لعل المنع الذي طال الوقفة الوطنية الثانية لجمعية نادي قضاة المغرب أمام مقر وزارة العدل والحريات يفتح الباب واسعا لنقاش عميق حول مكانة القضاء في بلادنا ومدى هامش الحرية الذي يتمتع به أفراد المجتمع في التعبير عن آرائهم وأفكارهم، ذلك أنه إذا كان منع مختلف الشرائح من التظاهر قد يكون عاديا في أعين المواطنين نظرا لأنهم اعتادوا على ذلك رغم أنه يمثل خرقا لحق من حقوقهم، فإن الوقوف في وجه حماة العدالة والحقوق وحشد مختلف العناصر الأمنية للحيلولة بينهم وبين مقر وزارة العدل يعتبر سابقة تستحق التأمل والاعتبار. ومهما كانت أسباب المنع المعلنة وغير المعلنة فإن الأمر يستدعي التفكير مليا في العلاقة الرابطة بين السلط الثلاث: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وهل كانت هاته العلاقة متكافئة وأفقية أم إن السلطة القضائية لا زالت تابعة للسلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل والحريات. إن مما لا شك فيه هو أن السلطة القضائية في بلادنا لا زالت ضعيفة إلى أبعد الحدود مقارنة مع السلطتين الأخريين، ذلك أنه إذا كان أعضاء السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية يتمتعون، حسب الظاهر على الأقل، بامتيازات كبيرة، وإمكانيات مهمة ومكافآت في الحل والترحال، فإن أعضاء السلطة القضائية لا زال البعض ينظر إليهم على أنهم موظفون تابعون لوزارة العدل يأتمرون بأوامرها وينتهون بنواهيها، بدليل أن المواطنين حين يستنفدون كافة طرق الطعن في حكم من الأحكام ويظنون أن حقوقهم قد هضمت، فإنهم يراسلون وزير العدل لإنصافهم والتدخل من أجل فتح تحقيق في مجريات الملف، كأن حكم القاضي لا يكتسب قوة الشيء المقضي به من ذاته، باعتباره صادرا باسم جلالة الملك وطبقا لقانون، بل من مباركة السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل والحريات. وهذا المنع الذي طال وقفة القضاة يمكن اعتباره مؤشرا ملموسا على عدم التوازن بين السلطات الثلاث، كما أن الأعذار التي قدمها المانعون، سواء القانونية أو غيرها، لا يمكن أن تكون مبررا للمنع وبالطريقة التي تم بها، فإن كان المنع قد تم بسبب عدم قانونية التظاهر بالبذل، فإنه كان لا زما اقتصار المنع على ارتداء البذل لا على الوقفة ذاتها، أما إن كان المنع قد تم بسبب مساس وقفة القضاة بسمعة البلاد فإن منعهم من التظاهر أشد وطئا لأنه يفرغ مقتضيات الدستور من محتواه باعتباره يكفل حرية التعبير. ونخشى أن يكون المنع لأسباب أخرى لا علاقة لها لا بالقانون ولا بسمعة البلاد، وهو الأمر الذي قد يرجحه البعض نظرا لما بين وزارة العدل ونادي القضاة من شد الحبل منذ تأسيس هذا الأخير، حيث لا زال هناك صراع بين أطروحتين لإصلاح منظومة العدالة، إحداهما تدعو إلى الإصلاح العميق والحقيقي للمنظومة عن طريق الاستقلال الفعلي والحقيقي للقضاء مع إعطاء السلطة القضائية مكانة موازية للسلطتين الأخريين، والثانية تسعى إلى إصلاح منظومة العدالة بمنظورها دون الاستجابة لكافة تطلعات القضاة متذرعة بعوامل مادية وأخرى تتعلق بالموارد البشرية. ومهما يكن من أمر فإن تاريخ 8 فبراير 2014 أبرز بشكل واضح أن أي فئة من فئات الشعب المغربي يمكن أن يغلق الباب في وجهها؛ فإذا حُشدت الحشود في وجه رجال القانون، وتم منع نخبة المجتمع وتجرأت السلطة التنفيذية على الوقوف في وجه حماة العدالة والحقوق، وتم المس بمكانة مَن يقدرهم الناس، وتشرئب أعناق المواطنين إلى حماهم لنيل حقوقهم والتخلص مما قد ينالهم من ظلم واضطهاد، ولا زال المغاربة يقدرونهم لِمَا حملهم الله من أمانة، ولما في قلوبهم من تقدير وإجلال لمهنة القضاء عبر التاريخ، فماذا عن المواطن البسيط الذي ليس له إلمام بالقانون ولا ينتمي إلى فئة اجتماعية راقية ومثقفة وخبيرة بدروب القانون. نتمنى أن يتم إعادة النظر في التعامل مع كافة المطالب بالحسنى والهدوء، لأن سير الأمور على هذا المنوال لا يستبعد أن يخلق حالة من السخط والغضب لدى القضاة، علما أن القاضي لا يجوز له أن يحكم وهو غضبان أو جوعان، لما لذلك من تأثير على مردوديته وحياده. وعلى الله قصد السبيل.