع شعرية العناصر الكونية الأربعة عند باشلار، الماء، النار، الأرض، الهواء، وكذا مستويات أبعادها البلاغية ارتباطا بمجازات مجموعة من الشعراء، انطلاقة عملية لأولى دروس تمرُّسي على فعل الترجمة. وقد تشجعت أكثر، نتيجة تبلور ملامح إحساس صار يرافقني منذئذ، مفاده أنَّ تراث باشلار هائل حقا، لكنه لم ينل في الترجمات العربية المتداولة حظه الجدير به، مما يستدعي مجهودا كبيرا وربما أيضا تخصصا رياديا، فلماذا لا أكون أنا أحد المهتمين الفعليين بهذا المجال البحثي العميق. لقد آمنت دائما بوازع الرغبة والشغف ثم الحبّ، بحيث لا يمكننا مصاحبة سوى الأمور التي نعشقها حقا، غير ذلك يغدو الوضع وجعا قاتلا، وموتا ثقيلا غير شعرية صمت الموت في أفق ذاك الصمت السرمدي المتوخَّى. لذلك لم أكتب في يوم من الأيام، ترجمة أو غيرها من أجل تعويض مادي، أو تملُّق أو تزلُّف أو لحاجة أخرى في نفس يعقوب، غير جوهر الكتابة. النتيجة، يعكس كل منجزي هويتي الحقيقية، ككائن يعشق حريته أولا وأخيرا. أن أكون حرّا في هذه الحياة، ساعيا إلى التخلُّص من مختلف القيود التي يمكنها في لحظة معينة إرغامي بشكل من الأشكال على خيانة هذا السعي الأصيل. لذلك، جلّ حيثيات الأجناس الواردة في سيرتي: الترجمة، المقالة السياسية، السرد، القراءة النقدية. أقول، تعبِّر صدقا عن دواخلي، تمثلني كلِّية، وقد كشفتُ عن مضامينها عبر وازع الحبِّ، الشغف، ثم الرهان المعرفي الخالص. والحالة تلك، سيلاحظ القارئ الوفيّ، أنَّ الإطار العام لمجال اهتمامي، ينتمي بالدرجة الأولى إلى رمزية الأموات، باعتبارهم أفضل أصدقائي الملهِمين، في مقدمتهم طبعا، معلِّمي وأبي الروحي باشلار، الذي عشقت نصوصه منذ أول اتصال، وعلَّمتني حقيقة كثيرا من الدروس الإيتيقية، كي أفهم باستمرار ذاتي والعالم والآخر. إذن، لا أستحضر بهذا الخصوص دوافع أخرى غير ما أشرت إليه، وفضلت دائما عدم الامتثال لوصايا الناشرين والتجمعات الثقافية والانتماءات المؤسساتية. عموما، لأني أستمتع، أتطهَّر، أتسامى، أتوخى في نهاية المطاف بلورة مشروع وجودي يليق بي. غير هذا، يبقى مجرد لواحق ثانوية لا تهمني، أو على الأقل لا أضعها ضمن طليعة هواجسي. الأساسي، تطوير ملكاتي الذاتية والتحرُّر من بنياتي النفسية المترهِّلة، وبلوغ مراتب متطورة أكثر فأكثر على مستوى تكويني المعرفي. جراء مختلف تلك الثوابت، لا ألاحق شخصا مانحا أو مؤسَّسة مكتفيا تمام الاكتفاء بعالمي الخاص، متوخيا التركيز على المشاريع التي وضعتها لنفسي، منذ إيماني بهذا الطريق كاختيار نهائي لمروري من هذه الحياة.