عجلة التاريخ تدور دون توقف، لا يهمها من نجح في مجاراة وتيرتها، ومن بقي وحده في محطة من محطات الماضي بعدما فاته قطار الحاضر والمستقبل. بالنسبة إلينا في المغرب، فقد حققنا معجزة تمثلت في توهم البعض أن هذه العجلة توقفت فعلاً في لحظة معينة، وأن التاريخ سلمنا زمامه فأصبح يتحرك في الوجهة التي نريدها.. إننا في وضع "فلاش باك" مستمر منذ أكثر من عقد من الزمن، حيث لا حديث إلا عن الماضي ورصاصه وسواده، في الوقت الذي يفترض فيه أن المغرب بلد شاب ينبغي أن يعيش حاضره ويتطلع لبناء مستقبله. تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) مذمومة حتى في السينما والسرد الروائي لأنها دليل عجز وضعف وقصور عن الإبداع، فما بالك حين يكون موضوعها حياة وواقع ملايين البشر. في السنوات التي تلت الاستقلال عرف المغرب مخاضاً عسيراً بين توجهات فكرية وسياسية، بلغ الصراع بينها حد الاقتتال. "" وهو وضع كان مبرراً ومشاهداً في جميع الدول المستقلة حينها، لأن تصادم التوجهات أدى في الغالب إلى تبادل إطلاق النار حتى بين من كانوا في وضع رفاق الدرب والكفاح أمام العدو المشترك. وإلى حدود التسعينات ظل هناك سجال سياسي لم يفتر، وقاد من ضمن ما قاد إليه إلى التناوب التوافقي، الذي عكس ما كان متوقعاً، أدى إلى الجمود وإلى ما نحن عليه الآن من "نهاية التاريخ". ليست حسرة على الماضي بخيره وشره، ولكنها مجرد أسئلة تفرض نفسها عن مغرب أضاع الاتجاه، وأصبح هجيناً بلا لون ولا طعم ولا رائحة، لأن مفهومنا الوحيد للانفتاح هو الذوبان، وفي أحسن الأحوال الحربائية، أي التلون بلون المرحلة حتى لو لم نشارك في صناعتها أو ليس لنا أصلاً مكان فيها. حين تبحث عمن كان يصنع الحدث قبل نصف قرن من الآن، تجد أسماء لها وزن في عالم النضال السياسي الحقيقي، فلا عجب أن يُذهب رجال من مستوى بنبركة النوم من عيون الماسكين والمتمسكين بالسلطة. ولا عجب أن يكون في المقلب الآخر رجال من طينة عباس لمساعدي الذي كانت له ولفريقه رؤية مغايرة لحاضرهم الذي هو ماضينا، ولمستقبلهم الذي هو حاضرنا. بين المهدي وعباس هناك مئات الأسماء التي لم تكن تنحني أمام أي شيء، وتواجه العواصف بثبات وشموخ على طريقة الراحل عرفات "يا جبل ما يهزك ريح". لكن حين تفتح صحف اليوم تجد أن من يصنع الحدث أشخاص مثل بركاشي، الذي لم يعرف استعمال ما وضعته الطبيعة بين رجليه، وعجز عن استبداله في "السوبير مارشي" القريب من منزل والديه "المتفهمين" لاختياره، فقرر أن يعيش حياته ك"أنثى" ضد الطبيعة وأحكامها. ما يغيب عن الأذهان حين يتم التطرق لموضوع الشذوذ في المغرب، هو أن الأمر لا يقتصر على ممارسة جنسية مرَضية، بل على فلسفة حياة، يتنازل بمقتضاها البعض عن "ذكورتهم"، ويفضلون أن يعاملوا ك"إناث"..في زمن أصبح فيه للأنثى شأن عظيم -على الأقل إذا صدقنا الشهادات التي توزع يميناً وشمالاً على مدونة العهد الجديد-. لقد توقف التاريخ فعلاً، لأنه لم يعد يصنع الحدث في المغرب مناضلون شداد غلاظ، بل مجرد مراهقين اكتشفوا العلاقات الجنسية من الباب الخطإ. فلم تعد البلاغات الرسمية تهدد وتتوعد المعارضين الرافضين لسياسة "النظام"، بل تتوعد فقط من يحتجون على كروموزوم x أوy التي حددت هويتهم الجنسية دون اختيار منهم. وفي المغرب المنفتح والحداثي، مازال الناس يقيدون أولادهم في الأضرحة بحثا عن علاج نفسي، مع أن جلسة واحدة مع طبيب مختص قد تعيد المريض إلى دائرة الأصحاء، لأن كل علته تكمن ربما في أنه لا يجد من يسمع لشكواه. ومازال الناس يرجون البركة من شجر أو حجر، ويطوفون حول ضريح ويتمرغون في ترابه، أملاً في الحصول على وظيفة أو زوج.. وفي هذا المغرب المتضامن، هناك أسر تعيش في الكهوف مثل أجدادنا في العصر الحجري، ومازال المنكوبون جراء غضب الطبيعة، "مخيمين" رغم أنوفهم في الغابات أو في الخيريات والمدارس والكنائس، أو معتصمين أمام الولايات والعمالات والقيادات في انتظار الحصول على صدقة، لأن المرادف الوحيد ل"الحق" في المغرب هو الصدقة. وفي هذا المغرب "العريق" الذي يعتقد بعض أصحاب القرار فيه أنه قوة ديبلوماسية دولية، أصبحنا نتطلع لزيارة خاطفة من "أبو مازن" الذي لم يرث مع مناصب عرفات أياً من قدراته..ونعتبر حضور رئيس دولة إفريقية للتسوق أو العلاج أو لتزويد طائرته بالوقود.. حدثاً "يبرز الدور الفاعل للمغرب في القضايا الإفريقية.." ..مع أنه قد يتم نقل مقر وزارة الخارجية من مبناها الفرعوني الحالي إلى مقر الزاوية التيجانية بجوار مولاي إدريس بفاس..لأن التيجانيين في إفريقيا أصبحوا أكثر مردودية من الديبلوماسيين.. وفي هذا المغرب، "آخر قلاع الوسطية" تقف في الشارع فتستعرض منظمة المؤتمر الإسلامي، لأن تعدد الملل والنحل انعكس على الأزياء، فهناك الأفغان وهناك الباكستان وهناك إيران وهناك السودان وهناك طالبان ..وهلم جراً من الأعراق والجنسيات التي تنتهي كلها ب"ان"!! وفي هذا المغرب الذي واجه الناصرية في أوج مجدها، وصفع البومدينية على خديها، وكفر علماؤه الخميني عندما بدأ في تصدير ثورته، وكاد كاسترو يحلق لحيته حنقاً على تماسكه..أصبح خطاب متشنج لتشافيز يهدد وحدته الترابية، وسفارة محاصرة تهدد وحدته المذهبية.. نتمنى ألا تسلط علينا إيران وكيلها اللبناني، كما فعلت مع مصر، لأنه في أم الدنيا هناك أطر ونخب قبلت أن تلعب دور محامي الشيطان وأدته ببراعة، فمن يا ترى من رجالات الدولة والإعلام عندنا بمقدوره الدخول في ملاسنة مع حسن نصر الله؟ نستحضر بعض السيناريهات الممكنة، فنستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.. في الجهة الأخرى، هناك مغرب آخر يُسمح فيه ب"القفز" إلى باريس لشراء ربطة عنق أو قنينة عطر.. وهناك سيارات كانت حتى وقت قريب حكراً على أثرياء الخليج فأصبحت مطية لأباطرة الحلال والحرام في المغرب..بل هناك مكاتب مسؤولين من الدرجة العاشرة تكلف ما يكفي لتشغيل مجموعة من العاطلين..وهناك أيضاً مغاربة يموتون من الجوع والمرض والبرد... ومع هذا، ورغم كل هذا فالحكومة الموقرة مشغولة بالتأكيد على أن الأزمة الاقتصادية مرت في الأجواء العليا للمغرب وخارج مياهه الإقليمية..ومن كذب هذا فهو عدمي وعميل لأعداء المغرب الذين يحسدوننا فعلاً على حكومة يقودها وزير أول اسمه عباس..لكنه ليس عباس بن مرداس ولا عباس بن فرناس!! *سكرتير تحرير أسبوعية أصداء